الطبيعة الغاضبة تعاقب العالم... الدول الصناعية الكبرى تجاهلت التحذيرات منذ التسعينيات بخطورة التغير المناخى وارتفاع درجات الحرارة بسبب الاستمرار فى توليد الطاقة من الفحم والنفط والغاز أو ما يسمى بالوقود الأحفورى، وهو إلى حد بعيد أكبر مساهم فى تغير المناخ العالمى.
توليد الطاقة بالصورة التقليدية فى الدول الصناعية يمثل أكثر من 75% من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية، ونحو 90% من جميع انبعاثات ثانى أكسيد الكربون.
ببساطة هذه الانبعاثات تتواجد فى الغلاف الجوى للأرض، وتؤدى إلى حبس حرارة الشمس، وهذا يؤدى بدوره إلى الاحتباس الحرارى وتغير المناخ، درجة حرارة العالم حاليا ترتفع بشكل أسرع من أى وقت مضى فى التاريخ، وبمرور الوقت، تؤدى درجات الحرارة المرتفعة إلى تغيرات فى أنماط الطقس واضطرابات فى توازن الطبيعة المعتاد، وهو ما يشكل مخاطر عديدة على البشر وجميع أشكال الحياة الأخرى على الأرض.
العالم المتقدم الصناعى الذى يقود العالم لم يستمع لصرخات العالم الثالث منذ مؤتمر المناخ الأول فى برلين عام 95 وأيضا المؤتمر الثانى فى جنيف عام 96 وحتى المؤتمر الأخير فى مصر بشرم الشيخ، رغم التوصيات بالتوجه الى استخدام الطاقة الخضراء الجديدة من الرياح والطاقة الشمسية والطاقة المتجددة الأخرى، والاتفاق على آليات التمويل، فمواجهة التغيرات المناخية تحتاج إلى تمويل ضخم لا تقدر دولة واحدة على تحمل تكلفتها.
غضبت الطبيعة... وبدأت تصب جام غضبها العاصف على الدول الصناعية فى العالم، وكبيرتهم الولايات المتحدة الأمريكية التى تتعرض حاليا لأضخم عاصفة استوائية .. العاصفة هيلارى التى غمرت جنوب كاليفورنيا من الساحل إلى الجبال والصحارى الداخلية، وهى أكبر كارثة مناخية كبرى تحدث فوضى فى الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، فالعاصفة تسببت فى حرائق وأعاصير فى جزيرة ماوى بهاواى وقتلت أكثر من 100 شخص ودمرت مدينة لاهانيا التاريخية، حرائق الغابات تشتعل أيضا فى كندا وأستراليا وإسبانيا واليونان، وخطر الجفاف وشح المياه يواجه فرنسا.
كل ذلك فى الوقت التى تصب واشنطن وبعض حلفائها مزيدا من الزيت على نار الحرب الروسية الأوكرانية، حتى بلغت الأموال المقدمة من أمريكا والدول الغربية الداعمة لأوكرانيا نحو 180 مليار دولار، والتوتر وشبح الصدام يخيم على تايوان بين الصين والولايات المتحدة، فى ظل استمرار التوتر الدائم والمرشح الأول للانفجار مع كوريا الشمالية.
الغضب مرشح للمزيد، والدول الصناعية ستبقى أسيرة "حرب الحرائق والعواصف" طالما تجاهلت التوصيات والاتفاقيات الدولية لمواجهة خطر التغير المناخى.
لكن الثمن القاسى ستدفعه دول العالم النامى فهذه المرة "يعملها الكبار ويقع فيها الصغار"، فالتقارير الصادرة عن الأمم المتحدة تشير إلى أن نحو 59 دولة حول العالم لن تعد قادرة على سداد ديونها وزيادة تكلفة الاقتراض نتيجة لتغير المناخ بحلول عام 2030، ترتفع إلى 81 دولة، بحلول عام 2100 .
عدم القدرة على السداد والتعثر ثمن آخر ستتحمل تبعاته شعوب هذه الدول، فحجم تكلفة مواجهة مخاطر المناخ تقدر بمليارات الدولارات، وفى مؤتمر المناخ الأخير COP27 دعا الدكتور محمود محيى الدين رائد المناخ بمؤتمر أطراف اتفاقية الأمم المتحدة للتغير المناخى والمبعوث الخاص للأمم المتحدة المعنى بتمويل أجندة 2030 للتنمية المستدامة، إلى تفعيل آليات خفض الديون بما فى ذلك مقايضة الديون بالاستثمار فى الطبيعة والمناخ، إلى جانب وضع سياسات جديدة لتمويل الطوارئ لمساعدة الدول فى مواجهة الخسائر والأضرار الناتجة عن تغير المناخ.
تفسير كلام الدكتور محيى الدين يعنى أن تغيير المناخ له تأثيراته السلبية على الاقتصادات الوطنية، بالتالى تصبح عملية سداد الديون أو بالأخص خدمة الديون أكثر صعوبة وأكثر تكلفة، فالتقديرات الأولية للخبراء المتخصصين ترجح بأن التكاليف الإضافية لخدمة الديون للدول حول العالم تتراوح بين 45-67 مليار دولار أمريكى فى ظل سيناريو انبعاثات منخفضة، و135-203 مليارات دولار أمريكى مع استمرار انبعاثات عالية وهو المتوقع..!.
المفارقة هنا أن من بين الدول الأكثر تضررا الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وكندا والهند وماليزيا والمكسيك وسلوفاكيا، لكن الجميع سوف يتضرر إذا استمر العبث الدولى الحالى والتجاهل لتوصيات مؤتمرات المناخ.
المسألة تحتاج جدية فى التعامل مع الكارثة الحالية حتى لا يزداد غضب الطبيعة، والالتزام بمقررات الاتفاقيات الدولية، خاصة اتفاقية باريس التى سيتم إعلان نتائجها خلال مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين بدولة الإمارات نهاية العام الجارى لوضع جميع الأطراف أمام مسئوليتهم تجاه قضايا المناخ، مع إمكانية توقف الدول الفقيرة عن سداد ديونها مؤقتا، إذا تعرضت لكارثة مناخية، بموجب خطط أعلنها البنك الدولى فى القمة المالية العالمية فى باريس مؤخرا، والتى كان من بينها أيضا إعادة توجيه عشرات المليارات من الدولارات إلى العالم النامى، فى شكل نقود باسم "حقوق السحب الخاصة" فى ظل صندوق النقد الدولى.