السياسة لعبة مُواءمة، وإدارة لمُفردات الصراع كما تُدار القطع على رقعة الشطرنج، وهى بذلك ديناميكية وتستوعب التطوُّر وتبدُّل المواقف؛ لكنها لا تقبل التناقض.. لك أن تُعيد التموضع حسبما يُوافق مصالحك ولا يصادر قناعاتك؛ ولا يحق أن تحكم فى الموقف الواحد بقانونين مُتعارضين. تنشأ المشكلة حينما يستهلك السياسيّون مسموحات الحركة لفائدة شخصية أو تنظيمية؛ ثم يجتهدون فى حصار الآخرين بـ«الدوجما» والأحكام المُتصلِّبة. لا يكشف ذلك عن ارتباكٍ فكرى وإجرائى فقط؛ إنما يمس جوهر العمل السياسى الناضج؛ بوصفه تشابكًا بين بشر لا ملائكة، وسباق برامج لا عقائد، وتنافسًا على قبول الناس لا صدامًا لإطاحة الخصوم قبل الاحتكام للجمهور أصلاً. التحوُّل عن الإيمان بنسبية كل الأفكار، إلى الحطّ من بعضها والتبشير الطوباوى ببعضٍ آخر؛ إنما يكشف عن سذاجة تُقوّض المُمارسة من بابها؛ انطلاقًا من سعيها لإطلاق النسبى، والتخفّى وراء شعارات «التطهُّر» لحرمان المُنافسين من اجتراح خيارات تُوافق قراءتهم لصيرورة الزمن. فى الأخير، لا يُمكن أن تكون خصمًا للحرية ومُطالبًا بها، ولا أن تطلب الديمقراطية وأنت تُبادر مع كل فرصة لخنقها بغلظة.
مُناسبة ذلك، أن الدنيا قامت ولم تقعد مُؤخّرًا، على خلفية زيارة أحد السياسيين المصريين إلى دمشق ولقاء بشّار الأسد. بعيدًا من السياق الذى جاء تحت لافتة قومية؛ كانت مواقف الداخل مُتشنّجة إلى المدى الأقصى.. انتفض المُعارضون يمينًا ويسارًا ضد صديقهم السياسى البارز، وشريكهم فى عديد التحالفات وجولات التنسيق، وامتدّ الأمر لموجة إهانة وتسفيه، قادتها نُخب مدنيّة على قاعدة الردح والتلاسن، وبأوصافٍ لامست الاتهام الصريح بالخيانة والفاشية. ينفتح المشهد على مساحات عريضة من القراءة والتأويل؛ لكن أبرز ما يلفت النظر فيه إشهار أسلحة الشمولية والتكفير السياسى، وإسقاط كل الهوامش الموضوعية للخلاف الرزين، على بيّنةٍ من استكشاف المواقف وتفسيرها بنضجٍ وعقلانية. أوّل ما وصلنى شخصيًّا أننا إزاء عجز فادح عن «قوننة» البيئة الصراعية، بما ينتصر للسياسة على نزوات السياسيين، وإزاء تحالفاتٍ هشّة قد تتضرَّر أو يصيبها العطب، لمجرد انفلات حركة أحد مُكوّناتها خارج مازورة الوصاية المُعمَّمة دون اتفاق.. مهما كان الموقف صادمًا للبعض، فإن الارتدادات تخصم بعنفٍ من كل المحفوظات المُتكرّرة عن التنوّع والحرية وحق الحركة بما لا يخالف القانون والدستور.
لعلّ التناقض الحادث فى شأن الزيارة، وغيرها من مُماحكاتٍ سابقة، يُرَدّ إلى بيئةٍ حزبية غير ناضجة حتى اللحظة. أول شروط النضج أن تتّسق المواقف والخطابات فى الشخصى والعام على السواء؛ بمعنى أن تتحقَّق شُروط الحرية والديمقراطية داخل الكيانات المدنية؛ حتى يكون الخروج بمطالبها للفضاء العام قويمًا ومُقنعًا. الواقع أن كثيرين من وجهاء السياسة يعزلون بيئاتهم عن حاضنتها الاجتماعية العريضة؛ ليطيب لهم اجتراح كل صور الشِّقاق والتنازع والعصف بالقيم داخل مُؤسّساتهم الصغيرة؛ ثم يخرجون إلى المُؤسَّسة الكبيرة/ الدولة، حاملين مُدوّنات شعاراتية يسعون لفرضها من دون استيفاء شروط الفاعلية، أو الجدارة بما يدّعونه من نيابةٍ عن عناوين رسالية بيضاء. هكذا لا تكون حركتهم مُنضبطةً، ولا حديثهم بليغًا، ولا الناسُ قابلين للانخراط فى تناقضٍ يُطلّ برأسه بين كلمةٍ وإيماءة. ربما لذلك ينفضّ الجمهور عن الأحزاب، ويتعامى الحزبيّون عن أن الدودة فى أصل الشجرة.
بين أكثر من مائة لافتة حزبية. كثيرها تُدار لصالح عائلات «بالقُربى أو المصالح»، وغيرها لم تشهد انتخابًا أو تداولاً على مواقع القيادة، وما تزال بعضها عاجزةً عن الحضور باستيفاء المشروعيّة وشروط التأسيس الزهيدة.. قبل شهور ترشَّح أحد السياسيين لرئاسة أحد أحزاب ما بعد يناير، وعندما خسر السباق استقال، ثم التحق بحزبٍ يكاد يُطابق برنامج بيته القديم، مُبرّرًا «الاحتراف الحزبى» بأن اللافتة الجديدة أقرب وأكثر تعبيرًا عن رؤاه. لو كان الخلاف فى الأفكار فلماذا امتدّت العضوية وكانت المنافسة على المنصب؟ ولو كان المنطق أن أكون رئيسًا أو لن ألعب، فلماذا الحديث عن الديمقراطية والأيديولوجيا من الأساس؟ مُؤخّرًا تحدّث مُمثّل أحد الأحزاب فى «الحوار الوطنى» عن أن ديون مصر الخارجية لم تتجاوز الحدود الآمنة، لم يقل حتى إنه يدعم الاقتراض أو يُشجّع عليه؛ لكن حزبه بادر بإدانته وإصدار بيان مُهين ضده، تبعه حديثٌ عن التحقيق وتفعيل اللائحة بما قد ينتهى لفصله، لو كان الحديث عن التزامٍ حزبى فلماذا لم تُرتَّب معه الأفكار قبل المشاركة؟ ولو كان الانحياز للديمقراطية تحت سقف الأيديولوجيا، فلماذا أُدين حديثٌ فنّى لم يتجاوز خطوط الحزب السياسية العريضة؟ مهما بدت الأسئلة سهلةً وبدائية؛ ربما لا تجد أجوبة مُقنعة تتجاوز عتبة المُراهقة. الأرجح أن التشوّش الذى يُفصح عن نفسه بالبيئة الاجتماعية، لا يقل عن مثيله فى أروقة الأحزاب، وأن اللقاء لم يكن على قاعدة فكرية أو انحيازات مُشتركة، بقدر ما يتأسَّس على «جبهوية تغالبيّة» غرضها مُكاسرة الخصوم بالخطابة والدعايات، وليس بترقية البرامج وإنضاجها وبيعها للمعنيِّين الأُصلاء بها، أى لجمهور الناخبين.
قديمًا بدأ الناصريون تجربتهم حزبًا، ثم انتهوا إلى أربعة.. انشق «التحالف الشعبى» عن «التجمّع» من دون تمايزٍ فى الفكر والبرامج، ثم انشق عنه «العيش والحرية» دون مُؤسّسات أو قدرة على الوجود الكامل. إذا كانت الحرية وإطلاق حقّ تأسيس الأحزاب يقبلان هذه التصدعات وأعمق منها؛ فإن العبرة تظل فى الفاعلية والأثر، وفى اجتراح مسارات أكثر كفاءة، وطرح بدائل أقدر على الإقناع وملء الفراغات. ما لم تتحقَّق تلك الأدوار بكاملها، أو على الأقل تتجاوز التجارب المُتفرّعة عنها؛ فقد لا تعدو موجات الانقسام على الذات أن تكون صراعات شخصية وبحثًا عن أدوارٍ ومنافع. نحو نصف القرن منذ العودة للعمل الحزبى، عاش السياسيون فيها كل الأجواء المُعطِّلة والانفتاحية، بين استقرار رتيب قبل يناير، وفوضى عارمة بعدها، ومناوشات وتلاوين ومُعسكرات متضاربة منذ 2013 حتى «الحوار الوطنى»، وكانت الحصيلة واحدةً تقريبًا طوال الوقت. ارتبك الليبراليون وتحالفوا مع الإخوان، وأحزاب اشتراكية تحوَّلت إلى إسلامية، وناصريّون دخلوا البرلمان تحت جناح الرجعية الدينية، ورغم انتهاك كل شروط المنطق واللعب النظيف لم تتقدَّم الأحزاب فى الشارع، ولا حتى بين قواعدها ومحيطها المباشر. هل الهواء ثقيل إلى درجة أنها لا تستطيع التنفُّس؟ أم أنها أدمنت إحراق نفاياتها واستنشاق أكسيد الكربون؟!
عندما أعلنت «الإخوان» فى 2011 أنها تنحاز للتوافق والديمقراطية، تجاهلت قوى السياسة تاريخ الجماعة، وقفزت على خبراتها السوداء معها. بدأ الحديث بـ«مُشاركة لا مُغالبة» ثم سيطروا على البرلمان وتأسيسية الدستور، واستُكمل بإعلان الترفُّع عن سباق الرئاسة ثم دفعوا باثنين ظاهرين وثلاثة أُجراء رماديين، وأحكموا قبضتهم على الحكومة والمحافظين والأجهزة التنفيذية، وخنقوا الدستور والقانون بإعلان مشبوه، وضربوا المعارضين وقتلوهم فى الشوارع، وسعوا لإنشاء ميليشيات مُسلّحة كنواة لحرس ثورى أو جيش موازٍ، وحاصروا الإعلام والمحاكم مُرتدّين عن كل الشعارات التى رفعوها. ساعدهم فى ذلك إحسان ظنّ النُّخب المدنية، أو سذاجتها، وهرولة كثيرين منهم إلى: التحالف الديمقراطى، ومؤتمر فيرمونت، واجتماعات وتفاهمات عديدة، قليلها مُعلن وكثيرها أخفوه لأنه لم يكن شريفًا، وحتى الآن ما يزال البعض يُلوّحون بورقة التنسيق مع الأُصوليين، رغم ما فيها من انتهازية وخيانة لأيديولوجياتهم قبل المجتمع.. الاستخلاص من كل ذلك، أن ادّعاء الديمقراطية لا يكفى لأن تكون ديمقراطيًّا، والتجارة بالحرية لا تمنع من أن تكون فاشيًّا وانتهازيًّا. هل تلك السقطات كانت من نصيب الإخوان وحدهم، أم أن بعض التيارات انزلقت معهم فيها؟ أتصوُّر أن السؤال أعقد من التسرُّع بحسمه لصالح كيانات وسياسيين يتحرّكون بيننا؛ لكنهم لم يتجاوزوا تشوُّهات الماضى، أو لا يتورّعون عن انتهاج الأساليب نفسها لو سنحت الفرصة!
حتى أسابيع مضت، كان بالإمكان الحديث عن قيودٍ قانونية على دمشق. أما وقد عادت إلى الجامعة العربية؛ فقد استردّت حضورها المشروع فى منظومة العمل الإقليمى.. تيارات السياسة الشرعية يُفترَض أنها تنضبط بأعراف الدولة ومصالحها، وأحاديث القِيَم المُجرَّدة تُفسد السياسة والقيم معًا. ماذا لو وصل حزب معارض إلى السلطة: هل يُراعى مقتضيات الأمن القومى أم يستمرئ الخطابية المدرسية التى مُورست خلال الأيام الأخيرة؟ لست فى وارد الدفاع عن صاحب الزيارة، ولن أكون أقرب إليه من أصدقائه وأبناء تيّاره الذين نهشوا لحمه وخاضوا فى شرفه السياسى؛ إنما ما أقف بصدده يخص حدود التشابك مع المنافسين، أو مع الدولة، تحت سقف الالتزامات الوطنية. عندما استباحت الميليشيات سوريا لم يتراجع الرومانسيون والسُّذّج وأصحاب المصالح عن استهلاك حديث «الثورة»، وكانوا يرون تدفُّق المُقاتلين والسلاح من أطرافها. هل يختلف ذلك عن الصمت إزاء موجات الإرهاب فى سيناء بعد 2013؟ حتى لو أخطأ «الأسد» هناك؛ فقد ثبت أنه لم يكن فى مُباراة كُرة مع الملائكة. إدانته مع الصمت على الأُصولية المُسلّحة ليست من القِيَم فى شىء، وإدانة من يُعيدون التموضع بعدما رأوا ما استجد من وقائع ليست من النضج فى شىء.. ومحاولة تمرير السياسة من «ثُقب إبرة» المُتطهّرين لا تتناسب إطلاقًا مع سوابق مواقفهم، ولا مع لواحق مُمارساتهم داخل أحزابهم، وتجاه الخصوم والحلفاء.
الذين ساءتهم مُقابلة سُلطةٍ شرعية عليها ملاحظات؛ تسامحوا مع وَصل الإرهابيين الموصومين بالقول والمُمارسة والقانون. لم ينتقدوا لقاء أحد الكوادر الناصرية لوكيل عن الإخوان فى بيروت، ولا الإطلالات المُتكرّرة لمُنسّق أحدث تحالفاتهم على شاشات الجماعة الإرهابية. الميزان مائل والمواقف تُتّخذ بالقطعة، وربما من أجل المُكايدة فقط.. الوجه الذى وُضِع فى مرمى التصويب مُؤخّرًا، تورَّط من قبل فى مُمارسات تحت خط الكيد والشعبوية والمُزايدة، وكان عرّابًا لمُحالفة «تنظيم البنا»، والتقى قائد ميليشيا إقليمية تضفر جديلة شرّها من خيوط الإرهاب واختطاف الدولة ومُعاداة العروبة، التى لسخرية الأيديولوجيا وبُؤس الشعارات كانت دافعه أصلاً للقاء. لعلّها العدالة تُسقيه من كأسٍ صبَّها هو وتيَّاره لخصومهم سابقًا، أو الهياج بفائض أدرينالين الحماسة الأيديولوجية الذى يُورد أصحابه موارد التنابذ وفُجر الخُصومة. أيا كانت البواعث، وعلى أى وجه ذهب الذاهبون فى تفسير المآلات، فالوضع يُفصح عن تعالٍ يُمارسه فُرقاء، وليس مُناصحة أصدقاء بغرض الجَبر والتقويم. ولا يخلو من غطرسة ومَيل إلى الوصاية، وجاهزية لشطب المُنافسين بالطرد من حظيرة القيم، وبالإعدام الدعائى على رؤوس الأشهاد. تلك سلوكيات لا تنسجم مع طبيعة السياسة، ولا تُطمئِن إلى سلامة المقاصد، وإلى عدالة الحُكم؛ لو تيسَّر أن تفترش تلك الطبقة صدر المشهد.
لا قيمة من دون اختبارٍ واختيار؛ أى لا يُمكن أن تدّعى فى نفسك صفةً أو قيمة ما لم تعبر امتحان البدائل والأضداد. حتى تكون شريفًا يجب أن تكبح شيطانك وتقاوم مُغريات السقوط، ولتكون ديمقراطيًّا يتعيَّن أن تهزم التسلُّط داخلك ومع الآخرين.. للأسف، يبدو أن الحرية والديمقراطية فى مُدوّنات البعض ليست أكثر من تكئةٍ يُداس عليها فى رحلة الصعود، أو تُرفع فى وجوه المُنافسين كما رُفعت المصاحف قديمًا على أسنّة الرماح، بالضبط كما تعامل معها الإخوان بمنطق على بلحاج وجبهة الإنقاذ الجزائرية، التى ارتقت بالصناديق ثم سعت إلى إطاحة السلالم ومعها الإرادة الشعبية على طول ذراعها المُمسكة بالبندقية والسيف. هذا لا يُزعج فقط من جهة العنف المكتوم فى صدور من يجترحون السياسة بخطابات مدنيّة ومُرتكزات شمولية؛ إنما يطعن فى صدقيّة أحاديثهم عن الإيمان بالحرية والديمقراطية، وفى تمسُّكهم بهما لو انتقلوا من هامش المعارضة إلى متن السلطة، إذ إن كلَّ إيمانٍ مجّانى، لا يقرّ فى القلب ولا يُصدّقه العمل، قد لا يكون حقيقيًّا، ولا يُعوَّل عليه للأسف.