أنجز الحوار الوطنى غايته، أو كاد؛ ويتبقَّى أن يُوضَع على طاولة الدرس والتحليل، لا من أجل تقييم عطاياه سلبًا وإيجابًا، وذاك من الأولويات غير المُنكَرة؛ إنما الأهم أن تُوظَّف الحالة الناشئة عنه فى بناء وتحفيز حالات وفعاليَّات إضافية، فى المستوى العام بين الدولة والمجال السياسى، وفى الخاص بين التيارات وداخل كل فصيل على حدة. على أهميته؛ لم يكن «الحوار» غايةً فى ذاته؛ إذ معنى ذلك أن حالته تنقضى بانقضاء جدول الأعمال؛ لكن الأوقع أن يُنظَر إليه على أنه وسيلة تمضى إلى حزمة مُستهدفات، فى قلبها وَصل الجسور المقطوعة، واستعادة حيويَّة اللغة السياسية، وإرساء قاعدة ينبنى عليها مُستقبل العمل التضامنى المُشترك، وانتظام المنافسة على السُّلطة. التقييم فى ضوء هذا الاعتبار لن ينتقص من كفاءة المنصَّة، ولا حيثيَّة مُخرجاتها ووجوب إنزالها موضع التنفيذ؛ لكنه مع تأمين تلك المنافع سيقفز خطوةً أوسع للأمام، بحثًا عن الاستهلاكى والمُستدام معًا فى بنية التشابك المدنى/ السلطوى، وما يصلح لاتخاذه روافع مُستقبلية لاستبقاء طاقة التوافق، ومُغالبة شبح القطيعة والخصام.
السياسة ديناميكيَّةٌ بالضرورة؛ ومن تلك الزاوية تُوجِب على أهلها الاستيعابَ والتجاوز: الأول بمعنى الوعى والإحاطة وحُسن قراءة الوقائع والمُلابسات، والثانى صيرورة الحركة، وقُدرة الانتقال من حالٍ إلى حال؛ حسبما تقتضى الظروف وتفرض المصالح المُرسلة. المشكلةُ أن شطرًا عريضًا من الساحة ما يزالون أسرى وراء أسوار «الدوجما» وفى متاحف الأيديولوجيا، ويقترفون العمل العام بمنطقٍ أُصولى ورُوحٍ إقصائية، ويتحصَّل عن ذلك أنهم ثابتون لا تتطوُّر رؤاهم، وانعزاليّون تنقصهم جسارة التجربة وفاعلية التقاطع على لغةٍ مُشتركة مع الأصدقاء قبل الخصوم. أثر ذلك أن ما يُفتَرض أن يبقى ويستقرّ من المحكَّات فى الذاكرة؛ يتبخَّر دون فائدةٍ أو انعكاس على الخطاب والمُمارسة، وما يجب أن يكون عابرًا بين ثنايا طفرات المعرفة وتبدُّلات الأحوال يتكلَّسُ ولا يعبُر، ويظلُّ مُقيمًا وحاكمًا فى بناء الأفكار والمواقف، وفى تحديد مدى الاشتباك مع البيئة المُتخَمة بالشركاء والمُنافسين.
تُطِلُّ العلَّة برأسٍ غليظ؛ إذا اختلط العارض بالجوهرى، وأصبح العابر مُقيمًا والمُقيم عابرًا. إن الفكرة الصلبة لا تكفى وحدها لإحياء تنظيم؛ فالضمانة أن يظل قادرًا على استقراء الزمن فى امتداداته، ورسم المسارات على إيقاع الجدليَّة الحيَّة بين الانحيازات وغلافها المُحيط. أكبر مُشكلات فصيل مثل «الإخوان» مثلاً أنه حبيسُ سرديَّةٍ مصنوعة وعاجزة عن الاشتباك مع الحياة. آمنت الجماعة بماضيها حتى أصبحت عاجزةً عن استيعاب الحاضر والنظر للمُستقبل. أنتج ذلك عبادةً عمياء للماضى بتشوّهاته، وصدامًا غشومًا مع الواقع وتحوُّلاته، وقعودًا بليدًا عن استشراف مآلات أفعالها، وما تعكسه على قادمٍ لا تُجيد لغته ولا تملك مفاتيحه. اصطدمت بـ«الوفد» والإرادة الشعبية تزلُّفًا للعرش والاحتلال، ثم تهاوت لمُستنقع الإرهاب؛ وكان واجبًا أن تتجاوز الانتهازية وفقهَ الدم وتجارة القِيَم عبورًا نحو التوبة والاستقامة، وتستبقى الخُلاصات العميقة عن ضرورة تنقية الخطاب والمُمارسة، وتجنُّب شقّ عصا الإجماع الوطنى أو استسهال الذهاب للصدام. لكنّ أيًّا من ذلك لم يحدث؛ فظلَّت فى كهفٍ سحيقٍ وكرَّرت أخطاءها مع «السادات» بالسبعينيات، ثم فى الثمانينيات وما بعدها، وفى ثورة يناير وصولاً إلى 30 يونيو، والحرب المُعلَنة على الوطن بكامله. وإلى الآن يُكابر التنظيم مُستمرئًا الإجرام، ويعيش فى ماضيه المُلوّث بأداءٍ ساقطٍ وحصادات مُرَّة؛ وقد صنع من العابر أصنامًا وضيَّع ما كان يستوجب الحفظ والفهم.
على ضفَّةٍ أُخرى، لا يزال قطاعٌ من القوى المدنية يُقيمون فى خيمةٍ بميدان التحرير، يستهلكون خطاب يناير ويُحاولون إنتاج حالة تجاوزها الزمن. كانت الثورة نتاجَ لحظةٍ حَرجةٍ فرضت مفاعيلَها على الجميع، وقد توفَّر لها من توازنات القوى ما سمح بإجراء شروطها، التى كانت تقدمةً طبيعية لما بعدها. أى أن طريق «30 يونيو» ارتسمت خطوته الأولى فى ميادين 2011، وكذلك ما تتابع بعد إطاحة الإخوان كان تركيبًا منطقيًّا مُتدرّجًا من محصول المحطَّات السابقة. الدخول إلى يناير من دون رؤيةٍ واضحة، ثم التقافز وسط تشابكاتها ارتجالاً، وبموفورٍ من المطامع أو السذاجة البيضاء، وكذلك افتقاد المناعة وتحصين البيئات التنظيمية ضد المناورة والاختراق، سمحت جميعًا بأن يتقدَّم الإخوان لانتزاع مقاليد السلطة، فالتصق خصومهم بالجدار، وحاولوا التفلُّت أو الربح بالتنسيق اضطراريًّا فى «اجتماع فيرمونت» وما تلاه، ومع كل خسارةٍ مدنيَّة كان يتراكم كَسبٌ أُصولىّ، وتعلو الطريق الصاعدة وجوبًا نحو الصدام؛ لتكون ثورة 30 يونيو الحلَّ الذى لا بديل عنه. جَردةُ الأخطاء لم تعد قابلةً للمُداواة وقد أنشأت وضعًا هجينًا، قادته الرجعية الدينيّة من وراء ستارٍ مدنى؛ لكن واجب الاعتراف بها يبدأ باحترام ما ترتَّب عليها. «العابرُ» هنا أن الشعبويّة والحماسة ومُخاصمة الهياكل المُؤسَّسية لصالح أعداء «فكرة الدولة» ليست الخيار الأمثل، و«المُقيم» أنه لا مفرَّ من مُفارقة التحالفات المُتناقضة، والنظر للسلطة من زاوية غير العداء، وربَّما الرجوع لمنطق الإصلاح بديلاً عن الثوريّة. المُقيمون حتى الآن فى يناير لم يعبروا هفواتهم، ولم يتموضعوا فى قلب المُعادلة الناضجة أو يستخلصوها من حصيلة الرحلة.
فى كشف حساب الحوار الوطنى إشاراتٌ دالّة على العابر والمُقيم. من زاوية الأثر؛ فإنه استحدث مجالاً تفاعُليًّا، كان مفقودًا بفعل سنوات الارتباك وثِقَل المواجهة مع غطرسة الإسلاميِّين، وأعاد فتح الفضاء العام بخطىً استشرافيّة قابلة للتوسعة والتطوير، وأنجز لغةً تآلُفيّة تُرمِّم آثار اندفاعة الدولة فى معركة الأمن، وتُطبِّب خمول الأحزاب وتآكلها داخليًّا وجماهيريًّا. وفى الأرقام: أدار صراعًا سلميًّا لستة عشر شهرًا منذ الدعوة الرئاسية، وثلاثة أشهر بين جلسات عامة وتخصُّصيّة، وعشرات الأفكار والمُقترحات فى 70 موضوعًا لـ13 من أصل 19 لجنة، عبر 44 جلسة بمُشاركة 65 حزبًا وأكثر من 7200 مُتحدِّث. وكان من نتاجه التوافق فى عناوين عديدة، تخصُّ: الانتخابات والبرلمان والمجالس المحلية والتعاونيات والعمل الأهلى والحقوق السياسية ومناهضة التمييز، وملفات الصناعة والزراعة والسياحة والديون والاستثمار، وكذلك الأحوال الشخصية والثقافة والهوية والرعاية الصحية والتعليم. ترافق مع ذلك إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسى، وإطلاق مئات عبر عدَّة دفعات، كان آخرهم أحمد دومة و34 من المحكومين والمحبوسين احتياطيًّا. وقد رُفع محصول الجولة الأولى للرئيس؛ فوجَّه بفحص ما يقع ضمن اختصاصه وما يحتاج تدخُّلاً تشريعيًّا؛ انطلاقًا من التزامه المُسبَق بإنفاذ المُخرجات محلّ التوافق دون قيدٍ أو شرط. كلُّ ذلك يقع موقعًا بالغ الإيجابية فى تقييم «الحوار» وما نتج عنه؛ إلا أنه ليس مناط الأهمية والاستبشار الوحيد.
انحاز فريقٌ مُنذ البداية لتفسير الأمر بـ«فقه الأزمة»، وزادوا بأنه مُجرَّد بحثٍ عن غطاء سياسى قبل cop27 فى شرم الشيخ؛ ولما مرَّت قمَّة المناخ واستمر الحوار جادًّا ومُتناميًا سقطت التأويلات الخفيفة. الحقيقة أن الدولة خاضت أصعب اختباراتها بعد 2013 فى غيابٍ شبه كامل لأغلب القوى المدنية، وما هى عليه الآن أكثر استقرارًا ممّا عبرته فى مواجهة الإرهاب والمُؤامرات وانحياز وغطرسة حكومات ومُنظّمات إقليمية ودولية. يُشير ذلك إلى أن السلطة الجديدة تجاوزت العابرَ فى المشهد، ولم تقفز على المُستقرّ من إيمانٍ بتحالف 30 يونيو، وإقرارٍ بضرورة التحاور والشراكة كلما سنحت الفُرصة. سياسات الشهور الأخيرة ترميمٌ لشقوق الماضى، وبحثٌ عن الوفاق، وفيها اعترافٌ ضمنىٌّ بأن ضيق المجال العام لم يكن صائبًا وإن كان إجباريًّا وقتها؛ وفى المُقابل تتطلَّب تصفية الأجواء أن تُبادر النُّخَب، من الخصوم والداعمين، إلى مُراجعةٍ سياسية جادّةٍ ونزيهة، تبدأ من اعترافٍ مُخلصٍ وشُجاع بأخطاء الماضى، ثم الاجتهاد لتلافى الوقوع فيها مُجدّدًا. العابر أن الاختلاف وارد، والتحديات لها قوانين قد لا تعجب المجموع، والمُقيم أننا فى مركبٍ واحد، وسدُّ الشقوق ضرورة لا فِكاك منها، والتزام على الجميع بالتساوى.
استحصالُ الفائدة من كلِّ ما فات، يبدأ بالرجوع عن خيار القطيعة والمواجهات الصفرية فى إدارة تشابكات شُركاء 30 يونيو. الحوار الوطنى درجةٌ صاعدة على السلالم الموصولة بتلك الغاية؛ ورغم أهمية مُخرجاته فإن كثيرًا أو قليلاً منها قد يقع فى نطاق العابر؛ إذ هى فى النهاية من الجزئيَّات التى لا تمس الخطوط العريضة، وتقبل إعادة النظر والتطوير كلَّما نشطت الساحة ونضجت التوازنات. أما المُقيم الذى يتعيَّن أن نستبقيه من الحالة فيخُصّ قيمَ التعايش والشراكة، وإدارة الاختلافات تحت سقف الدستور والمصلحة الوطنية والقراءة الحركيَّة الناضجة للأحوال، بما لا يُهدر الثوابت ولا يتعالى على المُواءمات.. تُفضِّل النُّخبة أن تبتدئ النزاع بالفصل بين السلطة والدولة، وإن كان ذلك صحيحًا فى علوم السياسة؛ فقد لا يكون مُتحقّقًا فى التجربة المصرية قديًما وحديثًا؛ ما يعنى أن كل استهدافٍ ضمن لعبة الأيديولوجيا ستقع آثاره على الهندسة المُؤسَّسية بالضرورة، وحتى لو ادَّعى تمثيل الجمهور؛ لن يكون ميسورًا أن يربح العُمَّال فى شركةٍ خاسرة. يفرض هذا التشابكُ البحثَ عن مسارٍ مُتدرِّج لتفكيك نقاط التنازع، والتخلِّى عن منطق المُغالبة الذى يضع فيه كل طرفٍ هزيمةَ الآخر دليلاً وحيدًا على انتصاره؛ فلعلَّ الأقوم أن تنتظم اللعبة على قاعدة «Win Win Situation» طالما بالإمكان أن يخرج الجميع رابحين، ومن مصلحة البلد والحُكم والمجتمع المدنى أن تُقتسَم المنافعُ بدلاً من الشجار على توزيع الخسائر، وعلى أنصبتهم فى المسؤولية عن التطاحن وإهدار الفرص.
عميقًا، يجب أن يكون «الحوار» نفسه عابرًا؛ بمعنى أنه محطَّةٌ استثنائية لجَبْر التناقضات وتخطيط معالم الطريق، ثمّ سرعان ما سنتحوَّل عنه لمسارٍ مُنضبط ومُستدام، أما المُقيم منه فإنها حالة التشبيك الناضجة، والفهم المُتبادَل، والتنافُس العادل لا العدائى، والتوافق القنوع خارج الإذعان أو الابتزاز.. إن كان من مهام الحوارات الوطنية أن تبنى إجماعًا على شرط الشراكة المُتكافئة، وتُفضى إلى ابتكار توافقات تُؤسِّس لقواعد جديدةٍ فى المُمارسة السياسية، فضلاً على أدوارها الظرفيّة الساعية لتذويب الجلطات وحلحلة التشابكات ونقاط الاختناق؛ فإن أهم غاياتها أن تُرسى مُرتكزًا تنطلق منه مُراجعةٌ شاملة فى كلِّ التيّارات، وتتحدَّد على ضوئه الأُمور المرحليّة والغائيَّة، والعناوين التى يندرج تحتها الصراع السلمى بصيغته الجديدة.. لا يُمكن أن تخرج القوى المُتعارضة من الحوار كما دخلته؛ إذ يستلزم إنضاج الحالة أن يُعاد تكييفُ العلاقات، وأن تتعدَّل الخطابات ونطاقات النزاع، ويُطوِّر كل فصيلٍ رُزمةَ انحيازاته بحسب الجُغرافيا الناشئة عن ذلك التفاعل. إنّ امتداد الإقامة فى الماضى يتعارض مع فلسفة الحوار، واستهلاك ذخيرة التطهُّر والاستعلاء والمُزايدة لا ينسجم مع التزامات المُتحاورين، والبقاء بالقناعة أو الكسل فى قيود الثوابت والمسارات القديمة، وقد تأكَّد فشلها، لا يُترجم رغبةً حقيقة فى التلاقى أو السير قُدمًا.
كانت الأحزاب ضعيفةً قبل يناير، وظلَّت كذلك بعدها وفى مواجهة الإخوان، وفيما تلا «30 يونيو» إلى الآن. قد تكون حكومات العقود الطويلة الماضية مسؤولةً عن قدرٍ من الرخاوة والهزال؛ إنما الناشطون والكوادر السياسية وهيراركية الأبنية الحزبية ليسوا بريئين تمامًا من الذنب. إذا اعتبرنا الحوار وتجسير الهُوّة والسعى نحو التوافق اعترافًا ومُراجعةً من الدولة لميراث الماضى، فمتى وكيف يكون اعتراف القوى المدنية ومُراجعتها؟ إن إعادة بناء المناخ العام لا تعفى الكيانات الهشَّة من تبعات تراخيها وتناقضاتها الداخلية وأطماع قادتها، والعفو الرئاسى لا ينفى عن البعض ما تورَّطوا فيه من خُروقاتٍ قانونية، والاحتكام إلى مضمار سباقٍ مفتوح لا يمنع التساؤل عن مُستقبل التحالفات المشبوهة، والأذرع المُتجاوزة للحدود الوطنية تنسيقًا وتمويلاً. ما تزال حصانة «30 يونيو» لصيقةً بكل أبنائها على السواء، وتحالفها قائمٌ وقابل لعودة من ضلّوا طريقه أو انفصلوا عنه واختصموه؛ لكن البحث الأمين عن وصفةٍ ضامنة لئلا يتجدَّد الشِّقاق، ينطلق من امتلاك المهارة اللازمة لفرز الشكلى عن الجوهرى، ومعرفة ما كان من عوارض الفوضى والارتباك ويُمكن أن نقفزه بأثوابٍ لا تُلطِّخها بُقع الماضى، وما كان من لوازم الوعى والاعتبار ويجب أن نستبقيه، ونُعليه سياقًا جامعًا وقانونًا حاكمًا.. إذا كان الجنون أن تُكرِّر المُقدِّمات مُتوقّعًا تغايُر النتائج؛ فالحماقة أن تتبدَّل عليك الامتحانات فلا تنجح ولا تُجرِّب إجابات بديلة. إنَّ حصَّالة الحوار تمتلئ بما يكفى لترسيم بيئةٍ صحيّة مُستقبلاً، لو خلصت النوايا؛ لكن لا بديل عن أن يستوعب السياسيِّون دروس التجربة، وأن يُحسنوا القراءة والإحاطة واستكشاف «العابر والمُقيم».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة