التاريخ الإسلامى حافل بالعديد من الحكايات والقصص، بعضها يظهر على السطح، ومعظمها يطمر فى النفوس أو يتسرب إلى بطون الكتب على استحياء، والخلافة العباسية التى امتدت فترة طويلة فى التاريخ الزمنى (132 – 923 هجرية) الموافق (750 – 1516) ميلادية، مسكونة بالقصص والحواديت، بالحياة والموت، بالحظوظ الحسنة والحظوظ السيئة، لكن ليس هناك أقسى من حظ "جعفر" ابن الخليفة المنصور، وهى قصة تشبه حكايات ألف ليلة وليلة.
الخليفة المنصور
الخليفة أبو جعفر المنصور، هو عبد الله ابن محمد عاش فى الفترة بين عامى (95 - 158 هجرية) وهو الخليفة الثانى فى الدولة العباسية وتولى الحكم بعد موت أخيه أبو العباس السفاح الذى مات فى سنة 136 هجرية، بينما ظل المنصور قرابة 22 عاما على كرسى الحلافة، خاض خلالها العديد من الحروب وواجه المزيد من الفتن وتعرض لحوادث اغتيال، لكن ليس هناك أغرب من قصة ابنه "جعفر الأصغر".
أبناء أبو جعفر المنصور
عندما نقرأ سيرة أبو جعفر المنصور سنجد أن هناك اثنين من أبنائه يحملان اسم "جعفر"، فحسبما يذكر ابن كثير فى موسوعته الكبرى "أن أبناء المنصور هم: " محمد المهدى وهو ولى عهده، وجعفر الأكبر مات فى حياته، وأمهما أروى بنت منصور.
وعيسى، ويعقوب، وسليمان، وأمهم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله.
وجعفر الأصغر من أم ولد كردية، وصالح المسكين من أم ولد رومية - ويقال لها: قالى الفراشة، والقاسم من أم ولد أيضا، من امرأة من بنى أمية.
الحياة حظوط
بالطبع لم يكن حظ الجعفرين واحدا، فأحدهما عاش فى كنف أبيه كما يقولون، صار أميرا وتولى ولايات وتزوج وأنجب ثم مات فى حياة أبيه، والآخر عاش غريبًا فى الموصل لم يعرف أباه إلا قبل ساعات قليلة من موته غيلة مخنوقا، ودعونا نتتبع حياة الجعفرين.
جعفر الأكبر حياة رغدة وموت مبكر
يقول كتاب "تاريخ بغداد" لـ الخطيب البغدادى" عن جعفر الأكبر هو جعفر الأكبر بن عبد الله المنصور بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، كان يتولى إمارة الموصل، ومات فِى حياة أبيه أبى جعفر المنصور.
وأخبرنا مُحَمَّد بن الحسين بن الفضل القطان عن يعقوب بن سُفْيَان. قَالَ: سنة خمسين ومائة فيها توفى جعفر بن جعفر بمدينة السلام، وصلى عليه أَبُو جعفر ليلا، ودفن فِى مقابر قريش، قُلْتُ: وهو أول من دفن فِى مقابر قريش عَلَى ما ذكر.
أَخْبَرَنِى الحسن بن أبى بكر قَالَ كتب إلى مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عمران الجورى- من شيراز- يذكر أن أحمد بن حمدان بن الخضر أخبرهم قال أخبرنا أَحْمَد بْن يونس الضبى قَالَ حَدَّثَنِى أَبُو حسان الزيادى قَالَ: سنة إحدى وخمسين ومائة فيها مات جعفر بن أبى جعفر المنصور الأكبر فِى صفر.
لو امتدت الحياة بجعفر الأكبر هذا لأصبح الخليفة من بعد أبيه لأنه أكبر أبناء المنصور، لكن موته جعل ولاية العهد تذهب إلى أخيه الأصغر منه محمد المهدى، وللعمل فإن ولاية العهد لها قصة في زمن المنصور، فقد كان أبو العباس السفاح، الخليفة الأول، قد عقد البيعة من بعده لأبي جعفر المنصور ثم لعيسي بن موسى بن محمد ابن أخى السفاح والمنصور، لكن لظروف غير معلومة تنازل عيسى ابن موسى لصالح محمد المهدى، ويقال بأنه أجبر على ذلك.
عاش جعفر الأكبر وأنجب الأميرة زبيدة الزوجة الأشهر للخليفة العباسى هارون الرشيد، كما أنجب عيسى بن جعفر الذى كان نائبا على البصرة في زمن هارون ومات في سنة 193 هجرية.
المهم أن جعفر الأكبر هذا تولى إمارة الموصل فى سنة 145 للهجرة الموافق لـ 762 للميلاد، ولم يعلم أن أخا له يسمى جعفر أيضا كان يعيش في أزقة مدينة الموصل.
جعفر الأصغر. . المغدور
يقول الحافظ بن كثير في كتابه المهم "البداية والنهاية" الجزء العاشر وهو يذكر أحداث سنة "153 هجرية" أن الخليفة أبو جعفر المنصور غضب على كاتبه أبى أيوب الموريانى وسجنه، وسجن أخاه خالداـ وبنى أخيه الأربعة: سعيدا، ومسعودا، ومخلدا، ومحمدا، وطالبهم بالأموال الكثيرة.
وكان سبب ذلك ما ذكره "ابن عساكر" فى ترجمة أبى جعفر المنصور، وهو أنه كان فى زمن شبيبته قد ورد الموصل وهو فقير لا شيء له ولا معه شيء، فأجر نفسه من بعض الملاحين حتى اكتسب شيئا تزوج به امرأة، ثم جعل يعدها ويمنيها أنه من بيت سيصير الملك إليهم سريعا، فاتفق حبلها منه، ثم تطلبه بنو أمية فهرب عنها وتركها حاملا، ووضع عندها رقعة فيها نسبته، وأنه عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس، وأمرها إذا بلغها أمره أن تأتيه، وإذا ولدت غلاما أن تسميه: جعفرا.
فولدت غلاما فسمته: جعفرا، ونشأ الغلام فتعلم الكتابة وغوى العربية والأدب، وأتقن ذلك إتقانا جيدا، ثم آل الأمر إلى بنى العباس، فسألت عن السفاح فإذا هو ليس صاحبها، ثم قام المنصور وصار الولد إلى بغداد فاختلط بكّتاب الرسائل فأعجب به أيوب الموريانى، صاحب ديوان الإنشاء للمنصور، وحظى عنده وقدمه على غيره، فاتفق حضوره معه بين يدى الخليفة، فجعل الخليفة يلاحظه، ثم بعث يوما الخادم ليأتيه بكاتب فدخل ومعه الغلام فكتب بين يدى المنصور كتابا وجعل الخليفة ينظر إليه ويتأمله، ثم سأله عن اسمه فأخبره أنه جعفر، فقال: ابن من؟
فسكت الغلام، فقال: مالك لا تتكلم؟
فقال: يا أمير المؤمنين ! إن من خبرى كيت وكيت.
فتغير وجه الخليفة ثم سأله عن أمه فأخبره، وسأله عن أحوال بلد الموصل فجعل يخبره والغلام يتعجب.
ثم قام إليه الخليفة فاحتضنه، وقال: أنت ابنى.
ثم بعثه بعقد ثمين ومال جزيل وكتاب إلى أمه يعلمها بحقيقة الأمر وحال الولد.
وبعدما سافر الغلام إلى الموصل ليخبر أمه، ظن "أبو أيوب" أنه أفشى شيئا من أسراره إلى الخليفة وفر منه، فبعث فى طلبه رسولا، وقال: حيث وجدته فرده علي.
فسار الرسول فى طلبه فوجده فى بعض المنازل فخنقه وألقاه فى بئر وأخذ ما كان معه فرجع إلى أبى أيوب.
فندم أبو أيوب، وانتظر الخليفة عود ولده إليه واستبطأه وكشف عن خبره، فإذا رسول أبى أيوب قد لحقه وقتله، فحينئذ استحضر أبا أيوب وألزمه بأموال عظيمة، ومازال فى العقوبة حتى أخذ جميع أمواله وحواصله ثم قتله وجعل يقول: هذا قتل حبيبي.
وكان المنصور كلما ذكر ولده حزن عليه حزنا شديدا.
المصائر لا آمان لها
تحضر المقارنة هنا بين الجعفرين لتكشف لنا حال الدنيا، فهما ابنان لرجل واحد، ويحملان الاسم نفسه، لكن الحياة لم تكن عادلة، فبينما تنعم أحدهم شقي الآخر، ومات قبل أن تكتمل فرحته.