حازم حسين

يوم غادرت مصر "بيت الطاعة".. لحظة التأسيس المتجددة لشرعية دولة 30 يونيو

الإثنين، 25 سبتمبر 2023 03:08 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم يكن معروفا لعوام المصريين عندما اختير وزيرا للدفاع، ربما كان ذلك من طبائع المُؤسَّسة التى ترقَّى فيها حتى إدارة المخابرات الحربية؛ لكن بفعل غيبة الذيوع، وارتباك المرحلة التالية ليناير 2011، واستثمار الإخوان دعائيًّا فى مزاعم انتماء قيادة الجيش الجديدة للتنظيم، صدَّق كثيرون أن الجماعة أغلقت قبضتها على قلب مصر الصلب، وتشكَّك آخرون، وظلَّ فريق عريض بين التوجُّس والأمل، لهذا كانت الفرحة عارمة عندما تصدَّى الفريق أول عبدالفتاح السيسى لخُطط الأخونة ومساعى اختطاف الدولة، وعندما تلقَّى رسائل الشارع على خير ما كان يتمنَّى البسطاء والمُرتعبون من الرجعية الدينية، ثم انحاز إلى الإرادة الشعبية الطافرة بكل جرأة وبسالة وعُنفوان، فى وجه مكتب الإرشاد ومندوبه الهزيل فى قصر الاتحادية.. ساهمت الرواية الإخوانية فى شحذ الدراما، وصياغة فصل ملحمى من أسطورة الرجل صاحب المنصب الأرفع فى العسكرية المصرية؛ إذ حفرت فى نفوس المصريين أخاديد عميقة من الاشتياق لسرديَّةٍ مُغايرة، ومن البحث عن بطلٍ على مسرح تمادت الجماعة فى ادّعاء أنها احتكرته وأحكمت طوقها حول مداخله؛ فكان أن جاء التحوُّل على طريقة الملاحم الكبرى، مُفاجئًا ومُدهشًا وهادرًا كمواسم الفيضان، فأطاح العصابة الأصولية، وكنس مُخلّفاتها من أروقة السلطة والشارع، وسدَّ شقوق اليأس والهلع والانكسار فى صدور الملايين، بفيض غامر من العِزّة والافتخار، ومن الأمل الذى كان يبدو بعيدًا.
 
رأت الجماعة فى 25 يناير فرصةً لا تتأتَّى كثيرًا، واعتبرتها منفذًا ميسورًا إلى الحلم المُؤجَّل منذ ثمانية عقود؛ أن تصعد إلى مدارج السلطة فى مصر، تمهيدًا لتحصيل «أستاذية العالم» كما بشَّر بها حسن البنا، صحيحٌ أنها قاطعتها فى البداية، وظلَّت على توازنها الهشّ مع نظام مبارك؛ إلا أنها سارعت للالتحاق بالركب عندما استشعرت رائحة الكَسب، ومن اللحظة الأولى سطت على الشارع، ووظَّفته فى المناورة والتلاعب بالخصوم والحلفاء: وضعت اثنين من رجالها فى لجنة تعديل الدستور، وشوَّهت استفتاء مارس بالدعايات الدينية، واخترقت «ائتلاف شباب الثورة» وسيطرت عليه وصيَّرته لخدمتها، وخدعت الليبراليين والناصريين فى انتخابات 2011 حتى ابتلعت البرلمان، ثم خدعتهم مُجدّدًا إلى أن أوصلت مُرشَّحها لمقعد الرئاسة، بعد ذلك كشَّرت عن أنيابها لافتراس القانون والمُؤسَّسات، فحاول «مرسى» إعادة مجلس الشعب المُنحلّ، وحصَّن «الشورى» وتأسيسية الدستور، وتولَّت جماعته تعطيل المحكمة الدستورية بالحصار، وعاونهم «أبو إسماعيل» وعصابته ضد مدينة الإنتاج الإعلامى وعديد المحاكم، وتغوَّل «خيال المآتة» الرئاسى على الدستور والقضاء بإعلانه المشبوه، واستُكمِل كل ذلك بيدٍ غليظة ضد المعارضين، أسفرت عن قتلٍ ودم فى الاتحادية والمُقطّم وبورسعيد وعشرات من ميادين مصر، وكان المُرشد وبلطجيّته مُطمئنِّين إلى وهن القوى المدنية، وموهومين بانكسار الدولة واستسلام مُؤسَّساتها، إلى أن جاء الحلُّ من الشعب مُباشرةً، وشبابه على التحديد، فكانت حملة «تمرّد» وملايين التوقيعات، ثم تُرجِمت إلى تظاهراتٍ لا أوَّل لها ولا آخر، هنا تدخَّلت القوات المسلحة بما يُمليه عليها الضمير الوطنى، فمنحت مُهلةً، ثم دعت لمؤتمرٍ وُضِع فيه مقعد لحزب الإخوان ورئيسه الكتاتنى، ثم كانت «خارطة الطريق» التى مثَّلت توافقًا بين مُكوِّنات البيئة السياسية والاجتماعية، نابعًا من الشارع ومحميًّا بالتفافه العريض حول هدف الخلاص من الجماعة وانفلاتها وإجرامها وخيانتها للثوابت الوطنية.
 
كانت فى انحياز الفريق السيسى للمُتظاهرين مُغامرةٌ ليست سهلة، صحيحٌ أن التاريخ لا يُسجِّل لعصابةٍ، مهما كان إرهابها، أنها تغلَّبت على بلد كامل؛ إلا أن نظرية الاحتمالات لم تكن تخلو من مُخاطرةٍ قد يدفع الرجل كُلفتها مُنفردًا، ذلك أوّل ثِقَلٍ مُرجّحٍ لكفَّة القائد العام وقتها، إذ استشعر الناس أنه يضع السلامة العامة فوق سلامته الشخصية، وإرادتهم فوق مزاياه المضمونة من الوضع القائم، وأنّ تمام احترامه للدستور والقانون ومهام منصبه أن يكون إلى جانب الوطن، لا أن يصمت أو يظلّ مُحايدًا أمام أعدائه، من الصدق تولَّدت الجسارة، ومنهما جاء القبول الشعبى الذى يندر أن يتكرَّر، فى مشهد التفويض بالتصدِّى للإرهاب، أو الدعم والمؤازرة فى الشهور الأولى من المواجهة، بكل ما حملته من رعبٍ وتفجيرات واغتيالات وخسائر مادية ومعنوية، وحتى انتخابات الرئاسة 2014 التى تحصَّل فيها على تأييدٍ كاسح، كان من مُكوّناته أغلب أحزاب اليسار واليمين التى قد يُحسب بعضها اليوم على المعارضة.. فرضت اللحظة نفسها على الجميع، وكانت لحظةً وجوديّةً ومهمةَ إنقاذِ وطن، وانتشاله من بين مخالب العنف التى تنهشه من القلب، أو مُنحدر السقوط والاستهداف الذى تكثَّفت محاولات دفعه إليه من الخارج.
 
الخلاص من سُلطة الإخوان كان أهم ما أنجزته مصر فى سنواتها الماضية، كلُّ شىء آخر يهون أمام فكرة أن الجماعة كان يمكن أن تستمر فى سحق عظام البلد، وبناء أحلامها الأُمميّة السوداء على أنقاضه. لم يكن الخلاف معهم فى صيغة الحكم أو توازناته، ولا فى الديمقراطية أو الشمولية، كما لم يكن فى المدنيّة أو تجارتهم الساقطة بشعارات تطبيق الشريعة؛ إنما كان فى مسألة الدولة نفسها، الخيار معهم أن تكون دولةً أو عصابة: الأوّل لا يقبلونه؛ لأنّه لا يناسب أجندتهم ولا طموح رُعاتهم ومُموّليهم، والثانى يستتبعه أن يُفكِّكوا الأبنية المُؤسَّسية ويردّونا إلى صيغةٍ أوّلية بدائية من التنظيم الإدارى والقانونى، ثم يستعيضون عن مُكوّنات السُّلطة ببدائل خالصة للتنظيم، ومُلحقة على مكتب إرشاده، لا على الرئاسة أو الحكومة أو وزارة الدفاع، بالفعل سعوا إلى تدشين ميليشيات مُسلّحة لتكون بديلاً مُستقبليًّا عن الجيش، ووضعوا نائبًا عامًّا من عبدة المرشد، وأطلقوا قطيعًا من القُضاة المحسوبين عليهم لاختراق المُؤسَّسة، مع اجتهاد محموم لضخّ دفعات من شبابهم فى النيابة والكليات الشُّرطية والعسكرية. مناعةُ الأجهزة الوطنية قاومت ذلك؛ إنما لو استمر الهجوم وتتابعت الضربات، كان يُحتمَل أن تنهار دفاعات الهويّة والروح والميراث المُؤسَّسى، وقتها لن نجد مُتّسعًا للاختلاف فى الانتخابات والبرلمان والحوار والرئاسة والمُوازنة والمشروعات والأزمة الاقتصادية كما نختلف الآن؛ بل كنّا سنُوقّع إجباريًّا «عقود إذعان» للتنظيم، وقد يُلحَق كلُّ حزبٍ أو تيّار أو فئة اجتماعية ومهنية على كفالة عضو إخوانى، فلم يكن فى أحلامهم أكثر من أن يجعلوا وجود ما عداهم من الكيانات والأفراد هامشيًّا ومشروطًا وفى «بيت الطاعة».
 
كَسر الوصاية لم يتحقَّق فى إطاحة الإخوان فقط، عندما زارت كاترين أشتون اعتصام رابعة، وأوعزت إلى قادة التنظيم بالإعلان عن سُلطات مُوازية؛ كان المقصود أن تُدفَع مصر إلى صيغة «بلد برأسين» كما حدث فى ليبيا وسوريا، وكما يحدث فى اليمن والسودان، وذلك إمَّا يُفسح مجالاً للتدخُّل الدولى أو يُدخِل السلطة الشرعية فى «بيت الطاعة»، خاضت الإدارة الجديدة حربًا ضَروسًا مع حصارٍ دولى خانق، قادته إدارة أوباما وعاونتها حكومات إقليمية وعالمية، لكن العافية التى أنتجتها ثورة 30 يونيو، والمضادات الحيوية التى وفَّرها الإجماع الشعبى، وعزيمة القيادة وثقتها فى قضيتها العادلة، تضافرت معًا لتُنجز تفكيكًا دؤوبًا للقيود وشِبَاك الصيد: استعادت مصر مقعدها فى الاتحاد الأفريقى وصولاً إلى رئاسته لاحقًأ، ورضخ البيت الأبيض لإرادة المصريين، وانحسرت مُؤامرات الدول والأجهزة بعدما تآكلت ورقة الإخوان وخفُت بريقها الدعائى، إن مصر لم تنج من الفخ الذى حُفِر لها بطَرح الإخوان خارج السلطة، بل استكملت جهود النجاة عبر برنامجٍ طويل ومُكلِّف من النشاطات المُتوازية والمُتداخلة: صدّ الإرهاب، وتثبيت الدولة، وتقوية الجبهة الداخلية، واستكمال باقة القوّة الشاملة بتطوير الجيش وتعزيز أدوات الدبلوماسية، ثم بحالةٍ حيوية من الحراك لإعادة ضبط التوازنات الاجتماعية، وتصحيح اختلالات الماضى، وتمكين الفئات المُهمَّشة ومهضومة الحقوق، وكثير من تلك المسارات كانت سببًا فى إطفاء نار الشحن والتأجيج، ومحاولات تأليب الشارع فى دعايات الإخوان ومن يقفون وراءهم.. لقد قطعنا تذكرة النجاة يوم 30 يونيو؛ لكننا وصلنا فعلاً بعد ذلك بسنوات، ملؤها الإصرار والجدّية والدأب.
 
على طول الرحلة، كانت الفُرص مُختلطةً بالتحدّيات، والآمال بالإحباطات، ولا تخلو التحوُّلات الجذرية فى مسيرة الأوطان من إخفاقاتٍ وإنجازات. ضيَّعت مصر عقودًا من أخصب فترات التنمية السريعة والإصلاح السهل؛ وليس مأمولاً أن تُعوِّض الهَدر الكبير فى قفزةٍ واحدة. كان الميراث ثقيلاً قبل يناير 2011، وزاد بعدها، وأصبح فادحًا وشديد الوطأة بعد فوضى الإخوان وإرهابهم؛ لكن الرؤية الوطنية التى بزغت من شوارع يونيو، سعت باجتهادٍ ملموس إلى تعويض فواقد الوقت والجهد. لم تُحقّق مصر مُرادها كاملاً بالطبع، ولا تزال الأحلام كبيرة وما يستحقّه المصريون أكبر؛ إنما لا يمكن التغافل عن أوّل تطبيق جادٍ لفلسفة العدالة الاجتماعية، بالقضاء على العشوائيات والمناطق غير الآمنة، وإعادة تسكين عشرات آلاف الأُسَر فى بيوتٍ آدميّة، ولا عن الالتفات إلى أكثر من 4 آلاف قرية تحتضن نصف المصريين بمُبادرة «حياة كريمة»، أو إنعاش الروافع التنموية بالضخّ المُنتظم والمُخطَّط فى شرايين البنية التحتية، والتوسُّع الأُفقى لزيادة المعمور وخلق تجمُّعات سكنية وصناعية جديدة، أو الطموح المُلهِم فى إضافة ملايين الأفدنة إلى رقعةٍ زراعية شاخت، ولم تعد قادرةً على إطعام ملايين الأفواه المُضافة سنويًّا إلى بلدٍ يضيق على ساكنيه. كل ما قُطِع من خُطىً على مسار التنمية، وهو كثيرٌ ومُهم، لم يكن مُمكنًا لو ظلَّ الإخوان خنجرًا فى خاصرة البلد، وتحدّياتنا اليوم كانت لتصبح أعمق وأشرس لو ظلُّوا فى السلطة؛ ولذا فإن كل إنجاز تحقَّق، أو أزمة لم تتفاقم، مَردُّه إلى الثمرة الأولى والأغلى التى قطفها المصريّون فى شوارع 30 يونيو، عندما استجمعوا إرادتهم واستخلصوا مصر من مخالب الضباع.
 
لو لم يُنجز الرئيس السيسى إلّا تطهير مصر من «عُكارة بطنها» وأسوأ مَن أنجبت من عيال حسن البنا لكفاه؛ لكنّه إلى جوار ذلك أعاد للمصريين الثقة فى أنفسهم، وشقّ طريقًا عادلاً وإنسانيًّا نحو تجفيف رواسب الماضى ومظالمه الاجتماعية، ولولا تقلُّبات البيئة الدولية ورياحها العاتية، من وباءٍ إلى حرب إلى أزمة إنتاجٍ وتضخُّم ومعارك فى التجارة والفائدة؛ لصارت الأمور إلى أفضل ممّا هى عليه.. فى بلدٍ بحجم مصر، ومجتمع مُتنوّع إلى درجة أنه يستحيل اختزاله فى توجُّهٍ أو غاية واحدة، قد تتفاوت الرؤى فيما يخص مسار التنمية الذى انتهجته دولة 30 يونيو، والاختلاف فى الرأى لا يُفسد للوطن قضية على قول الرئيس نفسه؛ إنما قد لا يختلف اثنان فى أهمية وضرورة وأثر الخلاص من جماعة الإخوان، وكانت طابورًا خامسًا ينهش مصر من قلبها وأعلى مراكز سُلطتها، وقد لا يختلف اثنان أيضًا على قيمة المبادرات الاجتماعية والصحية ومشروعات تطوير الريف والعشوائيات، ولا على التمدُّد أُفقيًّا وتوسعة مساحات الزراعة، وعلى تطوير الجيش وتحديث تسليحه، والالتفات الجاد إلى الجبهات الساخنة شرقًا وغربًا وجنوبًا، وتأمين مصالحنا فى مياه المُتوسّط، وبالتأكيد لم يختلف أحد من القوى السياسية على «الحوار الوطنى» الذى دخلوه مُستبشرين، وشاركوا فيه جادّين، واستخلصوا مُخرجاته مُتوافقين، فى قلب ذلك لا يخلو المشهد من اختلافاتٍ ومُلاحظات ومُعارضة؛ إنما يظلّ الأمر فى حيِّز النسبيّة والجزئيات، لا فى الثوابت أو المصالح العليا والقضايا الجامعة. فى سياقٍ آخر يقوده الإخوان، كانت خلافاتنا ستدور حول الأمن القومى والإرهاب والميليشيات، وتسريب أسرار الدولة، والعمل فى خدمة أجهزة إقليمية ودولية، أى كُنّا سنختلف على البلد لا من أجله، لذا سيظل وساما على صدر المواطن عبدالفتاح السيسى، والجيش، وجموع المصريين الذين ثاروا على الجماعة الإرهابية، أنهم جميعًا أنقذوا مصر، وأنقذوا أنفسهم والأجيال المقبلة، وأخرجونا من «بيت الطاعة» الأُصولىّ، ومن مُستنقعٍ كان يُراد أن تنزلق إليه الدولة ولا تُغادره أبدًا.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة