أضحى العالم كيانًا واحدًا؛ حيث تلاشت حدوده، وفُتحت أبواب الاتصال على مصراعيها عبر تبادل المعلومات والأفكار والمعرفة، وانتشرت قيم الحداثة انتشارًا واسعًا وصاحب ذلك تبدل للسلم القيمي بالمجتمعات، واتسعت الفجوة الرقمية وفرضت الثورة الصناعية قلاعها من خلال نمط الإنتاج المعتمد على المعرفة وإتناجها وتوليده، وأصبح الاقتصاد قائمًا على اقتصاد المعرفة، ومن ثم يصعب على مجتمع ما أن ينعزل ويتقوقع داخل ثقافته عن العالم.
وصارت قضية الوعي وتنميته لدى أفراد المجتمع تستحق الاهتمام؛ لأن ممارسة القيم المحلية والعالمية في المجتمع يجب أن تسبقها برامج هادفة من شأنها الإسهام في تشكيل وعي مواطن يستوعب واجباته ومسئولياته، يمتلك روحًا نقدية إيجابية تمكنه من التفاعل مع محيطه المحلي والعالمي؛ كي ينفتح على سائر القيم الكونية ذات الطابع الدولي، ولا يتقبل صور التعصب والعنصرية، ويقاوم الأفكار المشوبة والمغلوطة التي تشكل الفكر الهدام.
ويعد الوعي قضية أمن قومي؛ كونها تجعل العقل في حالة من الإدراك السليم للمعارف والأفكار والقيم التي تساعد في فهم واستيعاب النفس والعالم المحيط، بما يساعد الفرد بأن يمتلك بنية معرفية صحيحة تمكنه من أن يدير حوارًا بنٌاءً مع الآخر، وتسهم في تبادل الخبرات والفكر والرؤى حول مجالات الاهتمام المشترك مع الآخر؛ ليستطيع أن يوظف ذلك في عمليات البناء والتنمية ويواجه المشكلات والتحديات بفكر مبتكر.
ويساعد الوعي الصحيح القائم على مسلمات وأسس علمية رصينة في التعايش وتطوير العلاقات البناءة والإيجابية عند تناول القضايا ومختلف الأمور والنظر إليها بعمق لتحليلها؛ بغية الوصول إلى رؤية نقدية واضحة تمكن الفرد من المساهمة والمشاركة في مواجهة وحل هذه القضايا، بما يحقق التنمية المستدامة، وبالأحرى يصعب حدوث ذلك بعيدًا عن عقل يمتلك وعيًا رشيدًا يقدر المسئولية تجاه قضايا الوطن ويستهدف المشاركة الفعالة في تحقيق انجازاته.
وتشكيل الوعي يتم في ضوء توافر رصيد تراكمي من المعرفة والوجدان والممارسة الوظيفية على أرض الواقع؛ ليوجه سلوك الفرد نحو التناول الصحيح لما يواجهه من تحديات أو مشكلات أو قضايا في شتى مجالات الحياة العملية والعلمية والمجتمعية؛ حيث يدرك العلاقات إدراكًا مبنيًا على الفهم العميق الذي يمكنه من التفسير الصحيح والوصول للنتائج المرتقبة، ومن ثم فإن تنمية الوعي عملية يمر بها الفرد، تمثل انعكاساً لفكره الشامل والمرتبط بذاته وبقضايا مجتمعه والعلاقات الاجتماعية والتاريخية والحضارية ورؤيته المستقبلية.
وحري بالذكر أن هناك عوامل متباينة تسهم في تشكيل الوعي، وفي مقدمتها التنشئة الاجتماعية عبر وسائطها المختلفة؛ حيث يقوم الفرد بدور إيجابي تجاه مجتمعه وقضاياه وحل مشكلاته ومواجهة تحدياته، ويختلف الوعي من مجتمع لآخر حسب تنوع المفاهيم والأفكار والثقافات السائدة في هذا المجتمع، ووفق فهم وتفسير أفراد المجتمع لها.
وتتباين الخصائص التي يتسم بها الوعي؛ فيبدو أنه مكتسب من البيئة ومن خلال وسائط التنشئة الاجتماعية ومجموعة الخبرات التي يمر بها الفرد، وأنه شمولي لجميع جوانب الوجود، ومتنوع يختلف حسب المحيط الثقافي والحضاري، ويستم بالقابلية للتجديد والزيادة والتطور لفهم الفرد لذاته وامتلاك القدرة على تفسير وتحليل قضايا المجتمع والتحديات المعاصرة التي تواجهه وفهمها بإيجابية ومشاركته في مواجهتها ووضع حلول جذرية لها، وفي ضوء ذلك تتعدد أشكال الوعي إلى صورته الدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية والصحية والبيئية والقيمية والتكنولوجية وغير ذلك من الصور التي تتمخض من خصائصه وماهيته.
ويصعب أن تحدث تنمية للوعي بعيدًا عن التضافر المؤسسي؛ إذ يفوق ذلك مقدرة مؤسسة بعينها؛ فالتباين الفكري والعمري والثقافي بين أطياف المجتمع الواحد تستوجب تكاتف المؤسسات بالدولة لتحدث توعية مجتمعية متكاملة لقضايا الوطن المتنوعة والمتجددة، وهذا يستلزم شمولية التناول والإحاطة بالمجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتشريعية والثقافية والدينية والأخلاقية والصحية ... وغيرها من المجالات التي تضمن إحاطة الفرد بمختلف القضايا والمتغيرات التي تواجه المجتمع والمشاركة بها مشاركة فعالة وإيجابية وفاعلية.
وتتعدد مسوغات الاهتمام بقضية الوعي وتنميته؛ فقد شاعت المفاهيم المغلوطة وتفاقمت مظاهر العنف والعدوانية، وانحرف الفكر بتنوعاته ليولد الإرهاب، وضعف التمسك بقيم التسامح، وارتفعت مستويات القلق حيال قضايا مجتمعية عديدة، ومن ثم دعت الضرورة لتدعيم القيم وتعميقها في النفوس كالتفاهم والتسامح والوسطية وقبول الآخر، من خلال إدارة التنوع الثقافي، والسلام العالمي، والحرية البنائية، والعدل والمساواة، والتنمية المستدامة.
وبما لا يدع مجالًا للشك فإن ضرورة التنشئة الصحيحة ينبري على بناء وعي يقوم على إدراك سليم لماهية التعايش السلمي والاحترام المتبادل وتحقيق المصالح الوطنية وفق مبدأ المسئولية، والإخاء بين الشعوب والمجتمعات، وهنا يمكن الدور الرئيس لتقديم المعرفة الصحيحة التي تعد مفتاحًا مهمًا في تكوين الاتجاهات الإيجابية نحو القضايا والمشكلات المختلفة ووضع آليات لمواجهة التحديات والمتغيرات المحلية والعالمية.
ويقع على المؤسسة التربوية مهمة تنمية الوعي في صورته الأولية؛ حيث تضع في برامجها العديد من الأنشطة التي تسهم في تنمية الشعور بالولاء والانتماء للوطن ولكوكب الأرض بأكمله، ويتأتى ذلك من خلال إعلاء القيم ذات الطابع الإنساني؛ ليحدث الترابط والتلاحم المجتمعي العالمي؛ فقد باتت أطر التواصل الفعالة تؤكد على ماهية الديمقراطية التي تحترم وتقدر حقوق الإنسان ليحيا حياة كريمة، ولا يستشعر التمييز أو التهميش، ومن ثم يشارك في التنمية المستدامة، ويحافظ على موارد البيئة ويعمل على صيانتها.
وتُسهم المؤسسة التربوية في إنتاج أفرادٍ يمتلكون المقدرة على الابتكار؛ بالإضافة لدورهم الرئيس في تفعيل القيم المجتمعية التي تحض على العدالة وترسخ للحرية المسئولة، وتحقق المساواة، وتوفر مقومات الأمن والأمان، وتدفع الفرد لمزيد من الاطلاع والتعلم في صورته المستمرة، وتحض على تنمية الخبرات في مجالاتها النوعية ذات الاهتمام الشخصي، ومن ثم يؤدي ذلك مجتمعًا إلى الفهم الصحيح الذي يشكل الوعي والإدراك السليم لدى الفرد.
وتُؤهل المؤسسة التربوية خريجيها إلى أن تنمو لديهم منظومة القيم الثابتة التي تجعلهم قادرين على مواجهة التحديات الفكرية التي تواجه الأمة بأسرها؛ فيسعون مشاركين في إيجاد حلول تساعد في تحقيق الاستدامة البيئية؛ بغية مواجهة التغيرات المناخية والحد من الفقر ودحر الإرهاب بصوره المختلفة، وتعضيد ثقافة السلام في صورته العالمية؛ بالإضافة إلى القدرة على اتخاذ القرارات المسئولة التي تؤدي إلى مزيد من الريادة والتنافسية في المجالات المختلفة لدى الفرد.
وما تقوم به القيادة السياسية من ممارسات يؤكد على التمسك بمبدأ الشفافية المطلقة والعدالة والمساواة بين المواطنين في شتى مناحي الحياة، كما تحث قيادتنا الرشيدة على ضرورة الالتزام بالمنظومة التشريعية التي تحقق تكافؤ الفرص وتقضي على سبل الفساد وأنماطه؛ بالإضافة إلى العمل المستمر على تحسين التشريعات التي تضمن التنمية في الجانب السياسي وفق المعايير الدولية التي تحرص على الحريات والحقوق بعد القيام بالواجبات والمسئوليات التي تبني الدولة وتنهض بها.
وتحرص القيادة السياسية على نهضة الجمهورية الجديدة بالعمل على تنمية الاقتصاد المصري؛ إذ توجه بتعديل القوانين والتشريعات التي تساعد في تحفيز واستقطاب الاستثمار في قطاعاته المختلفة، وتضمن الأمن والأمان لرؤوس الأموال الأجنبية، ومن ثم يزيد ذلك من فرص التشغيل ويقلل من معدلات البطالة، ويحسن من الدخل القومي للدولة، ويحقق مكاسب يصعب حصرها في هذا المضمار.
وتشدد القيادة السياسية على أهمية نشر الثقافة الدستورية لدى كافة المواطنين؛ إيمانًا بأن نجاح الدولة في تحقيق غاياتها لا يتحقق بعيدًا عن احترام وتنفيذ مواد الدستور المصري، باعتباره منظمًا للعلاقة الفريدة بين الدولة ومؤسساتها ومواطنيها وفيما بينهم؛ لذا تفاقمت أدوار المؤسسات والأجهزة الرقابية، وطبقت نظم الحوكمة الحديثة؛ لتعلو هيبة القانون فوق الجميع.
ولا ينفك وعي المجتمع بحال عن وسطية التناول سواء في العقيد أو كافة التعاملات والمعاملات عبر المؤسسات والأفراد؛ فقد حثت الأديان السماوية على ذلك بصورة مباشرة ودون مواربة، وهذا بالطبع يؤكد على سلامة الفكر ويحد من الممارسات السلبية، وينمي الشعور بإعلاء المصلحة القومية، حفظ الله وطننا الغالي وقيادته السياسية الرشيدة التي لا تدخر جهدًا في رفعة البلاد وازدهارها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة