عشر سنوات تمرّ اليوم على فضّ بؤرة الإخوان المُسلَّحة فى رابعة العدوية «ميدان الشهيد هشام بركات حاليًا». دفعت الجماعة المشهد إلى الحافة، وراهنت على أثر المواجهة الخشنة فى إخضاع الخصوم، أو ترقية برنامجها الرامى إلى ابتلاع البلد بكامله، وتثبيت حالة الهيمنة بأدوات الحكم أو خارج الدستور والقانون. هل كان يُمكن أن تمضى الأحداث فى اتجاهٍ غير ما آلت إليه؟ واقع اللحظة وقتها، وما تكشّف بعدها، وكل ما يتداعى منذ 2013 حتى الآن، تقطع جميعًا بأن الصدام كان حتميًّا؛ لا لشىء إلا أن مكتب الإرشاد اعتمده خيارًا نهائيًّا لا سبيل لتجاوزه سوى كسر المنافسين؛ بينما لم يكن الشارع الساخن جاهزًا لمضغ حنظل الخسارة، أو مُستعدًّا لعضّ أصابع الندم على إضاعة فرصة الخلاص من سُلطة الأمر الواقع وغطرسة قوّتها المُنفلتة، ولم تكن أجهزة الدولة بوارد النزول عن التزاماتها، أو التسليم بالتحوُّل من هيراركية الحُكم المُنضبط، إلى صيغة العصابة ذات الأذرع الأُخطبوطية العابرة للحدود والمصالح الوطنية.. حتى لو طال صبر المصريين جميعًا أكثر ممّا كان على «بؤرة رابعة» وما فيها من انفلات وفوضى وتحضيرات مُزعجة سياسيًّا وأمنيًّا؛ لم يكن فى الأخير ثمّة بديل عن الذهاب إلى النقطة ذاتها؛ لأن هذا ما أراده الإخوان وسعوا إليه بقصدٍ وشراسة.
كانت تظاهرات 30 يونيو مُجرَّد دعوة، عندما حشدت الجماعة عناصرها من المحافظات وتجمَّعت على مُفترق إشارة رابعة. هكذا لم يكن التحرُّك فى جوهره ردَّ فعلٍ؛ إنما كان فعلاً استباقيًّا يستهدف القمع المعنوى أوّلاً، ومن بعده ترتيب الصفوف والتموضع فى نقطة قريبة من مواقع حسَّاسة، وضمن حاضنة وثيقة فى مدينة نصر، التى يقطنها كثيرون من كوادر التنظيم ويتملَّكون عقاراتٍ بها وتضمّ مكتب نائب المُرشد خيرت الشاطر. غاية الحشد تجلَّت منذ اللحظة الأولى، مع نَصب المنصَّة وتبدُّل رموز التنظيم وحُلفائه من السلفيين والجهاديين وإرهابيى الجماعة الإسلامية، على إعلان رسائل التهديد والوعيد.. كان التحاق العائدين من أفغانستان، ممّن أطلق «مرسى» سراحهم بعفو رئاسى، مع تكفيريين وافدين من سيناء، وظهور أسلحة وتمركزات ميليشياتيَّة، دليلاً على ما يُعدّ وتسعى الجماعة لأن تكون ساحة رابعة ميدانًا له. وعلى مدى 6 أسابيع تالية كانت النغمة الهادئة تتوارى؛ لصالح تضخُّم نبرة العنف، والطابع العسكرى يعلو مع تعدُّد المتاريس والتدريب وطوابير العرض، والحشد يتّخذ طابعًا نظاميًّا تتدفَّق فيه أفواج المحافظات، وتلتزم كلّ شُعبة بجداول رحلات يومية وأسبوعية، وامتدّ الأمر إلى استئجار بعض الأشقياء والمُسجّلين، وتقديم مزايا مالية لآخرين من المُتعاطفين أو فُقراء الأقاليم، وكان السلاح حاضرًا ضمن سياق التعبئة المُتسارع. ما يزال الإخوان يكذبون فى مسألة نواياهم من حالة الجنون الفاضحة فى رابعة، ويدَّعون أنه كان اعتصامًا سلميًّا؛ بينما تُسجّل الوقائع وحقيقة الممارسات رأيًا آخر مُعاكسًا لتلك السرديَّة المُزيَّفة.
