عندما يقرر الإنسان أن يتكلم، يبدو الأمر غاية في السهولة والبساطة، وقد يتكلم الإنسان فجأة بشكل لا إرادي بعد فترة صمت واستماع، ولا يتمعن كيف ومن أين يخرج صوته ليعبر عن مكنوناته وأفكاره ومشاعره. ولكن في حقيقة الأمر؛ عملية خروج الصوت من الإنسان في صورة كلام هي عملية معقدة للغاية وقد ينتج الصوت من خلال تشغيل 6 أجهزة في جسم الإنسان بشكل متلاحم؛ هؤلاء الأجهزة هم: الجهاز العصبي، والجهاز التنفسي، والجهاز الصوتي، وأجهزة الرنين أو حجرات الرنين، وأجهزة النطق أو أعضاء النطق والكلام، والجهاز السمعي. وكل جهاز من هؤلاء الأجهزة يحتوي على عدة انقسامات وعدة أعضاء داخلية، حيث لكل عضو وظيفته العامة في الجسم ووظيفته الخاصة في عملية النطق والكلام.
اسمح لي صديقي القارئ أن نتعمق معا في عضو من أحد أهم أعضاء النطق والكلام وأيضا من أهم أعضاء جسم الإنسان، عضو له بصمة مميزة وقد يظل باقيا ولا يفنى حتى بعد موت الإنسان بعقود طويلة؛ هذا العضو هو الأسنان.
الدور الرئيسي للأسنان في جسم الإنسان هو مضغ وسحق الطعام بمختلف أنواعه وأشكاله، حيث تتكون الأسنان من تركيب صلب ولكنها ليست عظام، حيث يختلف تكوينها عن تكوين العظام، الأسنان لها جذور مغروسة داخل الفكين (الفك العلوي والفك السفلي)، ويختلف شكل الأسنان من شخص لأخر من حيث طولها وحجمها وشكلها، لذلك تعد بصمة الأسنان من أهم أنواع البصمات البيولوجية المستخدمة منذ قديم الزمن، لأنها لا تتحلل بسهولة ويمكن أن تظل باقية على شكلها وتفضيلها حتى بعد موت الإنسان بمئات السنين. ونرى ذلك دائما عند اكتشاف المومياوات المختلفة والتي تظل أسنانها داخل الفك كما هي، ويمكن من خلال شكل الأسنان التعرف على الشخص إذا كان رجل أو امرأة أو طفل، كما يمكن تحديد عُمُر الإنسان وعِرقه من خلال أسنانه.
من الناحية الصوتية؛ الأسنان هي أحد أعضاء النطق والكلام الهامة وتقع داخل التجويف الفموي أو التجويف الأوسط (Oral Cavity). وتأتي أهمية الأسنان في عملية النطق والكلام من عدد الأصوات الهائلة التي لا يمكن نطقها بطريقة صحيحة إلى من خلال الأسنان أو بواسطتها. ومن الأصوات التي تنطق من بين الأسنان (الأسنان العلوية والأسنان السفلية) صوت "ث"، "ذ" وأيضا صوت "س"، "ز"، "ت"، "د"، "ن" من اللثة والأسنان العلوية، كما ينطق صوت "ف" في اللغة العربية وصوت "v" في اللغة الإنجليزية من الأسنان العلوية والشفاه السفلية.
تخيل معي عزيزي القارئ إذا كانت لديك مشكلة في أسنانك العلوية أو السفلية، فكم صوت لا يمكنك نطقه بشكل سليم؟ وهل سيبقى كلامك مفهوم بالنسبة للأخرين بعد كل هذه الأصوات المنطوقة بشكل غير سليم؟
بالطبع، سيواجه الكثير صعوبة شديدة في فهم كلماتك، وربما يعرضك ذلك للتنمر أو الاستهزاء بكلامك وأيضا سوء معاملة من الأخرين. ويحدث ذلك مع الأطفال في سن صغير عند حدوث عملية تبديل الأسنان، أو عند تشوه الأسنان، أو عند تركيب تقويم، فكثيرا ما يكون الطفل ضحية للتنمر من الكبار والصغار.
يحدث تشوه الأسنان نتيجة وجود فراغات بين الأسنان وبعضها بشكل كبير وخاصة في الأسنان العلوية، فيؤدي ذلك إلى تشوه كبير في نطق الأصوات المختلفة التي تنطق بواسطة الأسنان أو من بين الأسنان. وقد يصل هذا التشوه إلى تغيير كامل في جودة الصوت، على سبيل المثال ينطق صوت "س" ويخرج بدلا منه صوت "ث"، وبناء عليه يؤثر ذلك التشوه على جودة الأصوات والكلمات والجُمل بشكل عام. وقد يرفض شاب الارتباط بفتاة لأنها "لدغه" أو بالمعنى العلمي لديها ذلك التبديل في الأصوات، أو ربما ترفض فتاة الارتباط بشاب لذات السبب، بالرغم من إمكانية معالجة الأمر منذ الصغر من خلال زيارة طبيب الأسنان والبحث عن السبب وبعدها زيارة أخصائي النطق والكلام لضبط مخرج الصوت.
ومن ناحية أخرى قد ينتج تشوه الأسنان نتيجة تداخل الأسنان العلوية والأسنان السفلية بشكل غير متطابق، مما ينتج عنه فراغات كبيرة بين الأسنان العلوية والأسنان السفلية، بسبب عدم تناسق الأسنان بشكل لا يسمح لها بالغلق الكلي عند غلق الفم. وكلما زادت الفراغات بين الأسنان العلوية والأسنان السفلية يؤدي ذلك إلى تشوه كبير في نطق كثير من الأصوات التي تخرج من بين الأسنان أو بواسطتها. وبناء عليه، فقد يؤثر تشوه الأسنان على عدة أصوات في اللغات المختلفة والتي تخرج من أربعة مخارج (Labiodental, Dental, Alveolar & Postalveolar) وذلك من أصل 11 مخرج من مخارج الأصوات في جميع لغات العالم. ويجب على من يعاني من مثل هذه التشوهات زيارة طبيب الأسنان المختص وعلاج ذلك التشوه بشكل طبي سليم وبعدها يتوجه لأخصائي النطق والكلام حتى يتعلم كيفية خروج الأصوات المختلفة التي تأثرت نتيجة تشوه الأسنان.
الجز على الأسنان
حتى بداية الثمانينات تقريبا، كانت كثير من الأمهات تجز على أسنانها عندما يفعل الأولاد شيء مخالف للعادات والتقاليد، وبخاصة إذا كان ذلك في حضور ضيوف، فتكون الأم حينها غير قادرة على معاقبة الطفل أو نهره؛ فتجز على أسنانها أمام الطفل لتتوعد له أنها ستعاقبه فيما بعد عن أفعاله. جز الأسنان هو عض وطحن الأسنان ببعضها البعض دون وجود طعام في الفم مع خروج صوت أو عدم خروج صوت. وأوضح المختصون في طب الأسنان مدى خطورة الجز على الأسنان والمشكلات التي قد يتسبب بها ذلك التصرف الذي ربما يكون لا إراديا في كثير من الأحيان، حيث يتسبب الجز على الأسنان في التهابات اللثة وألم شديد في الأسنان والفك وربما يصل إلى الأذن والمخ، كما يتسبب في صداع شديد. وتزداد خطورة الأمر إذا كان يجز الطفل على أسنانه ويفعل ذلك بشكل لا إرادي أثناء نومه أو خلال نشاطات يومه، حيث أوضح بعض المختصين في علم النفس أن جز الطفل على أسنانه يُعتبر علامة على الشخصية العدوانية شديدة العداء. ومن ناحية أخرى، قد ينتج عن الأسنان صوت ناتج عن احتكاك الأسنان ببعضها البعض من خلال حركة مفصل الفك السفلي بشكل لا إرادي، ويحدث ذلك في حالة الشعور بالبرد الشديد، وأيضا قد يحدث ذلك أثناء النوم أو خلال اليوم مع الأطفال والكبار على حد سواء، وفي هذه الحالة يطلق على هذه الصوت "صرير/ صفير الأسنان".
الكلام أثناء تناول الطعام
في هذا العصر ذو الإيقاع السريع، كثير منا يتحدث في الهاتف وهو يأكل أو يشرب، وربما يقول في قرارة نفسه أن لا أحد سيشعر بذلك، ولكن في الحقيقة، أنه يتم إدراك الأمر من أول لحظة من المستمع، وتجده يقول لك "شكلك بتاكل، مافيش اتفضل" وتجد نفسك مُحرج في بعض الأحيان وترد بما يتناسب مع الموقف بعبارات المجاملات العامة. ولكن، ربما يتساءل البعض كيف يعرف المستمع على الهاتف أني أتناول الطعام أو الشراب؟!
والإجابة في غاية البساطة عزيزي القارئ، تقريبا جميع أعضاء النطق والكلام والأجهزة الصوتية الستة التي تم ذكرها في بداية المقال، لها وظيفة أخرى رئيسية في الجسم بالإضافة لوظيفتها في إنتاج عملية الكلام وخروج الصوت البشري. وبناء عليه، عندما تتحدث وأنت تأكل فيكون الجهاز الصوتي مشغول بوظيفة أخرى غير إنتاج الصوت والكلام، وهكذا يخرج الكلام بشكل غير واضح كالمعتاد وأيضا ربما يؤثر ذلك على عملية تناول الطعام بالسلب، حيث يدخل الطعام في مكان غير مكانه مثل القصبة الهوائية وقد ينتج عن ذلك كحة شديدة أو شرقة أو اختناق في التنفس بسبب مرور الطعام في مكان أخر، وقد يؤدي هذا الخلل إلى الوفاة اللحظية في كثير من الأحيان.
رائحة الفم الكريهة
البعض لديه رائحة فم كريهة وبخاصة في الصباح الباكر عند الاستيقاظ من النوم، وهذه الرائحة الكريهة لها عدة أسباب طبية وتدل على بعض الأمراض الخطيرة التي لا ينتبه إليها البعض، ولكن من ناحية العناية بالأسنان فهذه الرائحة الكريهة يمكن أن تكون بسبب عدم غسل الأسنان بشكل دوري أو تراكم الجير على الأسنان أو بسبب كثرة تناول المشروبات الغازية والكافيين. ومن الناحية الصوتية، هذه الرائحة الكريهة قادرة على أن تمنع الإنسان من الكلام! حيث يبتعد الناس عن الشخص ذو رائحة الفم الكريهة عندما يتحدث، وربما الشخص نفسه يظل يتحدث بصوت خافت وصوت غير واثق ينُم عن إنسان هزيل وضعيف الشخصية، وكل ذلك بسبب رائحة فمه الكريهة التي يشمها هو نفسه وهو يتحدث.
فتخيل معي عزيز القارئ، إذا كانت مجرد رائحة الفم الكريهة قادرة على أن تمنع الإنسان من إخراج صوته، فكيف يكون الحال عندما يكون هناك مشكلة ما في أحد الضروس أو الأسنان؟
نعم بالطبع، يكون الإنسان غير قادر على التحدث أو على إنتاج الصوت، وربما يكون منا من عاش هذه التجربة المريرة في حال إهماله لأسنانه لسنوات طويلة وفجأة يشعر بألم شديد وورم في الخد ويصبح غير قادر على الكلام أو على تناول الطعام، وربما يستغرق العلاج أيام طويلة يكون فيها الشخص غير قادر على إنتاج الصوت والكلام بسبب مشكلة في أسنانه.
عزيزي القارئ، العناية بالأسنان هي جزء لا يتجزأ من العناية بالصوت، فإذا كنت ترغب في صوت واضح وجذاب ويدل على شخص واثق في نفسه، فلابد أن تزور طبيب الأسنان وتطمئن على أسنانك التي هي من أهم أعضاء النطق والكلام لديك، فسلامة الصوت من سلامة الأعضاء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة