كما أن الحرب سياسةٌ من نوع آخر؛ فالمنافسات الناعمة حروبٌ تحت لافتات أقل اشتعالاً. عندما يجتمع مُشجّعو فريقين فى المدرجات، تكون مُواجهة الملعب تعويضًا عن صدام الجماهير؛ كأنها مُمارسة انتخابية يُنيب فيها كل طرف مُمثّلاً، ويُفرغ الجميع فوائض صدورهم ثم يخرجون راضين؛ بعدما تتكفّل اللعبة بتعويضهم نفسيًّا عن الصراع المباشر. إذا انتظمت المُنافسة فى سياق عاقل ومُقنع؛ فإن الحشود تُغادر ممتلئةً بالرضا والإشباع؛ وإلا فإنها قد تُترجم عدم رضاها قفزًا للحواجز واندفاعًا بكُتل الأجساد المُتحمِّسة نحو الميدان.
هذا ما يحدث على نطاق أوسع، فى السياسة والاقتصاد وعلاقات الدول، وما يُمكن أن نقرأ من خلاله فورةَ الحشد والاصطفافات المُتنامية بامتداد العالم. تشكَّلت الفرق، وانتخب كل جانبٍ مَن يستحقّون حماسه وهتافاته، وأطلق الحكم صافرة البداية؛ بينما الرغبة تتَّقد لمُغادرة مقاعد المُتفرّجين. بلغ الاستقطاب مداه، وبات جَليًّا أن الاحتباس الذى يرفع حرارة الأرض، تُوازيه سُخونة مكتومة بين كبار الكوكب، وطاقة عظيمة تتولَّد عن السباق على قيادة المشهد، وإعادة ترتيب البيئة الدولية على ركائز ليست محل اتفاق؛ إذ ما يزال الطرف المُهيمن يجتهد لاستبقاء شُروط الصدارة، والآتون من الخلف يزاحمون بالمناكب بحثًا عن فضاء يتَّسع لأجسامهم التى تعملقت فى الظل؛ ولا سبيل للوفاق بإطاحة أحدهما أو تواضعهما على التعايش الهادئ. لا يقع الخلاف فى علاقة الولايات المتحدة بالصين، ولا حلف «الناتو» بالصراع الأوراسى وتحوُّلات منطقة «الإندو- باسيفيك»، ولا فى سباقهم جميعًا نحو أفريقيا والشرق الأوسط. الوضع خليط من كل ذلك، والأزمة أعمق من خصامٍ فى المصالح أو نزاع على النفوذ؛ إذ يبدو أن هناك قناعةً غير مُعلَنة بأنه لا سبيل لأن يُنجز كلُّ طرفٍ مصالحه، طالما ظلَّ الآخرون قادرين على تعطيلهم، أو لم يتوقَّفوا عن السعى لإنفاذ أجنداتهم. قد لا يقود ذلك إلى اصطدام خشنٍ بالضرورة؛ لكن حتى مع مُواجهات الملاعب الناعمة، يُمكن أن يتفجَّر الشَّرَر ويُهدِّد بين وقت وآخر بالاحتراق.
اليوم، تنطلق قمة دول بريكس فى جنوب أفريقيا. لم يعد خافيًا أن الأعضاء الخمسة يتذمَّرون من الهيمنة الأطلسية بقيادة واشنطن، وأن الولايات المتحدة غير راضية عن نشاط التجمُّع ومساعيه للتمدُّد جغرافيًّا واقتصاديًّا. ورغم أن الرسائل المُتواترة لا تحمل تصعيدًا واضحًا، وتتلافى تغذية سوء الفهم ورفع منسوب التوتُّر بين الفريقين؛ فإن واقع الأرض يُشير لمواجهات مُقبلة؛ حتى لو اتَّخذت شكلاً وقورًا واصطبغت بألوانٍ مُحايدة. لا يتَّسع عرش الغابة إلا لملكٍ وحيد؛ وكى يُحقِّق الأسدُ سيادته يجب أن يفرض على الباقين ملابسَ الحِمْلان.. المشكلة أن العالم لم يعد قابلاً للتصنيفات السهلة، ولا الزعمات المُكرَّسة بحُكم التاريخ؛ بينما تنفتح الجبهات على بعضها وتترابط عضويًّا، ما يُصعِّب على الامبراطورية العجوز اللجوء لحيلتها المُعتادة بتفكيك بيئة الصراع، وإحالة الاختبار الوجودى الواحد إلى جولات تكتيكية مُنفصلة. ما يجرى باختصار؛ أن كلَّ جولةٍ فى ناحيةٍ تتحوَّل بالضرورة إلى مُواجهة شاملة تنعكس على بقيَّة النواحى، والنقطة التى تكسبها فى منطقةٍ قد تُفقدك نقاطًا فى مناطق أخرى.
فرضت الولايات المتحدة سيادتها بالاجتهاد والدم، ولا شك فى أهمية ما أنجزته وجدارتها به؛ إنما الملاحظة تنبع من صورتها الدائمة كشيخٍ يتحدَّى صيرورة الزمن. رغم كلِّ معاركها السابقة، الناعم منها والخشن؛ لعلّ شكل المناوشات المُستحدث جديدًا عليها؛ فلم تعد مُنازلةً فى قفصٍ مع مُنافسٍ عجوز أو امبراطورية فى طور الأُفول؛ إنما تتلبَّس هيئة جديدة، تتلاقى فيها الجغرافيا والموارد والطاقات لتصيغ كيانًا ضخمًا، يتوزَّع فى أرجاء الأرض، فلا يُمكن حصاره أو إسقاطه بالضربة القاضية. والمُفارقة أن الخصوم يستعيرون تقنيات اللعبة الأمريكية؛ إذ كانت التحالفات أبرز أدوات واشنطن فى رصِّ الصفوف وتضعيف القوة والتكتُّل أم شراذم المُنافسين؛ لكنها الآن تختبر مُمارسةً طارئة بين حشدها القديم، وحشودٍ جديدة تملك المقدرة والطموح ومظلوميَّة الماضى، ليُصبح الرهان محصورًا فى الكفاءة وقدرات الحركة والمناورة، وليس فى الهيمنة الكاسحة التى ضمنت الفوز قديمًا قبل بدء السباق.
محفظة بريكس ليست هيِّنة، وقلق الولايات المتحدة وحُلفائها قد تُفسِّره الأرقام. دول التجمُّع تُسيطر على 23% من الناتج العالمى و17% من التجارة و27% من الجغرافيا و42% من السكان، وأمامها طلبات عضوية من 23 دولة يُمكن أن تُعزِّز المُؤشِّرات بمزيدٍ من الفوارق وعناصر الثِّقَل، وقد أكَّد 40 رئيس دولة وحكومة حضور القمَّة. صحيح أن مسؤولى جنوب أفريقيا استبقوا الانعقاد بنفى ما يتردَّد عن سعيهم لإلغاء «الدولرة»، وقالت مديرة بنك التنمية التابع للتجمع إن «امتلاك عُملة مُوحَّدة» طموح مُتوسِّط أو طويل الأجل؛ إلا أن ذلك لا يكفى لتذويب المخاوف، ولا يعنى أن التحدِّى بعيدٌ أو مُؤجَّل؛ لا سيَّما أن مُواجهات الاقتصاد وصراعات الهيمنة تُحسَم بالنقاط؛ وكل خطوة من «بريكس» تُضيف إلى رصيد التجمُّع، وتخصم من أرصدة الآخرين.
اصطفافات المعارك الاقتصادية بدأتها الولايات المتحدة. قبل 50 سنة تقريبًا انطلقت فكرة الدول الكبرى فى إصدارها الأول بأربعة أعضاء، ثم توسَّعت عبر عدَّة جولات حتى استكملت هيكلها «مجموعة السبع» أواخر السبعينيات. وخلال مرحلة احتواء روسيا بعد الاتحاد السوفيتى مُنِحَت مقعدًا، ثم طُردت بعد نزاعاتها فى جورجيا وأوكرانيا 2014. اليوم يبدو الكبار رقميًّا وراء بريكس، وبأقل من نصف مساحتها وربع سُكّانها، مع مُعدَّلات نموٍّ أقل ومستويات ديون أعلى. الصين وحدها تتجاوز نواتج ستَّة من السبع، وديون أمريكا تقارب ضعف ديون بريكس كلها، مع ميزان تجارى فى صالح التحالف الجديد بفائض 700 مليار دولار، وعجز على الجانب الآخر يقارب 900 مليار. لكن قد لا يكون ذلك مبعث القلق الوحيد.
يتشارك الفريقان بالكامل عضوية مجموعة العشرين؛ التى كانت صيغةً بديلة ابتكرتها الدول السبع لمزيدٍ من إحكام السيطرة على اقتصاد العالم، وتعزيز منافعها، وتوزيع الأعباء على المُنافسين المُحتملين فى بقيَّة القارات. على جانبٍ مُقابل؛ ابتكرت الصين مُنظَّمة شنغهاى مع دول وسط آسيا، ثم أخذت فى توسعتها حتى وصلت لثمانية أعضاء بينهم الهند وباكستان، و4 مُراقبين و7 بصفة «شريك حوار» منهم تركيا والسعودية، وما يزال التمدُّد مُستمرًّا بموازة «بريكس» ومسارها الصاعد. وبينما تنشغل الأخيرة بالاقتصاد والتجارة، تضع الأولى ملفات الأمن والحدود والثقة العسكرية ومكافحة الإرهاب وحركات الانفصال والتدخل فى شؤون الدول ضمن اهتماماتها، بجانب التجارة والتعاون فى التعليم والصحة والعلم والتقنية. بكين محور ارتكاز الدائرتين، ورغم اختلاف السياقات والبواعث؛ تبدو إحداهما أقرب فى مهامها لدور مجموعة السبع، والثانية مُعادلاً مُكافئًا لـ«ناتو»؛ على الأقل من زاوية تبريد المحيط اللصيق بالصين، وقطع الطريق على فُرص التحرُّش الأطلسى من تلك الجبهة مُستقبلاً.
قلق الإدارة الأمريكية بدا واضحًا فى مُمارساتٍ سابقة على القمَّة. ضُغِط على جنوب أفريقيا لتمتنع عن استقبال «بوتين» بذريعة مذكرة التوقيف الدولية، ثم اعتذرت أطراف عن الحضور نافيةً سعيها لعضوية التجمُّع، وتلكّأ آخرون؛ وربما كان ذلك بضغوطٍ صريحة أو رماديَّة؛ لكن أغلب القائمة المُعلَنة ما تزال تتمسَّك بالتعاون مع «بريكس»، بينها مصر ودول عربية أُخرى. يترافق ذلك مع حركة محمومة للناتو، وتمدُّدٍ فى أفريقيا، وتنسيقٍ مع كوريا واليابان رغم عدائهما التاريخى، واستمرار التسخين فى بحر الصين الجنوبى، والدفع لإبقاء أوكرانيا مُشتعلةً لاستنزاف روسيا، ومواصلة حصار الحديقة الخلفية فى أمريكا اللاتينية. لعلَّ ثمّة ما يُوجب القلق؛ لكن تحرُّكات واشنطن وطريقة عملها تبدو استفزازيةً ومشحونة قصدًا. حتى لو كانت الأرقام تُؤكِّد ثِقَلاً اقتصاديًّا للتجمع، فإن عبء الديون مع عبء السكان، وتركُّز أغلب النواتج فى أنشطة أوَّلية أو صناعات وسيطة وتكنولوجيا غربية بالأساس، لا تستدعى التحفُّز المُتعجِّل ولا إعلان الحرب على أيَّة مُحاولة للتنمية بعيدًا من الوصاية الغربية. ما تزال السطوة المعرفية لصالح الشمال، يتَّضح ذلك فى حصَّته من الثروة العالمية «65% تقريبًا بأكثر من 320 تريليون دولار» ونسبته من أكبر الشركات العالمية، والسطوة فى سوق الرقمنة والاتصال وتقنيات الذكاء الاصطناعى، ومُختبرات البحث والتطوير وبراءات الاختراع وحائزى الجوائز المرموقة، وفى قطاع الدفاع والصناعات العسكرية: نسبة دول السبع تتجاوز 60% من صادرات الأسلحة، مقابل أقل من الرُّبع تقريبًا لدى بريكس.
عندما وضعت مجموعة السبع مقعدًا لروسيا أواخر التسعينيات، كانت فى واقع الأمر تُواصل حربها على بقايا الاتحاد السوفيتى. مثَّلت الخطوة احتواءً أكثر من كونها شراكةً واعترافًا حقيقيين؛ وعندما طردتها كانت تردُّ المواجهة لمسارها الطبيعى الموسوم بالخشونة والاستبعاد. ربما يتكرَّر شىء من ذلك بصورٍ أخرى فى مجموعة العشرين، طالما كان الهدف لَجْم الخصوم بدلاً عن التكامل معهم؛ وليس هناك ما يُصادر على هذا التفسير، وقد أُديرت المنصَّات الأُمميَّة نفسها لفائدة الرؤية الأمريكية، وظلّها الأوروبى الذى لم يُغادر بيت الطاعة منذ انتهاء الحرب الأوروبية الكبرى وإطلاق خطة مارشال. من طول ما اعتادت واشنطن توظيف قدرات العالم وموارده لخدمة مشروعها الإمبراطورى، باتت تعتبر ذلك حقًّا مُكتسَبًا؛ لذا لا تستطيع أن ترى أية محاولة لتعديل الشروط الجائرة، إلا تمرُّدًا وخروجًا على الشرعية الموهومة.
المُشجّعون فى مُدرَّجات «بريكس» يتطلَّعون للقصاص من الغول الأمريكى؛ وفى ذلك عبءٌ يُرهق التجمُّع ويفوق طاقته، على الأقل فى المدى المنظور. لن يكون ميسورًا إزاحة الاقتصاد الأكبر إلى الوراء طالما ظلّ الدولار مُتسيِّدًا، وربما من الصعب إنزال عُملته من عليائها قريبًا. بالتأكيد تُوفّر تلك الهيمنة امتيازًا سهلاً لواشنطن؛ إذ تسمح لها بتمويل عجزها بكُلفةٍ أقل، ومع كل مناورة فى النقد يعلو اقتصادها وتهبط أسواق الآخرين، وتزداد أعباء الائتمان والتجارة وتدبير الاحتياجات الأساسية للحُكومات ومواطنيها، فضلاً على شراكةٍ سهلة فى نواتج العالم، ومُكافآت مجانية عن كل مُعاملة، ثم انكشاف أنه غير آمنٍ، وقابل للتوظيف السياسى بالعقوبات وتجميد الأرصدة؛ لكن هذا الوضع الظالم يتطلَّب عقودًا للتصحيح. غاية ما تسعى إليه «بريكس» أن تُطلق نظامَ مدفوعاتٍ خاصًّا، وأن تعتمد المُبادلات التجارية بالعُملات الوطنية؛ وحتى ذلك يتطلَّب مقاصّة دورية قد يُخالطها الدولار، خاصّة أن البحث عن عملة مُوحّدة مسألة مُعقَّدة فنيًّا، وتستلزم عملاً طويلاً وشاقًّا لتأهيل الأسواق وضبط قواعد الصرف والحُوكمة والسياسات النقدية. هكذا قد لا يكون خوف الغرب من قُرب الوصول لبدائل تشطب عناصر قوَّته؛ إنما يخاف من فكرة الوحدة فى ذاتها، ويسعى لأن يظل العالم مُصطفًّا فى طابورٍ ليخوض المواجهات فرادى، تحت رحمة الهيمنة المُطلقة، وبشروط أقرب لعقود الإذعان.
خسر الدولار 14% من نسبته فى الاحتياطى العالمى خلال 20 سنة، لكنه ما يزال يمثل 59%، ونحو 41% من المدفوعات، وهو عملة المُبادلة والحساب، ومُتجذِّرٌ فى أسواق العالم وهياكل الأنظمة المالية والمصرفية. لا يجعل ذلك فكرة التخلِّى خيارًا يسيرًا؛ لكنه لا يلفت النظر عن المآخذ. لقد حوَّلته واشنطن من عُملةٍ إلى أداةٍ سياسية، ووظَّفته فى العقوبات والحروب التجارية وخَنق الخصوم؛ ما أفقده جانبًا من جاذبية الحياد والأمن. عندما اندفعت أمريكا لعلاج مُشكلاتها باللهاث نحو رفع الفائدة، دون اعتبارٍ لتأثيراته على الأسواق الناشئة والدول الفقيرة، كانت تزيد الشرخَ اتّساعًا. وعندما سرَّعت تصدير التضخُّم وفاقمته كانت تُراكم الضغينة فى صدور المُتضرِّرين. إن انحلال هيمنة الدولار ستكون بلد المنشأ «الأكبر مديونية» أوَّل ضحاياه؛ ولن تقبل واشنطن ذلك أو تُمرِّره ولو اضطرَّت للسلاح، والمنافسون يستوعبون الخطورة؛ لكن أيضًا لم يعد مُمكنًا أن يواصل العالم القفز على ساقٍ واحدة. قد لا تُفضى قمة «بريكس» لمُخرجاتٍ فعَّالة عاجلاً، إنما بجانب مُنظّمة شنغهاى وبقيَّة المحافل البديلة تُرسى سياقًا أكثر توسُّعًا وإنصافًا؛ ستكون ولادته عسيرةً ومُرهقة، لكنها ستحدث فى النهاية وفق مُواءمات لا تنفصل عن إعادة التركيب الجارية فى العسكرية والسياسة. ما بنته الولايات المتحدة عبر قرنٍ لن يتهدَّم فى أقل من ذلك؛ لكن ربما يكون عليها الاقتناع بأن القيادة المُنفردة أصبحت أصعب وأكثر كُلفة، وربما يتعيَّن أن تبدأ من الآن التمرين على الحياة بين شركاء وأنداد، وليس مع تابعين ومقهورين كما اعتادت سابقًا.. عبء تسييج العالم بقفصٍ حديدىٍّ أضخم وأصعب من تحريره، والتحرُّر معه من بقايا ماضٍ لم يعُد قابلاً لإعادة الإنتاج بصورته القديمة.. وسواء نجحت «بريكس» أو أخفقت؛ لن تكون آخر حلقات التمرُّد وكَسر الوصاية، ولا مُنتهى البحث عن بيئة دولية أقل انحرافًا، وأكثر احترامًا لحق الطامحين فى اختبار دورات التاريخ.