صدر عن المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة "أطروحات الدكتوراه" كتاب المعرفة والسلطة فى التراث الإسلامى، وهو من تأليف سعيد على نجدي. يقع الكتاب فى 416 صفحة، شاملةً ببليوجرافيا وفهرسًا عامًّا.
يلقى مؤلِّف هذا الكتاب الضوء على مسألة العلاقة بين المعرفة والسلطة فى التاريخ الإسلامي، التى تستبطن كثيرًا من المدارس والاتجاهات الفكرية، مختارًا من بينها للدراسة فكر الفرقة الإسماعيلية، التى تندرج تحت الجناح الشيعي، وجاءت تسميتها نسبةً إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، الإمام السادس لدى الشيعة، ولا يزال لديها أتباع كثيرون فى سورية واليمن، إضافة إلى الهند وإيران وغيرهما.
أنشأت هذه الفرقة نظامًا فكريًّا ضخمًا طعّمته بالفلسفتين اليونانية والشرقية، وبالأديان السابقة أيضًا، وقد أدخلت مفهوم "الباطن" و"المرمز" فى تأويل النص القرآني، فقامت أيديولوجيتها الدعوية على دعامتين: الظاهر والباطن، والحقيقة لديها تكمن فى الباطن. وعلى أنقاض هذه الدعوة شُيدت "الإمبراطورية" الفاطمية ودول أخرى، فهل أفادت الدعوة الإسماعيلية ونظامها الفكرى فى تشكيل الدولة؟ وهل أعادت السلطة بعد إنشائها تشكيل بنى المعرفة؟
هيكلية جماعة الإسماعيليين
تدرّج الكتاب فى الحديث عن نشأة الإسماعيلية، ونظامها الفكري، ومراتب الدعوة لديها، والأدوات التى عملت عليها، كالتأويل الباطن والتأويل الظاهر، والمثل والممثول، والستر والكشف، وهى أدوات ساعدت فى تبرير ولاداتها المتعددة.
مفهوم الإمام هو المفهوم المحورى عند الإسماعيلية، فهو الدعامة التى لمَّا تزل قائمة ومستمرة، وتختلف بذلك عن الشيعة الاثنى عشرية الذين يقولون بتوقف الإمامة مع الإمام الثانى عشر الغائب، المستتر، بينما يعتبر الإسماعيليون أن الإمامة مستمرة، وإن استتر الإمام بحسب الظروف.
دخلت الإسماعيلية فى طور جديد مع انتقالها إلى العالم الغربى تميز بتعديل ظاهر الشريعة، وقد تمكن مركز السلطة فيها من التكيف مع الظاهر على نحو يخدم مصالحه، مع إبقاء الباطن الروحانى اللامعلوم ثابتًا، ويسمح بقراءات متعددة بوصفه ظاهرة فكرية. فعلى صعيد التنزيه، أبدت الإسماعيلية عقلانية خارجية قبع خلفها "العرفان"، الذى يُسقط صفات عن الله ويسندها إلى الأئمة، من أجل مد "شريان سلطتهم" بـ "الغذاء الدائم" من خلال الولاية على الناس وضمان طاعتهم، من خلال تصوير "الإمام" طريقًا أوحد لنجاة الغلام "المستجيب" والمرقاة لروحه نحو عوالم أخرى وخلق جديد.
وأوضح مثال للدلالة على التناقض الواضح بين الظاهر والباطن لدى الإسماعيليين ممثلهم فى الغرب الآغا خان كريم شاه الحسيني؛ ففى الظاهر هو رجل غربى يعيش حياة غربية ومتزوج بنساء غربيات، وفى الباطن هو بالنسبة إليهم ممثل لمراتب الوجود كلها، ولديه سلطة نسخ الشريعة كالأنبياء والرسل.
استغلال الإسماعيليين معانى اللغة
اللغة رافد مهم فى حضارة العرب ومكون رئيس لثقافتهم؛ فقبل نزول القرآن لم يكن للعرب نص مكتوب، وما سمح لهم لاحقًا بتبوُّء مراكز مهمة فى التاريخ هو كتابة نصوصهم، ومع الكتابة قامت إشكالية فى الصراع على احتكار المعنى. وتحضر الإسماعيلية فى هذا المضمار؛ فهى قد أنشأت قالبًا فكريًّا يتمتع بجهاز لغوى ضخم من خلال "العرفان" لاستثماره فى تثبيت سلطتهم، والتحكم فى أبدان الجماعة وأرواحها، وأهم ما فيه مفهوم الباطن، الذى كلما غاب عن الفهوم سمح بالسيادة أكثر؛ فهو متغير ثابت، ومفهومٌ مفارقٌ لا محايث.
وفى الدول التى حكمها الإسماعيليون كان للإمام على الدوام بعدان سلطويان: روحى وتنفيذيّ. أما فى الطور الأخير اليوم، مع انعدام دولة خاصة للحكم، فقد بات مفهوم الولاية لدى الإسماعيليين ذا بعد روحى فقط، وبات إسماعيليو العالم الغربى يشجعون الناس على الانخراط فى أنظمة البلدان وتجنب الصراعات مع الأنظمة والحكام، وخصوصًا لدى إسماعيليى سورية (وهى عيّنة الدراسة)، على الرغم من اختلاف الآغا خان مع سياسة النظام السوري.
ويلقى الكتاب الضوء على إشكالية التسلط التى مثّلت فكرةُ الولاية على الناس، بدلًا من ولايتهم على أنفسهم، جانبًا من جوانبها؛ ولهذا رجع الكتاب إلى منابع الاستبداد فى محاولة لفهمه، خصوصًا أن هذا الجيل يعيش اليوم بين أفقين من الماضى والحاضر، وهو أشبه ما يكون فى "منزلة بين منزلتين"، يُحيى الحاضر مستحضرًا الماضى على نحو مشوه، فيعيش انشطارًا على مستوى الذات، خوفًا من التعسف.
نعيش اليوم فى عالم مفتوح لا مكان فيه للهويات المنغلقة، لأن الانغلاق موتٌ، كما أن الجيل الجديد يتميز بعقلية مغايرة للعقليات المتسلطة، وهو يتشرب أفكاره من العالم كله، فإذا لم تتعامل السلطة معه بمنوال آخر طواها، وهذا ما تنبه له الآغا خان بإرشادات جديدة من خلال مركز الدعوة لئلا تفقد سلطته الروحية سحرها ورمزيتها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة