بات التجديد فى جميع مجالات الحياة أمرًا ضروريًا ومطلبًا رئيسًا؛ لمواكبة التغيرات المتزايدة، والتطورات العلمية المذهلة، والخطى المتسارع الذى يتميز به عالم اليوم، وبالتجديد يحفظ الإنسان آدميته وكرامته، وعلوّه على سائر المخلوقات على الأرض، ويتحقق قول الحق تبارك وتعالى: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً"
ومن أهم المجالات التى ينبغى ألا تكون بمعزِلٍ عن التجديد، تجديد الخطاب الدينى، والذى يُشير إلى العمل بالثوابت والأصول التى تتسق مع مقاصد الشريعة الإسلامية، مع الأخذ بمبدأ تجديد الأحكام فى الفروع والمتغيرات بما يتناغم مع العصر ومستجداته، وبما لا يتنافى مع تلك المقاصد؛ ليستهدف تأليف القلوب، ويستوعب الأفهام، ويقضى على الأوهام، ويوحد الصف، ويزيد من الهمة نحو النهضة والتقدم، ويحض على حب الأوطان، وغرس ثمرات الخير على الدوام.
وتكمن أهمية الخطاب الدينى فى دوره الرئيس المرتبط بتطور المجتمع وتعديل سلوكه وتمسكه بقيمه، ومن ثم يساعد فى تشكيل الفكر الجمعى لدى الناس، ويسهم فى استقرار الحياة العامة، بما يدعو إليه من تعضيد الهوية الوطنية برغم ما تواجهه المجتمعات من تطورات متباينة فى الحياة العلمية والعملية والمعيشية، كما يوظف الخطاب الدينى فى الحياة السياسية والتنموية بكل صورها؛ إذ يحض على الإعمار ويحث على العمل المتواصل؛ لتتحقق الاستدامة المنشودة فى شقيها البشرى والمادى.
والمتمعن فى تتابع رسالة الرسل والأنبياء يستنبط فكرة تجديد الدين فى نفوس الناس ليستقيموا فى حياتهم، ويحققوا الغاية الكبرى فى الحياة الدنيا ويصلوا لطريق النجاة فى الدارين، قال رب العزة فى سورة النحل (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍۢ رَّسُولًا أن ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلَٰلَةُ ۚ فَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ)، ورغم أن الدعوة واحدة متمثلة فى عبادة الله وحده لا شريك له؛ إلا أن إرسال الرّسُل على فترات مراده التجديد والتذكير، ومن هنا بات التجديد ضرورة لسريان الحياة فى مناشطها المختلفة لتشكيل السلوك القويم لبنى البشر بما يتواكب مع تطورات وتغيرات الحياة، وينطلق تجديد الخطاب الدينى فى هذا الخضم من مبدأ الوسطية ودحض الغلو والتطرف ونبذ التحرر والانحلال بصوره الصريحة والمقنعة؛ ليتماسك نسيج الأمة وتصح المجتمعات لتحقق التطور والرقى والنهضة بصورها المنشودة.
وثمة مبررات تدعو إلى ضرورة تجديد الخطاب الديني؛ فقد يُسند الأمر إلى غير أهله؛ فنجد من يتصدر لأمور الدين أناسٌ يتبنون التشدد ويتجنبون الوسطية، ما قد يُسهم فى انحراف الفكر أو تشويهه، وفى مواضع أخرى يوجه الخطاب لجمهور غير مستهدف، مما يُثير الارتباك والتشتت. وهناك من يغالى فى تقديم النصح؛ مُظهِرًا لتدن الحال والمآل، بما يُشعر الآخرين بالتهاون والتخاذل، ومن ثم يصيب بالإحباط والتشرذم. وهناك من يتبنى مفاهيم أو مصطلحات تحمل رؤى ذات طابع عالمى، ترغب فى الوصول للتمكين عبر ماهية لم الشمل، لكن يكمن المأرب فى نشر فكر أو ثقافة تحمل التحزب وتحاول الوصول للحكم المطلق؛ فلا عبرة لديها بوطن أو مجتمع.
وتجديد الخطاب الدينى يقوم على ضوابط، منها: أن يتسم المجدد بنقاء العقيدة وصحة المنهج، ويبذل الجهد ليصل إلى استنباط أحكام شرعية وفق أدلة نقلية وعقلية تسهم فى عمومية النفع للمجتمع وتعدل من سلوكه ليوصف بالقويم؛ لذا أضحى التجديد متعلقًا بكل أمر مستحدث يجتهد المجدد ليضع من الحلول ما يتغلب بها على المشكلات التى تنتج من هذا الأمر، إشارة واضحة إلى أن الدين صالح لكل زمان ومكان وأن الاجتهاد وفق مقاصد الشريعة لا ينغلق بابه ما دامت الحياة، ويؤكد على أن الدين معنى بالوجدان والتطبيق بعد المعرفة لدى الناس.
ويتناول تجديد الخطاب الدينى قضايا بعينها تؤثر فى الفكر والسلوك، منها: إشاعة السلم والسلام وتحقيق الأمن والأمان، ومن ثم نبذ كل صور التعصب، والتشدد، والعنف التى تؤدى إلى الاصطدام غير المبرر، وما يترتب عليه من إهلاك الحرث والنسل، مع ضرورة تشجيع التفكير وفق ضوابط المقاصد؛ فلا وصاية على إعمال العقل والتفكر والتدبر؛ وزيادة الاهتمام بالمرأة كونها دعامة المجتمع وتؤدى ما يؤديه وما لا يؤديه الرجل وفق ما وهبها الله من مكنونات؛ والقضاء على الخرافة وكل صور الشعوذة التى لا ارتباط لها بدين أو تراث دينى، كذلك لا مجال لتقديس اجتهادات قام بها السلف؛ حيث أن القداسة لا تتعدى كتاب الله وسنة المصطفى (صل الله عليه وسلم).
وتكمن ثمرة تجديد الخطاب الدينى فى وأد الفتن التى يبتدعها أصحاب النوايا غير السليمة؛ بغية الفساد والإفساد وخرق النسيج الوطني؛ كى تطفو على الساحة قضايا شائكة تحدث صراعات لا نهاية لها تمس الأمن القومى المصرى فى المقام الأول، وتعمق الشقاق بين أصحاب البيت الواحد، وعليه بات الخطاب موجهًا بقوة نحو الحوار البناء الذى يقبل الشراكة والمشاركة فى نهضة البلاد وتعضيد أركانها؛ فلا مجال للمزايدة فوق مصالح الوطن العليا، ولا منفذ لتحقيق أهداف خاصة تحملها أجندات تحت مسميات مبهمة أو معلنة؛ فوحدة الصف الوطنى لا يعلوها وحدة، ويتسق ذلك مع صحيح الإيمان وتطبيقاته العملية، ويتناغم مع القيم السامية الإنسانية والمجتمعية والعقائدية، وفى عبارة صريحة نعتز بكل الطوائف التى تشكل النسيج الوطنى، ومنها أقباط مصر الحبيبة.
كذلك يفيد تجديد الخطاب الدينى فى دحر الصراعات بين الحضارات أو الأديان؛ حيث ساهمت قوى الثقافة العالمية فى طمس الهوية وتغييب الفكر الإيجابى والعمل بصورة ممنهجة لتهميش وتقزيم الآخر لأهداف صارت معلنة وفى مقدمتها تحويل صورة الإسلام السمحة الوسطية لصورة مغايرة تحمل الوحشية والتعصب والتخلف والإرهاب والعنف، واعتمدت تلك القوى على سياسة التأويل والتحريف، واتخذت النفوذ الاقتصادى أداة رئيسة فى تحقيق مآربها، ومن ثم كان لزامًا علينا تبنى الفكر العقلانى المنهجى الذى يسهم بقوة فى إظهار المثالية التى تتحلى بها رسالة الدين الإسلامى للعالم بأسره، والتى تقوم على السلم والسلام والتعايش والإعمار وفق حوار حقيقى تتبناه المؤسسات الدينية على مستوى عالمي؛ لتصل إلى الحقائق وتساعد فى التخلص من الرواسب الدفينة وتعالج صور التمييز والعنصرية والتعصب.
وتتعاظم ثمرة تجديد الخطاب الدينى فى صحوة الغافلين، والنهوض بالهمم نحو الإعمار ومعالجة الأسقام التى أصابت الأمة جراء الخطاب التكفيرى الذى نفر المسلم وغيره، وكان سببًا فى انزلاق الفكر والممارسة نحو القسوة والانفصال عن الواقع، مما أحدث انتكاسة وضعف وتدنى فى مجالات الحياة المختلفة؛ فقد اعتمد الخطاب السابق على تناول قضايا بعيدة كل البعد عن الواقع وتحدياته ومشكلاته، بل وعن مسار النهضة والتطور التى شغلت العالم مما أوجد فجوة كبيرة بيننا وبين دول تنامت مقدراتها وقدراتها بصورة شهد لها القاصى والدانى.
ولا ريب من أن تجديد الخطاب الدينى نتج عنه الوصول للأفهام فى ضوء بساطة الطرح والبعد عن اللغة الفقهية الرصينة التى صيغت بها المتون؛ إذ تحتاج لدراسة وتأن من باحثين يمتلكون مقومات فهمها، دون غيرهم، ومن هنا روعى توظيف التقنيات فى تبسيط العرض وتحفيز الفكر والفهم والاستيعاب لدى العامة والخاصة، ناهيك عن تنمية التدبر والتأمل فى المقروء والمرئى، وكذلك فتح باب الاجتهاد وفق اشتراطاته.
ولنا أن نستثمر التقنية بتنوعاتها فى نشر الخطاب الدينى الوسطي؛ إذ تمثل أدواتها ومنابرها قوة ضاربة فى تنمية الوعى الصحيح، وتحقق نجاحات يصعب حصرها؛ لأن فلسفتها تقوم على تعزيز الوجدان وتغذية الأفئدة عبر مداخل الأفهام السمعية والبصرية مجتمعة أو متفردة؛ لتحدث الأثر الفاعل لدى الفرد والجماعة.
حفظ الله بلادنا وقيادتها السياسية المبدعة والمجددة، ووفق المخلصين من أبنائها فى إيصال الرسالة السمحة وغاياتها للعالم بأسره.