تمتلئ المنصَّات الرقمية بمئات المقاطع لمُسلَّحين داخل الاعتصام وعلى أطرافه، ورغم اجتهاد لجان الجماعة فى حذف كثير من المواد؛ ما يزال الأرشيف مُتخمًا بأدلَّة الإدانة. إلى ذلك، كانت هناك اعترافات صريحة؛ لعل أبرزها شهادة أحمد المغير قبل سنوات، وهو أحد المُقرَّبين من الشاطر وابنه سعد، وكان أحد العاملين فى شركات الأسرة وعناصر عصابتها. قال المُجرم الصغير فى نوبة صراحة إن جنبات رابعة كانت مُعبَّأة بأسلحة من كل الأنواع، تكفى لصدِّ الشرطة والجيش معها، بحسب تعبيره، واشتملت بعض تشكيلاتها مثل «سرية طيبة مول» الجهادية على قطعٍ مُتوسّطة أكثر تقدّمًا من البنادق والكلاشينكوف. قُوبل الاعتراف بصدمة إخوانية عارمة، ثم موجة ضغط دفعت «المغير» لحذف المنشور من «فيس بوك»؛ لكن بقيت الوثيقة وأثرها الذى ينسف كل ادِّعاء مكذوب عن السلمية، أو أن الإرهاب والعنف لم يكونا ضمن أهداف الاعتصام المُخطَّطة بعنايةٍ وسبق إصرار، يبدأ من الشاطر ومكتب الإرشاد، ويقتسم جريرته كل حامل سلاح أو مُشارك فى تلك البؤرة، مع علمه بما يجرى داخلها من تحرُّكات وما يُعدّ من جرائم.
حكايات رابعة، وما تضمَّنته تحقيقات القضايا التالية للفضّ، كشفت عن تجاوزات مُورست فيها أعمال عنفٍ وفرض سطوة على مواطنين أوقعهم حظّهم فى نطاق الاعتصام، أو اختُطفوا من خارجه؛ لكن البلطجة لم تنحصر داخل كُتل المعتصمين فقط. بعد خمسة أيام من إعلان القوى الوطنية عن «خارطة الطريق» خرجت كتائب الإخوان بسلاحها لإنفاذ أولى حلقات الخطَّة؛ فهاجموا مقرّ الحرس الجمهورى القريب بدعوى تحرير محمد مرسى، وفى اليوم التالى لتظاهر ملايين المواطنين تفويضًا لوزير الدفاع، المشير السيسى وقتها، من أجل التصدى للإرهاب، نفَّذوا حلقتهم الثانية عند المنصَّة «النصب التذكارى للجندى المجهول» فى طريق النصر. كان مُتوقَّعًا مع كل خطوة أو قرار على طريق التخلُّص من حُكم الجماعة، أن يتتالى الخروج العنيف من حاضنة رابعة؛ لإثارة الفوضى وإراقة الدم، ثمّ العودة للاحتماء داخل مُرتكز التنظيم؛ ليُصبح الاعتصام بذلك قاعدةً مُتقدِّمة يحشد فيها الإخوان عناصر قوَّتهم، ويُرتّبوا صفوفهم، ويُجهِّزوا الميليشيات والأسلحة؛ لتتكرّر المناوشات فى استنزافٍ مفتوح لحالة الأمن العام، وطاقة وقدرات الأجهزة الأمنية.
طوال ستة أسابيع، بين بدء الاعتصام والوصول للفضّ، لم يتوقَّف التفاوض ومحاولات إقناع الجماعة بالعودة إلى الرُّشد السياسى واحترام الإرادة الشعبية، والتخلِّى عن جنون الانتقام وتأجيج الفتنة والدفع لإشعال المشهد العام. لا دلالة على رغبة التوافق الوطنى أكبر من دعوة «الكتاتنى» لمؤتمر 3 يوليو، ثم ترك مقعده فارغًا بعدما رفض الحضور. ولا إدانة للإخوان وذهابهم نحو الصدام، أصدق من أن الدولة تركت الاعتصام 40 يومًا وكانت قادرة على منعه منذ البداية. وطوال تلك الفترة تتابع الوسطاء، وبعضهم من الإسلاميين وشيوخ السلفية وأصدقاء التنظيم؛ لكن صقور مكتب الإرشاد أرادوا الوصول إلى حالة كربلائية مُختلَقة، يشتغلون فيها على حشد المُتطرّفين والسلاح، ومُمارسة الحماقات وصولاً لأقصى درجات التحدِّى والاستفزاز؛ حتى تُوضَع المُؤسَّسات أمام خيارين: التراجع أمام الانفلات والسماح بإنتاج دويلة فى قلب العاصمة، أو الاضطرار لفرض هيبة الدولة والقانون؛ فتبدأ الجماعة حملةً دعائيَّة وتوظيفًا سياسيًّا للحالة بغرض الانتقاص من الثورة وشرعيَّتها.. الدليل الدامغ على ذلك أن المُرشد وكلَّ عصابته وقادة الصفين الأول والثانى غادروا الاعتصام سالمين؛ بعدما استكملوا تأهيل القواعد وشحنوا صدورهم بخطابات العنف والدم.
الخروجات المُتتابعة، بصورتها الدموية، ترافقت مع كل خطوة شعبية أو إجراء رسمى ينتصر للثورة؛ لكنها لم تكن غائبة قبل ذلك أو بعده. تكرَّرت اقتحامات عناصر الإخوان للمساكن فى محيط الاعتصام، وجرت مُناوشات مع المواطنين وعناصر الأمن فى شوارع مدينة نصر، وتمدَّدوا عبر مسيرات وتظاهرات مُوجَّهة صوب العباسية ودار القضاء العالى، وهاجمت إحداها ميدان التحرير فى أحد أيام رمضان.. عقب الفضّ اتَّخذت التحرُّكات بُعدًا أكثر استفزازًا ودموية: هاجموا قسم شرطة كرداسة وقتلوا 12 ضابطًا وفردًا، ثم احتلُّوا مسجد الفتح فى ميدان رمسيس وأطلقوا الرصاص على المارّة والشرطة، وأحرقوا عشرات الكنائس والأبنية الخدمية فى اثنتى عشرة محافظة، وتعدّوا على عدد من الأقسام ومديريات الأمن بامتداد مصر، واتخذوا من منطقة المطرية بؤرة ارتكاز لفوضاهم طوال شهور، ثم كانت موجة الإرهاب الواسعة عبر خلايا خرجت من رابعة إلى المحافظات، كما فى الزقازيق وحلوان وغيرهما، أو ميليشيات تشكَّلت داخل الاعتصام ونشطت بعده انتهائه، مثل مجموعات محمد كمال من اللجان النوعية والحركات المُتفرِّعة عنها.. كانت الحصيلة خلال السنوات التالية مئات الشهداء وآلاف الجرحى، وخسائر اقتصادية ضخمة أرهقت البلد وأربكت الاقتصاد والتنمية، ولعلّ ثِقَل الكُلفة يعود إلى فُسحة التخطيط داخل رابعة، ولو طال الوقت لكانت الفواتير أكبر.
الإدانة ثابتةٌ ولا تقبل شكًّا أو دفاعًا؛ لكن الجماعة منذ 2013 تُناور بمحاولة تحريف الجريمة. بين اعتراف «المغير» بتكديس ترسانة سلاح تصدُّ الجيش والشرطة، ومئات المقاطع لمُسلَّحين يتقافزون فى جنبات الاعتصام مُطلقين الرصاص على كل اتجاه، وبيان الداخلية عن تحريز عشرات القطع الآلية والخرطوش وآلاف الطلقات فى رابعة والنهضة، ناهيك عمّا نجحوا فى تسريبه أو أخفوه داخل عقارات الإخوان المُحيطة. يحاول الإرهابيون وداعموهم الإيحاء بأن كميات التسليح المضبوطة لم تكن تستدعى المواجهة الأمنية الجادة.. الحقيقة أن قطعةً مثل ألف؛ إذ المشكلة فى اختراق النظام العام، وكسر احتكار الدولة للسلاح الشرعى، وتجاوز ذلك إنما هو خروج على القانون والسِّلم المجتمعى، وذهاب مقصود ولا يحتمل اللبس نحو العنف. إن الإرهاب يكفى فيه قبول الفكرة والمبادرة إلى تنفيذها، أما مسائل اللوجستيات فإنها تتبدَّل حسب الظروف، وإذا جمعنا سلاح رابعة إلى غيره فى كرداسة والمطرية وحلوان والمحافظات وعناصر حسم وشبيهاتها، نكون إزاء مُخطَّط واسع المدى، كان الاعتصام قاعدةَ الهرم فيه؛ وكُلَّما سُمِحَ بانفلاته تزايدت فُرص الاستقواء والانخراط فى خروقات دمويّة مُنظَّمة. الذى أدخل قطعة سلاح إلى رابعة كان يُمهِّد الطريق لما هو أكبر، والذى أقرَّ وجودَها والتلويح بها كان جاهزًا لرفع أيّة أسلحة تطولها يده على المصريين جميعًا، وهذا ما حدث بالفعل، وقتها ولاحقًا.
سعت الجماعة إلى زرع بؤرة فوضى، وليس لإرساء منصَّة تعبير عن الرأى. عندما هدَّد عناصر الإخوان وشُركاؤهم الجهاديون بأنهم سيخرجون من الاعتصام لإشعال مصر، وأن السيارات المُفخَّخة ستملأ الشوارع؛ لم يكونوا تحت تأثير الغيظ وأدرينالين الحماسة، بقدر ما كشفوا عن خطّةٍ حقيقية أُعِدَّت سلفًا للعمل ضد البلد بكامله لو خرج عن طوع التنظيم. وعندما قال «البلتاجى» إن ما يحدث فى سيناء سيتوقَّف بمجرد عودة «مرسى» للسلطة، كان يفضح من دون قصدٍ امتدادات جمعت ميليشيات الأطراف ببؤرة العاصمة، بعدما كانت قنواتها مفتوحةً سابقًا على الاتحادية والدائرة اللصيقة للرئيس المعزول.. خروج صفوت حجازى باتجاه ليبيا، ثم ما تكشَّف لاحقًا من مُرتكزات هناك عبر هشام عشماوى ونجل رفاعى سرور وغيرهما، فضلاً على حاضنة عمر البشير جنوبًا وما وفَّرته من مُعسكرات إيواء وتدريب، وخطوط إمداد وتسليح، والجسور الوطيدة مع ميليشيات سوريا وداعميها الإقليميين، والأنشطة الكثيفة والمشبوهة عبر أنفاق قطاع غزة، كلها كانت ترسم أذرعَ الأُخطبوط الذى ارتاح رأسه فى رابعة.. كان هدف الاعتصام أن يُقدِّم واجهةً سياسيّة تُدار من ورائها كل الأجنحة بفوائض تسليحها وإرهابيِّيها، وكانوا يعملون على ذلك بكلِّ السُّبل وأدوات الدعاية والتنسيق؛ ولو تركتهم الدولة على حالهم ما كانوا ليتركوها.
كانت «رابعة» حالةً مصنوعة؛ والاصطناع ينشأ عن أهداف مُعلنةٍ أو مُضمرة. بينما وُلِدَت «30 يونيو» ولادةً طبيعية وفق المنطق السياسى، بمعنى نشوء موضوع النزاع ثم ائتلاف القوى والأفراد عليه حسب مرجعيَّاتهم وأهدافهم، كأنه تطوُّع اختيارى فى نشاطٍ وطنى عام. جاء اعتصام الإخوان باستيلادٍ قسرى؛ إذ كان قرار الحشد سابقًا على الموضوع، وجُمِعَت كُتل البشر بإرادة مركزية وبصيغة التجنيد الإلزامى.. كانت الثورة تحالفًا شعبيًّا ينفذ من اختلالات البيئة الإخوانية، مُستهدفًا إطاحة السلطة المنحرفة وإعادة بنائها على وجهٍ مُنضبط؛ وكان رفض الثورة ناجمًا عن أصوليّة سياسية حوَّلت المُمارسة الديمقراطية إلى آليَّةٍ لتمكين «أهل الحل والعقد» وفق استدعاء فقهى رجعى. تلك المُقابلة قضت بأن يستند رافضو الإخوان إلى حناجرهم ثم قوَّة العمل المُشترك، وأن تركن الجماعة لجسدها التنظيمى وتحالفاتها المصلحية، وقدرتها على تمرير ذلك فى قنوات التعبير عن الحضور بالسطوة والسلاح. يمكن القول إن «بؤرة رابعة» كانت أكبر من ميليشيا وأقل من جيش: الأولى لأنها لمُمارسة القمع خارج الشرعيّة القانونية؛ لكن عبر واجهة سياسية تدَّعى سُلطة الحُكم، والثانية لأنها لم تنضبط بالعقل والمُؤسَّسية واحترام فكرة الدولة، وسمحت بالانفلات أو شجَّعت عليه.. كان المُراد أن تُوضَع المُؤسَّسات الصُّلبة فى ركنٍ ضيِّقٍ ليلتصق ظهرها إلى الحائط؛ فهى إمَّا تُمرِّر مُخطَّط الجماعة لبناء سُلطةٍ مُوازية تدعمها أذرع مُسلَّحة، أو تعتصم بالدستور والإرادة الشعبية وتصون كيان الدولة؛ فيكون الصدام حسبما أراده صقور الإرشاد. إننا ونحن نستعيد الذكرى العاشرة للفضّ؛ لا يجب أن نستهلك طاقتنا فى تفنيد سرديَّة الإخوان المكذوبة، ولا أن ننساق وراء تفريعاتهم المُعتادة لحَرْفِ الوقائع عن سياقاتها. كان اعتصام رابعة بؤرةً إجراميّةً خالصة، رُتِّبت برعاية خارجية ولأغراض سياسية وفوضوية لم تعد محلّ شكّ، وما آلت إليه اللعبة «فوق الوطنية» التى استغرقوا فيها كانت مسؤولية الجماعة وحدها، بالضبط كما كانت وما تزال مسؤولةً عن كل دمٍ أُريق خلال سنة حكمها، وطوال أعوام الإرهاب التالية لثورة 30 يونيو الجليلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة