عادت سيدة الغناء العربى أم كلثوم، إلى مصر من رحلة علاج طويلة قضتها فى الخارج، وبعد أن قضت معظم الصيف فى منتجع «ياد جاشتين» بالنمسا، وفى ليلة الأحد 10 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1972 كانت وقفتها الأخيرة والنهائية بقاعة الاحتفالات الكبرى جمال عبدالناصر بجامعة القاهرة، فى سلسلة حفلاتها لصالح المجهود الحربى، وبدأتها بعد هزيمة يونيو 1967، حسبما يذكر الباحث كريم جمال فى كتابه «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى».
يضع «جمال» هذا الحفل فى سياق تاريخى أثرت فيه التغيرات السياسية التى شهدتها مصر بعد رحيل جمال عبدالناصر يوم 28 سبتمبر 1970، وتبدل الوجوه وصعود نخبة جديدة من السياسيين مع بداية عصر السادات وبالتحديد منذ حركة 15 مايو 1971 التى شهدت وضع كبار معاونى عبدالناصر فى السجون.
يؤكد «جمال»: «كان منجز المجهود الحربى الذى قدمته أم كلثوم فى سنواتها الأخيرة كافيا لتحويلها إلى رمز قومى مقدس فى المخيلة الشعبية، فبعد أن قدمت قرابة الثلاثة ملايين جنيه من أجل المعركة، وضخت فى الخزانة المصرية ما يزيد على نصف مليون جنيه بالعملة الصعبة هى حصيلة حفلاتها الخارجية، وبعد أن استطاعت - مع كوادر «هيئة التجمع الوطنى للمرأة المصرية» - تنشيط حركة جمع سبائك الذهب فى الأيام الأولى للهزيمة، أحيطت بهالات القداسة الوطنية، واكتسبت قوتها كرمز قومى من تفاعلها مع ظروف وطنها العصيبة».
بالرغم من هذا العطاء الوطنى العظيم لأم كلثوم، إلا أنه كان من توابع التحولات الجديدة مع بداية عصر السادات «محاولة إقصاء أم كلثوم عن المشهد الفنى والاجتماعى، وتأكد رجال العهد الجديد من أن أم كلثوم ما هى إلا المعادل الأنثوى لعبدالناصر بشعبيته العربية الطاغية وحضوره الكاريزمى»، وفقا لما يذكره «جمال»، مضيفا :«بطبيعة الحال لم يكن فى مقدور السيدة أم كلثوم وهى التى جاوزت السبعين فى ذلك الوقت، أن تقاوم ذلك التغيير المفاجئ والجارف الذى طرأ على الواقع السياسى فى مصر مع بداية العهد الجديد، بالإضافة إلى تردى حالتها الصحية، ومهاجمة أمراض الكلى والشيخوخة لها بشراسة مع مطلع عام 1972، وتردد بعض الشائعات فى المجالس الخاصة والعامة على تنافس خفى بينها وبين السيدة جيهان السادات حول الدور الاجتماعى واللقب».
يضيف «جمال» أن القيادات السياسية فى مصر خلال بدايات عهد السادات سعت إلى تقييد تحركات أم كلثوم الاجتماعية، والعمل بشكل ممنهج على استهداف بعض المساهمات الخيرية التى أطلقتها فى بداية السبعينيات، وتجميد مشروعها الخيرى الشهير «دار أم كلثوم للخير» الذى أعلنته رسميا فى عام 1972، وذلك فى محاولة لكسب رضا السيدة الأولى، بعدما أطلقت يدها فى شؤون الدولة، وزادت صلاحياتها الاجتماعية بوصفها زوجة رئيس الجمهورية.
يؤكد «جمال» أن كل هذه التحولات فرضت على أم كلثوم أن تنسحب تدريجيا من الحياة الفنية، وأن يخفت دورها الوطنى الذى بلغ ذروته فى السنوات الأولى لهزيمة 1967، وأن يتوارى صوتها فى المرحلة الجديدة، ويستشهد «جمال» فى ذلك بمحاولة تعقب حضورها فى الصحافة المصرية فى الفترة ما بين عامى 1972 حتى نهايات عام 1974، مؤكد أن هناك تغييرا جوهريا فى تعامل الصحافة الرسمية معها، وندرة أخبارها الفنية والشخصية، وتلاشى حضورها المكثف السابق فى الصحف والمجلات الفنية، واختفاء حتى أخبار مشاركتها فى فعاليات المجهود الحربى، الذى تؤكد بعض الوثائق الرسمية استمرار بعض صوره حتى بعد حرب أكتوبر 1973، ليصبح دورها فى تلك السنوات الأخيرة مثل المجهود الخفى الذى يصعب تحديد حجمه ومقداره، غير أن ما كشفته بعض رسائلها الخاصة يؤكد بقاء ذلك الدور الوطنى الكبير حتى فى تلك المرحلة القلقة من حياتها، وحتى مع تجاهل الصحافة لتحركاتها الوطنية».
فى ظل هذه الأجواء قدمت أم كلثوم حفلها يوم 10 سبتمبر 1972، ويذكر «جمال» أن صحيفة الأهرام روجت للحفل طوال مدة رحلتها العلاجية الخارجية، ودعت إليه الصحيفة بوصفه سهرة العروبة الكبرى المرتقبة، وأشرفت على تنظيم الحفل اللجنة الرياضية بمحافظة القاهرة، ومحافظها إبراهيم بغدادى شخصيا، وغنت فى وصلتها الأولى قصيدة «أغدا ألقاك» للمرة الخامسة والأخيرة، وأغنية «يا مسهرنى» التى سبق أن أطلقتها فى حفل 6 إبريل 1972، وأذاع التليفزيون العربى وصلتى الحفل على الهواء مباشرة، لتكون تلك الليلة هى الوقفة الأخيرة والنهائية فى سلسلة حفلاتها لصالح المجهود الحربى.
واتساقا مع تراجع الاهتمام الرسمى بأم كلثوم ودورها الوطنى، يذكر «جمال» نقطة مهمة تلت الحفل قائلا: «رغم ما اعتادته الصحف المصرية من متابعة ومواكبة تلك الليالى الوطنية لأم كلثوم، فإنها لم تقدم تحقيقا صحفيا واحدا عن تلك الليلة، ولم نعرف بالتحديد مقدار ما أضافه دخل ذلك الحفل لمحصلة المجهود الحربى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة