حالة من الانقسام تطغى على المجتمع الأمريكي، ربما تحمل طابعًا سياسيًا في اللحظة الراهنة، جراء الاستقطاب السياسي الذي طغى على المجتمع، منذ بزوغ نجم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وصعوده إلى منصب الرئيس في بلاد "العم سام"، في عام 2016، رغم غياب الخلفية السياسية، خاصة وأن انتصاره في الانتخابات الرئاسية جاء على حساب سياسية مخضرمة، على غرار هيلاري كلينتون، التي سبق لها دخول البيت الأبيض من موقع "السيدة الاولى"، ثم توليها منصب وزير الخارجية في عهد باراك اوباما، ليصبح صعود رجل الأعمال إلى قمة هرم السلطة في الولايات المتحدة بمثابة قنبلة سياسية، لم يقتصر نطاقها على الداخل، وإنما امتدت إلى العديد من الأبعاد الأخرى، تراوحت بين الحلفاء، مرورا بالخصوم، وحنى النظام الدولي برمته الذي بات يتجه نحو حقبة جديدة تتسم بقدر من التعددية.
إلا أن صعود ترامب، على الساحة السياسية الأمريكية، وما حمله من تداعيات كبيرة، لم يكن أكثر من محطة، تبدو هامة، من مراحل المخاض الدولي، في إطار حالة من انعدام التوازن، جراء الهيمنة الأحادية، التي سادت العالم منذ نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي، في بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث سبقتها مراحل عدة، ربما أبرزها الأزمة المالية العالمية في 2007، وقبلها هجمات 11 سبتمبر، والتي تعد نقطة الخروج الأهم في التاريخ الأمريكي عن العديد من المبادىء التي طالما تشدقت بها واشنطن، والتي كانت تمثل في جوهرها "أدوات" الهيمنة على العالم.
"الهيمنة" الأمريكية، في واقع الأمر، تجسدت في "حزمة"، من الأدوات، ارتبطت بمنظومة قيمية، تحمل مسارين متوازيين، أولهما في الداخل، عبر تقديم نفسها كـ"بوتقة" تندمج فيها الثقافات والحضارات رغم اختلافاتها، و"تعددها"، لتشكل في ذاتها حضارة جديدة تعتمد على الاندماج بين مختلف البشر باختلاف انتماءاتهم وعقائدهم وأفكارهم وأجناسهم، من خلال مجموعة من القيم الجمعية، التي تبقى مظلة يحتشد تحتها الجميع، كالحرية والديمقراطية، وهي الأدوات نفسها التي سعت، في مسار آخر، نحو تعميمها على معسكرها في الغرب، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ثم امتدت إلى العالم بأسره بعد الحرب الباردة، لتصبح "الحضارة" الجديدة ذات الصبغة الأمريكية هي "المهيمنة".
وبين ترويج نموذج "التعددية" في الداخل، والإبقاء على "الهيمنة" على النطاق الدولي، ثمة العديد من الثغرات، التي برزت بوضوح إبان أحداث 11 سبتمبر، وما تلاها من تداعيات عميقة وعنيفة، سواء في الداخل، إثر ظهور "الإسلاموفوبيا"، في المجتمع الأمريكي، واستهداف المسلمين سياسيًا وإعلاميا، وما ترتب على ذلك من تحرش بهم في الشوارع، لتكون اللبنة الأولى وربما الأهم في مسلسل من الانقسام الأمريكي، حمل العديد من الحلقات، التي انتقلت من الدين إلى الاقتصاد وحتى السياسة، والتي تبدو أحدثها، جراء حالة الاستقطاب الراهنة، بينما كان المشهد في الخارج، لا يقل تراجعًا، جراء تبني سياسات الغزو العسكري، والتي لم تنجح في تحقيق الأهداف الأمريكية، وهو ما يبدو في النموذجين العراقي والأفغاني.
التعارض الكبير في الرؤى الأمريكية، بين الأحادية القائمة على "الهيمنة" على العالم من جانب، والتعددية في الداخل من جانب آخر، ربما قدمت دليلا دامغًا على أن حالة عدم الاتزان التي طالت العالم منذ الحرب الباردة، امتدت إلى القيادة الأمريكية نفسها، رغم بقائها على قمة المشهد الدولي لثلاثة عقود، بسبب غياب القوى القادرة على مزاحمتها، بينما اتسمت بقدر أكبر من الاتزان خلال سنوات ما قبل الهيمنة المطلقة، في ظل وجود منافسة من جانب الاتحاد السوفيتي، حيث فرضت تلك الحالة المتنافسة خطابا يحمل قدر كبير من التوازن، ولا يشوبه الكثير من المتناقضات أو التعارض.
وبالنظر إلى الأحداث التي تلت 11 سبتمبر، نجد أنها سلسلة غير متناهية من الانقسامات، التي توارت لفترة وراء ستار الديمقراطية والحرية، بينما تكشفت تدريجيا مع ظهور نماذج أخرى، على غرار الصين، والتي حققت نجاحات اقتصادية كبيرة، بينما كانت أكثر قدرة على التعامل مع الأزمات والطوارئ الدولية، على غرار أزمة الوباء، مما ساهم زيادة الفجوة بين "الطغمة" الحاكمة، والمجتمع، وهو ما تجلى بوضوح بعد ظهور ترامب، والذي لا يبدو نموذجًا نمطيا لرؤساء الولايات المتحدة، مما يفسر شعبيته المتنامية، إلى حد اقتحام الكونجرس في يناير 2021، لمنع الإعلام عن فوز خليفته جو بايدن في الانتخابات الاخيرة، باعتباره عودة صريحة للوجوه التقليدية في السياسة الأمريكية.
وهنا يمكننا القول بأن الحالة الراهنة في السياسة الأمريكية، تمثل امتدادًا لاحداث 11 سبتمبر، حيث كانت نقطة الانطلاق نحو الانقسام في الداخل الأمريكي، بينما في الوقت نفسه بداية الانقسام الدولي على القيادة الأمريكية للعالم، وبالتالي البحث عن قوى قادرة على مزاحمة واشنطن على قمة النظام الدولي، وهو ما تمخض عن زيادة أسهم القوى الصاعدة، وعلى رأسها الصين، ناهيك عن عودة روسيا، ليصبح الهجوم على برجي التجارة في نيويورك وما تلاه من أحداث، كان بمثابة نقطة انطلاق العالم نحو البحث، ليس عن بديل للقيادة الأمريكية، وانما عن استعادة قدر من التعددية التي من شأنها تحقيق المرونة الغائبة في التعامل مع الأزمات الدولية.