عندما نتحدث عن توسيع المجال العام، وحرية الرأى والتعبير، فإن هذا مرهون بقواعد وقوانين تحكم الجميع، ومواثيق يفترض أن تكون مقياسًا متوافقًا عليه، وبالتالى يصعب اعتبار التقارير المغسولة أو الشائعات والمعلومات المفبركة من بين حرية التعبير عن الرأى، لأنها تتعلق بمنصات تحصل على تمويل لنشر الشائعات أو فبركة أرقام وتقارير غير صحيحة، اعتمادًا على «مصادر مجهلة ومتعامدة ومتقاطعة».
ونفس الأمر فيما يتعلق بالقذف والسب والتشهير والاعتداء على الخصوصية، وهى مخالفات فى كل قوانين العالم، وهناك غرامات وتعويضات ضخمة للمضارين ومن تنتهك خصوصيتهم، وفى كل قوانين العالم فإن من حق كل من يتم اتهامه أو التشهير به أن يلجأ للقضاء للحصول على حقه، وإلا تحول الأمر إلى فوضى، وفى كل قوانين العالم من يحرض على الحرق والقتل والتدمير يرتكب جريمة، ولا يمكن اعتبار التحريض أو الحرق والتخريب نضالًا ولا بطولة. هذا هو ما يجرى فى العالم كله ومن يطالب بالديمقراطية عليه أن يخضع لها ولقواعدها، ويعمل بها، ولا يكتفى بمطالبة الآخرين بتطبيقها بعيدًا عنه، هذه البديهيات تتوه أحيانًا فى زحام الضجيج، حيث يطالب البعض بالديمقراطية وسيادة القانون على غيرهم، ويصرخون إذا اقتربت منهم.
ومنذ بدأت دعوة الحوار الوطنى، هناك من قبل ورأى الخطوة إيجابية وإضافة، وهناك من تحفظ أو قاطع، لكن أهم ما يقدمه الحوار هو بناء الثقة، وفتح مجال للنقاش حول الحاضر والمستقبل، ومن الصعب فى ظل تحولات النشر والمنصات أن يدعى شخص ما أنه ممنوع من التعبير عن رأيه، لكن مثلما يفترض أن لدى التيارات السياسية والأهلية مطالب، فإن لدى الأطراف الأخرى أيضًا مطالب، نقول هذا بمناسبة ظاهرة تتميز بها بعض التيارات السياسية، وهى التعامل مع الحرية بازدواجية، وعند أول خلاف فى الرأى يتم تبادل الاتهامات، وممارسة المنع و«البلوك» بين أطراف أى حوار.
ومنذ بداية الدعوة للحوار الوطنى، قلنا إن أهم خطوة فى الدعوة أنها فتحت الباب لمناقشات وآراء متنوعة، وهذا فى حد ذاته يمثل نقطة إيجابية، والأهم هو بناء الثقة وإقامة جسور بين الدولة والتيارات السياسية والمنظمات الأهلية، من جهة وبين هذه التيارات والمنظمات وبعضها، وهذه الثقة هى الأرضية التى يمكن أن تمهد لجمع الشمل والبناء على ما تحقق خلال السنوات الماضية، واستعادة وحدة الصف لتحالف 30 يونيو، لأن بناء الثقة يسمح باتساع مجال التفاهم وتحديد نقاط أساسية، وبعد إقامة هذه الجسور يمكن أن تكون هناك مساحات للتفاهم والتحاور.
ويجب الاعتراف أن هناك خلافات بين التيارات السياسية والحزبية حسب توجهاتها، ربما أكثر مما بينها وبين الدولة، لكن نجاح الحوار هو قدرة كل هذه التيارات على تقبل بعضها، بحثًا عن مطالب تحظى بتوافق، دون الدخول فى مواجهات واشتراطات قد تشتت الأمر، وأن تكون هذه التيارات مستعدة لتقبل الأسئلة، حول نفسها ووزنها النسبى، وربما أيضًا اعتبار الحوار يشمل قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية، بين تيارات لها انتماءات متنوعة، يسارًا ويمينًا.
الحوار يفترض أن يفتح المجال للنقاش بين التيارات السياسية وبعضها، وليس فقط بين حكومة ومعارضة، حيث يحمل كل تيار تصوراته السياسية والاقتصادية ورؤيته للأولويات بشكل يتناسب مع أسسه الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، ونقصد يسارًا ويمينًا، وإن كان الواقع الاقتصادى العالمى اليوم أسقط الكثير من الحواجز التى تفصل بين الأيديولوجيات المختلفة، العالم كله يتغير أسرع وأعمق من كل تصور، وتحولات فى النفوذ والحركة، والتعامل مع كل التفاصيل حسب قوتها وانعكاساتها، وأول خطوة للحوار هى القدرة على تفهم الاختلافات والتنوع بين التيارات والأفراد، والانطلاق من تفهم مشترك نحو المستقبل.
وقد أنتجت التحولات التى شهدها العالم على مدى العقود الأخيرة من ثورات التكنولوجيا والاتصال ومنصات التواصل الاجتماعى، تغيرًا من شكل السلطة وممارستها فى العالم كله، ويفترض أن تضع الأحزاب والتيارات المختلفة هذا كله فى الاعتبار، وأن تتيح لبعضها ولغيرها حق التعبير عن الرأى، لكن الواضح أن هناك من بين التيارات السياسية من يطلب حرية التعبير لنفسه فقط ويمنعها عن غيره، ويعطى لنفسه الحق فى اتهام الآخرين فى ذممهم أو فى شخوصهم، وعند اللجوء للقانون يصرخ الشتام بأن حريته مقيدة، وهو هنا يقصد حرية اتهام الآخرين أو إطلاق الشائعات أو التجاوز فى حق من يختلفون معه. الواقع أن الديمقراطية للجميع، وأن من يطالبون بها عليهم أن يقبلوا حكمها وحكم القانون.