ربما تكون تصريحات الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون حول «بريكس» هى الأكثر تعبيرا عما يواجه أوروبا والنظام العالمى الحالى من تحولات، ماكرون قال «لا يمكن التقليل من المحاولات التى تطلقها مجموعة بريكس للتوسع وإقامة نظام عالمى جديد»، وأشار خلال الاجتماع السنوى للسفراء، إلى أن النظام العالمى القائم على القانون والمساواة أصبح ضعيفا، ويتعقد يوما بعد يوم، لافتا إلى أن هناك خطرا يواجه أوروبا مع تراجع ثقلها الدولى وصعود قوى أخرى.
ماكرون قال أيضا إن حدود أوروبا مع أفريقيا تواجه تهديدات بسبب تصاعد الغضب ضد إرث الاستعمار، فى إشارة الى ما يواجه فرنسا فى النيجر ودول أفريقية أخرى تبدى تمردا على السيطرة الفرنسية، وبالرغم من أن ماكرون قال إن دبلوماسية فرنسا تحترم سيادة الشعوب، وأن الدبلوماسيين الفرنسيين فى النيجر أظهروا التزامهم بمسؤولياتهم، لكنه كان يعبر عن قلق حقيقى تجاه ما يجرى ضد فرنسا.
هذا القلق يبدو أكثر تعبيرا عن مدى ما تواجهه أوروبا أو النظام الغربى والأمريكى، الذى يسيطر على نظام عالمى مختل، دفع دولا كثيرة للبحث عن صياغات جديدة تعالج هذا الخلل، وتعبر أكثر عن مصالح اقتصادية وسياسية أصبحت تفرض نفسها، ولا يمكن أن يتجاهلها النظام العالمى الحالى، وكان إعلان رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامابوسا، إن مجموعة دول بريكس قررت دعوة ست دول لعضويتها هى السعودية ومصر والإمارات والأرجنتين وإيران وإثيوبيا، مثل إشارة واضحة على أن التغيرات الكمية انعكست فى تحولات كيفية تواجه النظام العالمى المختل أساسا من ثلاثة عقود على الأقل.
والواقع أن مخاوف ماكرون حول تراجع الدور الأوروبى بدأت منذ أربعة أعوام فى قمة السبع الكبار التى انعقدت فى باريس فى أغسطس 2019، وبالرغم من غياب روسيا والصين عن القمة، فقد كان حضورهما قويا، وكانت قمة السبع كاشفة أكثر عن وجود خلافات فى وجهات النظر بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، حول وجود اتجاهات لإعادة تشكيل موازين القوة فى العالم بناء على المصالح الاقتصادية، روسيا التى كانت عضوا فى مجموعة الثمانى حتى 2014 وتم تجميد عضويتها بعد ضم القرم، كانت حاضرة فى مناقشات قادة الدول السبع بباريس 2019، وقال الرئيس الفرنسى، إيمانويل ماكرون، إن نهاية هيمنة الحضارة الغربية حلت، فى ظل التغيرات الجيوسياسية وصعود الصين وروسيا، وأضاف «علينا أن نعيد التفكير بعلاقتنا مع روسيا.. منذ سقوط حائط برلين، والعلاقة مع روسيا تقوم على عدم الثقة، وعلينا ألا ننسى أن روسيا فى أوروبا، ولا يمكننا أن نؤسس للمشروع الأوروبى للحضارة الذى نؤمن به، من دون أن نعيد التفكير بعلاقتنا مع روسيا، ولا يجب أن تكون روسيا حليفا للصين، فروسيا مكانها فى أوروبا».
كانت تصريحات ماكرون تشير الى أهمية بناء نظام عالمى، ينهى خطر التفكك والاستقطاب، الرئيس الأمريكى ترامب أمام القمة قال إنه لا يرى داعيا لاستمرار استبعاد موسكو، والموقف الأوروبى من روسيا وقتها تجاوز حضور أو عدم حضور موسكو فى قمة السبع، بل إنه كان يتعلق بتوازنات القوة وإعادة بناء عالم ما بعد الحرب الباردة،
الصين كانت حاضرة أيضا فى قمة السبع عام 2019 من خلال الحديث عن إعادة النظر فى اتفاقية منظمة التجارة العالمية، وتصاعدت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وتبادل فرض رسوم جمركية على الواردات البينية، وهى إجراءات اقتربت من أوروبا وأثارت غضب الحلفاء الأوروبيين لأمريكا.
رحل ترامب وعاد الاستقطاب بين الولايات المتحدة وروسيا، ووصل الاستقطاب والصراع أقصاه بسعى الولايات المتحدة لضم أوكرانيا لحلف الناتو، ثم غزو روسيا لأوكرانيا بدعوى الدفاع عن أمنها وحدودها.
الشاهد أن فرنسا كانت تتحدث عن تقارب مع روسيا التى اعتبرها ماكرون وقتها أقرب إلى أوروبا، وصولا إلى حرب واضحة ضاعفت من المواجهة بين أوروبا وأمريكا من جهة وموسكو من جهة أخرى. وكشفت أكثر عن اختلال نظام عالمى اقتصادى، كان واضحا أنه سينتج تفاعلات وتداعيات، انتهت إلى اتساع بريكس والإعلان عن نظام اقتصادى مواز، وربما بديل عن نظام قائم لم يعد مناسبا حجم وتأثير الدول الناشئة، وهو ما دفع ماكرون للإعراب من قلقه بوضوح، من أن ما يجرى فى بريكس يخلق خطر «تجزئة العالم» الذى يجب تجنبه، وبالرغم من أنه قال إن فرنسا «تنوى التحدث مع جميع الشركاء، لكن يبقى التفاعل الاقتصادى والجيوسياسى قائما، وإن كان تجمع بريكس صعد بعد توسيعه، فإن هذا يشير إلى مزيد من الخطوات لعلاج اختلالات النظام العالمى، أو الاستمرار مقابل دفع ثمن التراجع وصعود وبناء نظام جديد».