إن معرفة الإنسان الحقيقة، لا تتوقف على المعرفة الظاهرية له، لأحواله الشكلية، لونه، أو سنه، أو البيئة المحيطة به، عمله، طريقته في الكلام والمشي، ماذا يرتدي؟ وقع الأشياء على نفسه، إن معرفة الإنسان أمر قد يبدو معقد بعض الشيء، لأنها تحتاج إلى دراسة موسعة، من معرفة ميوله، ما يفرحه، وما يحزنه، ما يكون خلف كومة اللحم والدم، من عواطف وأفكار، إن تأمل الظاهر، لا شك إنه قد يعطي انطباع فيه شيء من الحقيقة، وقد تظهر بعض الصفات الكامنة في النفوس على ملامح وجه الإنسان، مهما حاول إخفائها، فهي تظهر، ولو أُخبر عنها صاحبها تعجب وأخذته الدهشة من قول قائليها، وظن أن أحكامهم جائرة، فيها كثير من الحيف والباطل، أو هو الحسد، ولكنها الحقيقة الناقصة، وقد تكون الحقيقة عكس ما يبدو لنا منه، فلا يكفي لمعرفة إنسان أن تلقي بنتائج على قاعدة متذبذبة، بين الشك واليقين.
كنت جالسا ساعة، في ساحة أراقب وجوه المارين بجانبي، ومن أمامي، تمر عليّ مئات الوجوه، أحدق فيها، فأرى انطباعات فكرية مثيرة، تمر على خاطري، حين تقع عيني على وجوههم، فكلها وجوه، لم أراها من قبل، ولكنها لا تتشابه في ترك انطباع تنفرد به عن سائر الوجوه، قرأتُ منها، ما يحيل النفس بستان، تحف به أنهار من النرجس، تأخذك إلى عالم سحري، تستمتع بمرآه، وتشيع في جوانبك البهجة، وترسم على شفتيك إبتسامة، هذا ولم تمضي لحظات، وأنت تلامس السحاب بيديك، وإذا بك واقف على الأرض، تعاني ألم أشواك تحت قدميك، يحيط بك هواء فاسد، ورائحة كرية، وانقباض في النفس، ويعلو ضجيج يملأ النفس، وإستنفار وجه يصرخ في وجه الجمال، لا هم له إلا بث الكآبة في النفوس. ثم ترى وجهاً أخر مسالم، لا أثر له في الكون، سوى أن يحيا بلا زوابع أو ثورات، فليس له طموح سوى أن يعيش بجوار الحائط، ووجه لا يعطيك شيء، هو لغز، إذا حاولت أن تحله، أستغلق عليك، فحارت قواك العقلية في تفسير ما يرمي إليه، وماذا يريد؟ ووجه أخر طفولي، لم تدنسه الحياة بمتاعبها، ويملأك رغبة في تقبيله. وأخر عبوس، وكأنه جاء إلى الدنيا ليذكرنا بالموت والخراب، وأخر يمر سريعا، قبل أن تقع عينيك عليه، كأنه يهرب منك، قبل أن تتصفحه، تمر مئات الوجوه، طفل صغير، وشيخ ضرير، امرأة ناهد في سنوات الصبا، فتاً في العشرين، يمتلأ زهواً وكبرياء، رجل شاب شعر رأسه، من هول المعارك، التي خاضها من أجل أن يبقى حياً، وأخرى فتك الزمان بها، فلم يتركها إلا أطلال بالية، سنوات مرت بحلوها ومرها، بما تحمل، تلقي بها على هامش الحياة، تأتي لتغيب.
إنها ليست وجوه، إنها تواريخ وأحداث، سنوات من الحصاد، تتراكم على كل وجه، كل ما يمكن أن يعطيك، هو نبذة صغيرة، إشارات عابرة، نقاط موجزة، بطاقة هوية، تحمل قليل من رواية ضخمة، تجري أحداثها منذ سنوات مضت، وستظل حتى تخط يد القدر نهايتها الحاسمة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة