كانت خمسة وأصبحت أحد عشر. يبدو كما لو أن مجموعة «بريكس» تنتقل من «ألعاب الصالات» إلى استاد فسيح، وباتساع الملعب تتطوَّر القوانين والأهداف. الواضح أن هناك إصرارًا على ضبط ميزان العالم الذى ظل مائلاً لعقود، وليس ذلك بمنطقٍ ثورى يبتغى تفكيك المنظومة، أو إحلال بديل يرث الغطرسة؛ إنما يجرى بنزوعٍ إصلاحى يرتكز على الأبنية القائمة، فلا يقترح هيكلاً جديدًا لبيئة الاقتصاد الدولية، بقدر ما يشتغل عبر القنوات المُعتمدة سعيًا للضبط وضمان التكافؤ. هذا الطرح الناضج ينقل المواجهة من العداء للتنافس على قواعد غير مُنحازة مسبقًا، ويحرم دول الشمال من السرديّة الباهتة بشأن استهداف مُنجز الحضارة الذى حصروه فى الوصفة الغربية، بكل ما شابها من عوار، وما ألقته على كواهل الجنوب من أعباء.
اتجاه «بريكس» لتوسعة عضويَّتها، ودعوة ست دول تتقدمها مصر للانضمام اعتبارًا من يناير المقبل، قفزة بعيدة على طريق حوكمة الاقتصاد العالمى، وتطوير قوانين الشراكة والمُنافسة. كان مُتوقَّعًا أن تنحو قمة جنوب أفريقيا لذلك، رغم ما تردَّد عن خلافات «هندى/ صينى» بشأن استقطاب أعضاء. أهداف المجموعة المُعلَنة أنها ضد التوظيف الجيوسياسى للاقتصاد، ورسائل المُؤسِّسين الآن وسابقًا تحمل ضيقًا واضحًا من التلاعب بالتجارة وأنظمة الدفع لفائدة دول بعينها، ولمُحاصرة المنافسين ومن لا ينزلون على شروط الهيمنة الأطلسية؛ لذا كان الاتساق القيمى والخطابى يقضى بأن تخرج «بريكس» من السياسة، وتتجاوز الرواسب البينية والعالقة مع العالم الأول. ولعلَّها نجحت، بالنظر إلى انتصار رغبة الانفتاح على مخاوف التسييس، ولقائمة المدعوّين بتشابكاتهم الإقليمية والدولية العريضة، وحجم ما بينهم من تمايزات واضحة، وما يملكونه من فرص لترميم شقوق الجغرافيا بغراء الاقتصاد.
كانت رسائل «بريكس» منذ انطلاق القمة، الثلاثاء، بالغة القوة والوضوح، والنضج أيضًا، فى إبداء تحفُّظها على غطرسة الشمال، وانحرافه بقواعد السوق المفتوحة خدمةً لأهداف الانغلاق والخَنق السياسى؛ لكن دون سلوك مسارات مُوغلة فى العداوة أو مُنذرة بالقطيعة. كانت الإشارات إيجابية فى تأكيد مساعى التكامل والتنمية، ونفى استهداف «الدولرة» وإقصاء المنظومة القائمة. وكما تضم قائمة المُؤسِّسين دُولاً مُتقاطعة بقوّة مع الغرب، كالهند وجنوب أفريقيا، ترجمت التوسعة حالة صفاء كاملة، فأغلب الأعضاء الجُدد على وفاقٍ يرتقى للشراكة الاستراتيجية للولايات المتحدة وكثير من أوروبا، وحتى من تشهد توتُّرًا فى العلاقات فإنها مُنخرطة فى تفاوض لا ينقطع. والرسالة الكاشفة أن «بريكس» تبنى مجالاً تعاونيًّا بين أعضائها، ولا تُؤسِّس حلفًا سياسيًّا أو عسكريًّا، وليس من غاياتها حرمان الأسواق المُتقدّمة من مكاسبها، إنما الدفاع عن مصالح تقع مسألة صيانتها وتحفيزها فى صُلب التنمية والعدالة وتكافؤ الفرص.
رغم ذلك، لا تتوارى السياسة تمامًا. بين الصين والهند نزاع حدودى أوشك على التصفية، وقد فشلت مُحاولات الغرب لاستقطاب نيودلهى ضد بكين، ولعل فضل التهدئة لـ«بريكس». يُترجَم النزوع التوفيقى فى تحليل تركيبة العضويات الجديدة: مصر وإثيوبيا رغم خلافات سدّ النهضة، والخليج والفُرس رغم صراعات الجغرافيا والموارد والأذرع الطويلة، وإيران نفسها فى خضم نزاعات دولية عالية السخونة. كأن التجمُّع يُوظِّف الاقتصاد لتبريد ساحات المواجهة، ويقبض على أوراقٍ فاعلة فى نطاقاتها ووثيقة الصلة بمجالات حيوية للغرب؛ وفى ذلك سعى مُركّب لابتكار التوازن بإرساء رافعة تنموية للمجموعة، وملء مساحة التنافس بملفات مُتلهبة، من صالح الشمال نفسه أن يُبادر لتلطيفها، وبذلك تُحصّن «بريكس» فلسفتها الائتلافية والتحرُّرية بمعانقة التنمية ومُحاذاة السياسة.
كان وزن المجموعة النسبى: نحو 23% من الناتج العالمى، و18% من التجارة، و27% و42% من الجغرافيا والسكان على التوالى. الوافدون الستّة يُضيفون ناتجًا بأكثر من 3.2 تريليون دولار، و400 مليون إنسان، وقرابة 9 ملايين كيلو مترمُربع. أى أننا إزاء تكتُّل يحوز ثُلث الجغرافيا وخُمسى الناتج وقرابة نصف البشر، وتلك سوق فسيحة لا تنقصها الوفرة ولا القوّة البشرية، ولديها من مُحفّزات النمو ما قد يفوق المنافسين، لا سيما أن كثيرًا منهم طالما اعتمدوا على موارد الفقراء أصلاً فى إزكاء رفاهيَّتهم وتحصين قدرتهم على السبق والهيمنة.
نظريًّا قد تبدو الفوارق بعيدة بين الشمال والجنوب. الدول السبع تقتطع قرابة نصف الناتج العالمى مقسومًا على 800 مليون ساكن فقط؛ وعمليًّا لا يُشكّل ذلك مُعوّقًا للأهداف المُخطَّطة؛ إذ تضع «بريكس» التنمية الاقتصادية والبشرية على قدم المساواة، وتهتم بالموارد السكانية كأصلٍ فاعل إنتاجيًّا وتجاريًّا. يتَّضح ذلك فى اختيار إثيوبيا بناتج لا يتجاوز 150 مليار دولار وديموغرافيا تتجاوز 120 مليونًا. المعنى أن التجمع لا يحصر جهوده فى بناء قوّة جاهزة للصدارة الفورية؛ إنما امتلاك ركائز صالحة لمُواصلة العمل والترقِّى على أرضٍ ثابتة. الصيغة المُعتمدة توفّر سوقًا ضخمة وغنيَّة بالموارد والأيدى العاملة، وبطلبٍ استهلاكى عالٍ مع هامش بعيد عن التشبُّع أو الرفاه. هكذا لا يبدو الائتلاف هنا رباطًا لتنظيم المنافع كما فى مجموعة السبع؛ لكنه أقرب لمصنع فى طور التأسيس، لا ينتهى باستكمال هياكله، بل يبدأ منها رحلةً طويلة مُقبلة، محفوفةً بالتحديات ومليئة بالوعود أيضًا.
كان من أبرز مُخرجات القمَّة، بجانب توسيع العضوية، التحرّك لضبط منظومة المدفوعات والتجارة بالعملات المحلية، وحديث البعض عن تشكيل مجموعة عمل تمهيدية لمشروع العملة المُشتركة. يحوز الدولار واليورو فوق 70% من ميزان الاحتياطيات والمُبادلات، ولا يُعبّر ذلك عن المراكز الاقتصادية الحقيقية، كما لا يخلو من استغلال سياسى غير مُنضبط. اتجاه «بريكس» لابتكار نظام مُجاور لـ«سويفت» أو بديل عنه، ورفع حصص العملات الوطنية فى التجارة البينية، ليس مأمولاً أن يدفع الدولار للخلف قريبًا، إنما قد يُقلّص فاعليته فى المناورة السياسية وكونه أداةً عقابية، وقد يدفع الغرب لمراجعة سياساته والانتظام على قواعد القانون الدولى بجموحٍ وغطرسة أقل. وكذلك قد تكون آثار البحث عن عملة مُوحَّدة، رغم صعوبة الخطوة وحاجتها لحوكمة أكبر للأسواق والتوافق على بنك مركزى وسياسات نقدية وأنظمة عقاب، وما يتفرّع من تشابكات بشأن الأوزان النسبية والحصص النقدية والائتمانية وغيرها، إلا أن الأثر الكُلّى المُحتمل فى المستقبل يظلّ مُرتبطًا بمجموع الخطوات الصغيرة، وتأثيراتها المرحليّة وبعيدة المدى.
من المُتوقَّع أن تنمو تعاملات دول «بريكس» بالعملات المحلية لنحو 30% من تداولاتها فى غضون عشر سنوات. إزاء حجم الناتج والتجارة الآن، وتوقَّعات توسعة العضوية مُستقبلاً مع وقوف 40 دولة على الأبواب ضمن مسار «بريكس +»؛ فقد نكون بحلول 2030 وما بعده بصدد أدوارٍ أقل للدولار واليورو، ما يعنى أثرًا أقل لسياسات الشمال على أسواق ومُوازنات الجنوب، وخفضًا للطلب على النقد الأجنبى وما يُحدثه من ارتباك فى الصرف والاحتياطى والسندات ومستويات العجز. ولا تنحصر المزايا فى أثر الإحلال النقدى المُتدرِّج؛ بل تمتد لتشمل تداولات البضائع والتكنولوجيا والمعرفة والاستثمارات البينية، والتنمية الاجتماعية وتمكين عشرات ملايين السكان، وتقليص ضغوط الغرب أو تعزيز إغراءاته لاستبقاء حضوره ضمن اهتمامات الحُلفاء القدامى. قد تكون المنافع بطيئة فى الكثافة والزمن؛ إلا أنها مضمونة على المدى البعيد. حالة المجموعة الآن ليست كالأمس، ولن تكون غدًا كما هى اليوم.
رغم التشابكات السياسية، تمثل فعاليات مثل شنغهاى وميركوسور وكوميسا رصيدًا مضافًا لـ«بريكس»، وبالمثل يمكن النظر لمشروع طريق الحرير الصينى بنطاقه الجغرافى والاقتصادى العريض. بإضافة مصر تنفتح المجموعة على أفريقيا والعرب وأحد أهم ممرَّات التجارة فى قناة السويس، ومع السعودية والإمارات وإيران تصبح قوّةً طاقوية ضاربة، وبفوائض روسيا والبرازيل والأرجنتين تتعزّز إمكانياتها فى الغذاء. وإلى ذلك، تُحقّق فائضًا تجاريًّا يتجاوز 700 مليار دولار، مقابل عجزٍ لمجموعة السبع بأكثر من تريليون دولار. إن تكتُّلاً بهذا الحجم والقُدرات وعناصر الفاعلية بين أربع قارات، لا يُمثّل فرصةً لامعةً لدوله ومُستقبلها فقط؛ إنما يُشكِّل تحدّيًا ضخمًا للولايات المتحدة وحُلفائها الأُوروبيين، حتى لو لم يكن التحدّى ضمن أهداف التجمع راهنًا على الأقل، إلا أنه سيتسبَّب فى انعكاسات سياسية واقتصادية على البيئة الدولية قريبًا.
بالهيكل الجديد تملك «بريكس» 3 قوى نووية وبطاقتى فيتو فى مجلس الأمن. وبين 11 عضوًا هناك بلدان فى نطاق العقوبات الغربية/ روسيا وإيران، وما تزال الحرب التجارية على الصين مُمتدّة وإن خفت إيقاعها قليلاً. أكدت المجموعة أنها لا تسعى للصدام، لكنه قد يأتيها دون سعى أو رغبة. كان التحرُّك لاعتماد العملات الوطنية وسيلةً لتأمين بيئة التحالف من أثر المُناكفات، بجانب منافعه الاقتصادية طبعًا؛ لكنه لا يزال غير كافٍ لتجنب المُعوّقات بالكامل. من المُرجَّح أن تقع توترات بفعل مضايقة موسكو وطهران، والتحرش الذى لا يتوقف تجاه بكين، وقد يُسبّب ذلك بعض الأزمات أو يُعطّل أهداف ترقية التكامل. اللجوء لذلك قد يكون أغبى خيار لدى الغرب؛ إذ سيدفع فى اتجاه تنشيط المُبادلات المُقوّمة بعملات الأعضاء، وتطوير آلية للمقاصة والتسوية داخل سلّتهم النقدية، وقد يُسرّع وتيرة البحث عن فضاء جامع بعُملة مُوحّدة أو منظومة مُحاسبية منفصلة عن الدولار.. يمكن القول إن عناصر التوتر المُحتملة، هى نفسها غلاف أمان المجموعة ووقود انطلاقها المأمول، وربما قصدت فى تركيبة عضويتها غير المُتجانسة تمامًا الوصول لذلك: إما بتحييد الغريم الغربى، أو الاستفادة من فائض جنونه المعتاد.
مصر واحدة من أبرز الداعين لنظام عالمى أكثر توازنًا. لم يغب ذلك عن خطابها فى كل المحافل: الأمم المتحدة، والقمم الأفريقية مع اليابان والصين وأمريكا وروسيا، وفى منتدى التمويل الأخير بفرنسا. عضوية «بريكس» تُحقّق جانبًا مهمًّا من الأهداف، فضلاً عن مزايا اقتصادية مُنتظَرة تحت المظلَّة الائتلافية الجديدة. تجارتنا مع المجموعة تتجاوز 31 مليار دولار مُرشَّحة للتزايد بفعل المُعاملة التفضيلية أو تمرير منافع اتفاقات التجارة الحرّة لبقيّة الأعضاء، واستثماراتهم لدينا أقل من مليار دولار ستنمو قطعًا بأثر الضخّ المُباشر أو الاستفادة من برامج بنك التنمية الجديد، الذى يعمل منذ 2015 برأسمال 50 مليار دولار يستثمر 66% منها فى 96 مشروعًا ضخمًا.
تتضمن قائمة المنافع: الوصول لقنوات تمويل أيسر وأقل تسييسًا، وترشيد مخاطر الديون السيادية، وتأمين السلع الاستراتيجية، وإعادة هيكلة الميزان التجارى، ونقل المعرفة والتقنية وتوطين الصناعات المُتقدِّمة، وتنشيط برامج التأهيل والتنمية المجتمعية، ورفع حصة التجارة خارج قيود الدولار، وتوطيد الروابط مع أهم الأسواق الناشئة، وتحفيز التدفق السياحى منها مع توظيف موارده فى المُبادلات السلعية. قد يستغرق الأمر وقتًا، وتختلف نجاحاته وفق حركة السوق المحلية، وبقدر حماسة المجموعة ومقاومة الغرب؛ لكن تظل مصر عضوًا مُفيدًا للغاية لـ»بريكس»، وفى مُقدِّمة المُستفيدين بالعضوية، وهى فائدة مُستدامة، تبدأ من محطّة مُبكِّرة لن تصل سريعًا للتشبُّع، ولن تكون فريسةً سهلة للمُحاصرة والتقويض.
شروط الانضمام تحمل رسائل إيجابية عن مصر؛ إذ تؤكد الاستقرار السياسى والأمنى، واستراتيجية الموقع التجارى والاقتصادى إقليميًّا وعالميًّا، وقدرة النمو السريع وتنوُّع مُكوّنات السوق. والأهداف العليا للتجمُّع فى صالحنا: بالبحث عن تعدّدية قُطبية، وتحصين الاقتصاد من السياسة، وتقليص أثر الدولار وضغوط السيولة وتفاقم الديون، مع خلق تنافس تجارى مفتوح، وتمويل مشروعات البنية التحتية والتنمية الخضراء.
تعرف دول «بريكس» أن الطريق ليست مُمهَّدة أو سهلة، وهناك تحديات تبدأ من تسلُّط الشمال واعتباره أية محاولة استقلال تمرُّدًا يخصم من أرصدته، وتمتد إلى باقة إجراءات قد تشتمل على حصار أو تضييق أو تلويح بعقوبات، وربما تدفع الأطلسيِّين للتنافس على استمالة أعضاء المجموعة ومن يسعون لعضويَّتها، لا سيما أن بعضها ترتبط ارتباطًا عميقًا بالأسواق الغربية.
المُؤكَّد أن المخاطر على طاولة «بريكس» باهتمام لا يقل عن المزايا والفرص، والسنوات المقبلة ستشهد مناورات مُركَّبة ومُتداخلة من الطرفين؛ لكن الأرجح أن تنحل هيمنة الدول الكبرى جزئيًّا، ويتقدّم التكتُّل نحو مزيدٍ من الفاعلية وفرض أجندة تحرُّرية.
ما يحدث إعادة صياغة لبيئة الاقتصاد الدولية، تأخَّرت كثيرًا تحت ضغط السياسة وتأثيرات هضم الحقوق وانعدام العدالة، ولم يعد مقبولاً ولا مُمكنًا أن يُدار العالم بالقوانين القديمة. الواقعية تقتضى أن يُفسح الشمال مساحةً لخلق التوازن مع الجنوب؛ لتستقيم المنافسة تحت سقف الاقتصاد، ولا يتسبَّب بضيق أُفقه فى تحوّل الشراكات التجارية إلى روافع جيوسياسية، وهو خيارٌ غير بعيدٍ؛ وإن بدا أن بعض دول بريكس لا تُحبّذه. الخشونة احتمال قائم، وليست الخيار الأمثل. القطارات المُتتابعة لا يُمكن إزاحتها عن القضبان، كما لا تعود إلى الخلف، قد تُبطئ سرعتها أو تتوقّف قليلاً؛ لكنها حتما ستصل لوُجهتها المقصودة.