هناك فرق شاسع بين ما يدور فى الواقع وبين ما يجرى ويتداول فى العالم الافتراضى، وهذا ينطبق على الآراء والمناقشات والنصائح والوصفات، وينطبق هذا على السياسة مثلما على الاقتصاد والطب والعلم، ورغم زحام منصات النشر ومواقع التواصل، من الصعب أن يكون هناك اتساق بين ما ينشر فى العالم الافتراضى المتسع، وما يجرى على أرض الواقع، حيث يكون المطلوب ليس فقط تلقى وبث المعلومات، لكن فرز وفلترة هذه المعلومات بالشكل الذى يفصل بين الخبر والشائعة، وبين المعلومة و«الهبد».
من هنا قد يخطئ من يعتمد على مواقع التواصل لقياس حجم وشكل الرأى العام، خاصة مع شيوع منصات اعتادت على مدى سنوات بث حملات أو معلومات مفبركة ومضللة، يفترض أن تطبق الشركات الكبرى قواعد النشر والأخبار الـ«فيك»، خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد أو السياسة، ونفس الأمر فيما يتعلق بما يقدمه نشطاء أو منسوبون لعالم التحليل من آراء تعتمد فى بعضها على معلومات أو تقارير مغلوطة أو مغسولة، يستحيل أن تكون قاعدة للمعرفة أو الفهم لما يجرى فى العالم.
وربما يكون ما دار فى جلسات ومناقشات الحوار الوطنى مثالًا على هذا الفرق بين الواقع والافتراض، ومن تابع آراء ومداخلات ممثلى التيارات السياسية يكتشف الفرق بين العناوين الكبيرة التى تتعلق بالسياسة والاقتصاد والمجتمع، وبين التفاصيل المتعلقة بهذه الملفات.
وخلال جلسات انعقاد الحوار الوطنى والحضور المتنوع من قطاعات كثيرة أو حتى هؤلاء الذين أبدوا رفضهم أو تحفظهم، لم يتوقف هؤلاء عن طرح آرائهم فى القضايا المختلفة، فى السياسة والاقتصاد والقضايا الاجتماعية، على صفحاتهم بمواقع التواصل، وقليلون من قدموا اقتراحات أو أفكارًا، بعضها صالح للمناقشة والتطبيق، والبعض الآخر مجرد رغبة فى التواجد أو البحث عن دور.
يضاف إلى ذلك التناقض بين مطالب بعض أعضاء التيارات السياسية بالحرية والتنوع، وبين سلوك يجعل الخلاف بين التيارات وبعضها أوسع مما بينها وبين الدولة، وأيضًا عدم إدراك بعض التيارات لحجم ما شهده العالم من تحولات كبرى على مدى سنوات فى الفكر الاقتصادى والاجتماعى بل والسياسى، حيث سقطت الحواجز بين الأيديولوجيات الاقتصادية، ولم تعد المدارس الاقتصادية مقسمة إلى اقتصاد اشتراكى، وآخر رأسمالى، حيث تداخلت المفاهيم والأفكار، بشكل جعل اقتصاد العالم مختلطًا، وإن كان يميل إلى اقتصاد السوق والقيمة، فهو أيضًا لا يخلو من تداخل واختلاط بين اليسار واليمين، وقد تغيرت أساليب القيمة والربح والرأسمالية، فى ظل موجة ثالثة أعادت صياغة القواعد ولا تزال، وهى تفاصيل انعكست فى شكل وأداء الأحزاب والتيارات السياسية، فى أوروبا والولايات المتحدة، من حيث طريقة إدارة الخلافات أو التعامل مع القضايا الكبرى.
وسياسيًا كيف يمكن التعرف على آراء ومواقف الأحزاب والتيارات السياسية تجاه مايجرى من صراع وحرب ومنافسة فى العالم، وانعكاسات ذلك على الاقتصاد، والتغيرات المناخية والأوبئة وأثر ذلك على الاقتصاد، فى ظل التحولات التى شهدها العالم على مدار العقود الأخيرة من ثورات التكنولوجيا والاتصال ومنصات التواصل الاجتماعى، تغير من شكل السلطة وممارستها فى العالم كله، ويفترض أن تضع الأحزاب والتيارات المختلفة هذا كله فى الاعتبار، وأن تسعى لتفهم واستيعاب للمدارس والأفكار، مع وجود ما يسمى «عدم اليقين» فى العالم من جراء الصراعات والحروب التى تعيد أجواء الحرب الباردة، والسعى لإعادة بناء النفوذ فى عالم مختلف.
كل هذه التحولات لا تبدو أنها ظاهرة لدى كثيرين ممن يتصدرون مواقع التواصل، ممن يغرقون فى القضايا الصغيرة، ويعجزون حتى عن إيجاد سبيل للمناقشة والتفاهم فيما بينهم.