الشعر سيد القول، هذه جملة أؤمن بها، ومن رزقه الله قول الشعر فقد تحصل على زرق كثير، ومن أصحاب الرزق الوفير الشاعر محمد البديوي، وها نحن نقرأ معا ديوانه "أثقل من جبل يتمشى" الذى صدر مؤخرا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
بعدما انتهيت من الديوان عدت مرة أخرى لأقرأ العنوان فوجدتنى أقرأه "الغربة.. أثقل من جبل يتمشى" أضفت لفظة "الغربة" وبالفعل هى ثقيلة متعبة خاصة على نفوس الشعراء، الذين يشعرون باغتراب حتى فى أوطانهم، وباغتراب بين الناس، واغتراب مع الذات، ويزيد الثقل إذا ما انتقل الشاعر وذهب إلى غربة مكانية.
أول الملاحظات أنك عندما تقرأ شعر محمد البديوى كأنك تسمعه شخصيا يقرأ القصائد، وذلك لأن لمحمد البديوى "فرادة" فى إلقاء الشعر، يلقى القصيدة فتشعر بها من حولك، تتسارع الجمل كأنه يخشى انفلاتها، وتتزاحم المعانى والصور فترسم اللوحة كما يراها ويريدها.
للموت حظ فى الحياة
للموت حظ فى الحياة
رأيته يمشى على جنب الطريق ويشتكي
مما يقول الناس
يضحك من تفاهتهم
إنه الموت أحد هواجس الغربة، لا يملك الشاعر سوى أن "يجسده" كى يراه ويعرفه، يخشى "مباغتته" فى البلاد البعيدة، لذا يتأمله، ويحاول أن يجعل له كيانًا واضحًا، كى يسأله، بالطبع يعرف أنه لن يصل إلى إجابة معينة، لكنه يكفيه أن ينظر فى عينيه ويقول عنه "راقبته ولمحت بعض دموعه".
وفى الديوان تنتشر ألفاظ دالة على الغربة مثل "المهاجر، وعابر سبيل، والليل، وقلق، وحزن، والطير، والشمس، والنهار" وكل هذه الألفاظ وغيرها دوال لها معناها اللغوى والسياقي، لكنها جميعا تقودنا إلى ألم قلق ينشب أظفاره فى حياتنا مثل ذئب.
قلقى يعرف كيف يدللني
قلقى يعرف كيف يدللني
يوقظنى قبل الفجر ويبكي
يوميا يركب جسدي
يكتب فوق جبينى قصته
يفضحتي
نعم، إنه الشعر الذى يطرح كل شيء للتأمل، يتحدث هنا عن القلق، ذلك الوحش الذى لا يترك لنا براحًا، يأكل كل ما نقدمه فى حياتنا، ينغض علينا يومنا، يملك من القوة أكثر مما نتخيل، إنه يملك قدرة على الفعل الحركى والمعنوي، يوقظنى ويدفعنى للبكاء، كما أنه قادر على الفضح، وما أقسى الفضح.
كنت وحيدًا بما فيه الكفاية
لطفل لا يفهم الفرق بين الماضى والمستقبل
ولا يفرق بين الماء والملح
لقد بدأ الأمر منذ وقت مبكر، الوحدة بكل ما تثيره فينا من ألم وخوف، وكل ما تحمله من رغبة فى العزلة، تحضر فى الديوان سواء بشكل واضح كما نرى فى النص السابق، أم بصورة خفية، كأنها الإطار العام الذى يؤطر كل شيء.
لقد اختتم محمد البديوى الديوان بقصيدة موحية "لأن الموت يسكنني" فى صورة دائرية تعود بنا للقصيدة الأولى "عين لا تنام" التى كانت تدور حول الموت أيضا، لكن هذا الدوران لا يعنى أن الديوان "كئيب" لا أبدا، إنه ديوان إنسانى ووجبة مهمة فى حصة الشعر أضافها محمد البديوى بكل خبرته فى التعامل مع القصيدة.
أثقل من جبل يتمشى هو الديوان الاول لمحمد البديوي، لكنه محمل بخبرته اللغوية والرؤيوية لفن الشعر الذى لم يتخل محمد عنه، معتقدا انه هويته الاولى وصورته الحقيقية.