في الوقت الذي تمثل فيه مجموعة "بريكس"، تجسيدا لمناهضة "الهيمنة" وأدواتها، على النحو الذي أوضحته في مقالي السابق، فإنها في الوقت نفسه، تبدو نموذجا مهما لما يمكننا تسميته بـ"صناعة" الحالة التعددية، والتي تمثل السمة الغالبة على الحقبة الدولية الجديدة، وهو ما يبدو في العديد من الأوجه، ربما أبرزها قدرتها على تقديم "أدوات" بديلة يمكنها تعويض الفراغ الناجم عن التراجع الكبير للقوى الدولية الحاكمة منذ أكثر من ثلاثة عقود كاملة من الزمن، على غرار تقديم سلة من العملات يمكن الاعتماد عليها في التعامل بين أعضائها، أو توحيد عملاتهم، أو غير ذلك من الإجراءات المطروحة من النقاش، والتي تهدف في مجملها إلى طرح بديل لـ"الدولار"، الذي سيطر على أسواق العالم منذ عقود طويلة.
ولعل صناعة "الحالة التعددية"، لا تقتصر على تنويع العملات التي يمكن الاعتماد عليها في التجارة الدولية، وهو ما يبدو ضرورة ملحة، في اللحظة الراهنة، في ظل التضخم الناجم عن الأزمات الكبيرة التي تواجه العالم، وإنما تمتد إلى تلافي الأخطاء التي ربما وقعت فيها الولايات المتحدة، عندما أرست أدواتها لخوض طريقها نحو القيادة العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، وأهمها اعتمادها على الغرب الأوروبي، باعتباره الطرف الأقوى في المعادلة الدولية، في ظل سيطرته على مقاليد العالم في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وتحديدا خلال الحقبة الاستعمارية، رغم ما أصابه من دمار ووهن جراء المعارك التي انغمس فيها خلال النصف الأول من القرن العشرين، بينما استمر اعتماد واشنطن على أوروبا الغربية بعد انقضاء الحرب الباردة، فأصبح تصدير النموذج الغربي بمفرده هو السبيل لتعزيز القيادة الأمريكية، أو بالأحرى هيمنتها، سواء كان ذلك بالترهيب، عبر العقوبات تارة والغزو والاحتلال تارة أخرى، من جانب، أو الترغيب من خلال الحوافز، التي ظهرت في صورة الدعم المقدم للدول، سواء في إطار تنموي أو عسكري أو غير ذلك من جانب أخر، وهو ما بدا في منظومة القيم التي أرستها الولايات المتحدة، والتي شملت الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير وغيرها.
إلا أن منظومة "بريكس" تبنت نهجا مختلفا، يعتمد على التنوع، عبر التمدد نحو نطاق جغرافي واسع، متجاوز الأقاليم التقليدية، من خلال تمثيل قوي لكافة قارات العالم، بدءً من أوروبا، والتي تمثلها روسيا، مرورا بآسيا، وإفريقيا، وحتى دول أمريكا اللاتينية، وهو ما يعكس عدم الالتزام بمنطقة جغرافية معينة، بينما تتقاسم عضويته دول العالم النامي والصاعد، في ظل وجود قوى مهمة، على غرار الصين، والهند، واللتين وإن تمسكتا بـ"لقب" الدول النامية، فإنهما تجاوزا تلك المرحلة عمليا، في ضوء ما يحققاه من نمو اقتصادي وصعود سياسي ملموس على الساحة الدولية، ناهيك عن روسيا، والتي تمكنت خلال السنوات الماضية استعادة جزء كبير من نفوذها على المستوى العالمي.
"صناعة التعددية" من منظور "بريكس" يبدو ممتدا إلى عضويتها، وهو ما يبدو في طبيعة العلاقات بين الدول الأعضاء، حيث يبدو للوهلة الأولى أن ثمة حالة من عدم الانسجام بين أعضائها، وهو ما يبدو في العلاقة بين الصين والهند، في ظل ما يشوبها من تنافس، ناهيك عن اختلاف المواقف فيما بينهم تجاه الغرب، خاصة الولايات المتحدة، حيث يحظى العديد من أعضاء التجمع بعلاقات قوية مع واشنطن ودول أوروبا الغربية، وهو ما يعكس قدرة غير تقليدية على دمج مختلف التوجهات، وإن تعارضت أحيانا في "بوتقة" المصالح المشتركة، في ظل الفوائد الناجمة عن العمل على تعزيزها، جنبا إلى جنب مع تحييد الخلافات حتى تتوارى وراءها.
فلو نظرنا إلى عضوية "بريكس"، نجد أنها تحمل في طياتها ثلاثة توجهات، منها المعارض للهيمنة الأحادية، وهو الفريق الذي تتزعمه الصين وروسيا، وهناك فريق آخر يحتفظ بعلاقات قوية مع المعسكر الغربي، ويسعى للحفاظ عليها، كالهند والبرازيل، بينما يبقى فريق ثالث ملتزم بالحياد في صورته الإيجابية، وهو الاتجاه الذي يعززه انضمام مصر لعضوية المجموعة في العام المقبل بعد قبول طلبها خلال القمة الأخيرة التي انعقدت في جنوب أفريقيا، بينما تبقى حالة من الإجماع حول ضرورة التعاون بين الأعضاء بمختلف توجهاتهم، لتعزيز حالة الصمود لديهم في مجابهة الأزمات الدولية الطارئة التي يشهدها العالم، لتذوب الخلافات الضيقة داخل بوتقة التنظيم.
الحالة "التعددية" التي يتسم بها التجمع الاقتصادي، رغم ما قد تثيره من انطباع أولي حول "عدم الانسجام"، إلا أنها في جوهرها تمثل ترجمة حقيقية لطبيعة العلاقات الدولية، وضرورة انتهاج سياسة جديدة لإدارة الخلافات بين الدول، بعيدا عن ممارسة أدوات الضغط، سواء في صورته السياسية والاقتصادية، وهو ما يتطلب قدرا كبيرا من الحنكة والخبرة في هذا الإطار، مما يعكس نجاعة اختيار الدول العربية (مصر والإمارات والسعودية) بعد ما حققوه من نجاج في إدارة العديد من الملفات الإقليمية في الشرق الاوسط مما أضفى قدرا كبيرا من الاستقرار الاقليمي، تبدو الحاجة ملحة إلى تعميمه في الفترة المقبلة، مع تمدد الصراعات إلى العديد من مناطق العالم.
وهنا يمكننا القول بأن تجمع "بريكس" يمثل حالة فريدة تتجاوز أهدافها، والتي تقوم في الاساس على تعزيز التعاون الاقتصادي بين أعضاءه، ليكون نواة لإرساء حالة من التعددية، وتقديم صياغة جديدة لشكل التحالفات الدولية على أساس من الشراكة وليس التطابق الكلي في وجهات النظر على غرار التحالفات التي أرستها حقبة الحرب الباردة
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة