حينما يؤمن الشخص بقناعاته فإنه بالتأكيد يرتاح فى سلوكه، و حينما تختلف قناعات الشخص عن تصرفاته، حينها يحدث الخلل و الاضطراب، وهو ما يطلق عليه أكاديميا نظرية "التنافر المعرفى"، و هنا لا نتحدث عن مثالية نريد الخوض فيها، أو عالم المدينة الفاضلة، لكننا نطرح فكرة التفاعل و المداومة بين السلوك و القناعات، وذلك أساس صناعة _ من وجهة نظرى_ النخبة الحقيقية التى يمكنها أن تتبنى القضايا وتدافع عنها وتعمل على نجاحها، و حتى فى طريقة نقدها و نقضها للسياقات، لديها استيعاب لوسائل التعديل والاضافة والحذف، فلا هى تمشى وراء هواها فى الاعتراض، ولا ترتكن لمساحات الدفء فى التأييد والمناصرة، بل تفعل ماهو واجب وموضوعى من منطلق دورها التاريخى، لأن النخب هى التى تشكل صورة الدولة وقوامها واستدامتها، و كل مساحة تتركها النخبة الحقيقية المؤسسة على وسائل صحيحة، كلما فتح ذلك المجال لتنشيط النخب موازية، وتلك النخب الموازية لايمكن وصمها بالسلبيات، و فى نفس الوقت لا يمكن الاطمئنان لانطباعاتها، فهناك بطبيعة الحال تشويش لديها، وربما دواخل قد تؤثر فى سيرها وطرحها للأفكار على الجمهور، و هناك دائما محاولات جذب لدى عناصرها، يزدهر ذلك الجذب بالتعرض لشخصيات ومواقف بعينها.
وما بين النخب الحقيقية والنخبة الموازية فيصل رئيسى وهى المراحل التاريخية فى عمر الأوطان والأمم، فهناك دائما شد وجذب بين الطرفين، والمنتصر فى النهاية هو من يمتلك قناعات حقيقية يدافع عنها ويشرحها ولا يمل من ذكرها وتفنيدها، وكذلك مواجهة الأسئلة المضادة والموجهة، و هنا المفرزة الحقيقية، أو كما يقول أحد أصدقائى "درجة الايمان بالقناعات"، فهناك بالفعل درجات فى القناعات، يتحكم فيها الخلفية السياسية والثقافة والقراءة والمتابعة و قراءة بعين منصفة للاجراءات المعلنة والسرية أيضا، فكل تلك أمور تبرهن على مدى قناعة الفرد وعدم قناعاته، و أخطر ما فى أى نخبة سواء نخبة حقيقية أو موازية، أن ينحصر أعضائها نفسيا، فيتركون مسار الاشتباك والمواجهة والتوضيح، ويذهبوا للمساحات الرمادية، وهى المناطق التى يضيع فيها الموقف، وتعوم فيها الآراء، فيظن الشخص أن ذلك أكثر أمانا له، لكنه _ للأسف_ يضيع فيها ويساهم فى تشتيت العقل الجمعى فى النهاية، و هذه المساحة بين الأبيض والأسود، مساحة تدمر الأمم، و تقصف أحلام المقتنعين، حتى وإن حافظت على موقع الشخص، لكنها لن تضمن له فى النهاية أي تاريخ يذكر.
وخطورة المواقف الرمادية أن تبعاتها تؤثر فى المجموع، أي أنه كلما زاد شخص فى تلك المساحة، كلما فقدت النخبة سلاح يمكن أن يساهم فى تدعيم الموقف العام، وهنا يظهر دور الفواعل فى النخب، فعليهم دورُ كبير فى تنشيط الأرض، ودعم المواقف بالمعلومات، وتحفيز وسائل الانتماء، والتذكير بالمجريات والسياقات التاريخية والحاضرة، ولماذا نذهب للمستقبل من خلال السياق الحالى تحديدا، وهذه التحركات مطلوبة وبقوة لشد عضد الكتلة الصلبة فى النخب المستهدفة، ولا يمكن الكسل فيها أو التهاون، و كلما زادت مساحة المشاركين فى عملية تنشيط الأرض، كلما زادت مساحة وقوة النخبة التى تقوم بذلك، سواء نخبة حقيقية، أو نخبة موازية، وفى المراحل التاريخية يجب أن يكون هناك دائما وسائل التذكير والتحفيز و التنشيط لكل ماهو ينتمى للصورة العامة للنخبة، فيصبح الجميع تروس تدور وتطحن وتنتج وتدير وتنفذ، وهذه مهمة أول لحظة فيها تماثل آخر لحظة، وآخر لحظة هذه لا يمكن التخطيط ليها وتحديد موعدها، خاصة فى ظل استمرارية الاستهداف المضاد.