يبدو لجوء دولة جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، لإدانة الانتهاكات المتفاقمة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، بمثابة خطوة مهمة ومحورية، سواء من حيث التوقيت، في ظل تزامنها مع حالة من الامتعاض الدولي العام، تجاه الممارسات الوحشية التي ترتكبها قوات الاحتلال، من جانب، أو من حيث التداعيات، في ظل ما تمثله من زيادة كبيرة في الضغوط التي تواجهها الدولة العبرية في اللحظة الراهنة، جراء تعنتها في العديد من الملفات، أولها الاستجابة لوقف فورى ودائم لإطلاق النار، وكذلك إعاقتها لوصول المساعدات الإنسانية في قطاع غزة، ناهيك عن محاولاتها الحثيثة لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، وما تمثله مثل هذه الدعوة من انتهاك صريح لقواعد القانون الدولي، في ظل وقوعها تحت بند الإبادة الجماعية.
إلا أنه بعيدا عن التوقيت والتداعيات، يبقى إقدام دولة مثل جنوب إفريقيا، بما تملكه من تاريخ وجغرافيا، بعدا مهما وفارقا، عند النظر إلى الدعوى المنظورة أمام محكمة العدل الدولية، في ظل ما تضفيه طبيعة الدولة صاحبة الدعوى من زخم دولي، خاصة وأنها لا تنتمي إلى منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى كونها لا تنتمي إلى الهويتين العربية والإسلامية، بالإضافة إلى معانتها التاريخية مع العنصرية، وهو ما يعكس موضوعية القضية التي قررت بريتوريا تبنيها أمام القضاء الدولي الأرفع عالميا، بعيدا عن أية انحيازات، ناهيك عن علاقاتها القوية بالقوى الدولية المؤثرة، وهو ما يبدو في كونها عضو مؤسس في مجموعة "البريكس"، جنبا إلى جنب مع روسيا والصين والهند، بالإضافة إلى كونها لاعبا قويا فيما يتعلق بالتحرر من النفوذ الغربي المتنامي في أفريقيا، وهو ما بدا في العديد من المشاهد أبرزها التوتر الملموس في العلاقة مع واشنطن، على خلفية التقارب الكبير بين بريتوريا وموسكو.
ولكن بالرغم من هذا التوتر، تبقى العلاقات بين جنوب أفريقيا والغرب بشكل عام مهمة بالنسبة للأخيرة، في ظل اقتصادها القوى، بالإضافة إلى كونها لاعبا مهما في القارة السمراء، والتي شهدت تراجعا كبيرا في نفوذ أوروبا الغربية، وهو ما بدا واضحا بين مالي والنيجر، واللتين أزاحتا فرنسا من أراضيهما، خلال الأشهر الماضية، وبالتالي تبقى الحاجة ملحة لتعزيز العلاقة مع القوى الرئيسية في مختلف أقاليم القارة للحفاظ على المصالح الاستراتيجية بها، خاصة مع تنامي الدور الذي تلعبه كلا من بكين وموسكو خلال المرحلة الراهنة.
وهنا يبدو التأثير الكبير للدعوى التي أقامتها جنوب أفريقيا، بحق إسرائيل، في لحظة تبدو حاسمة للغاية، في خضم العدوان الوحشي على قطاع غزة، حيث تبقى الحاجة الملحة للغرب الموالي لإسرائيل للاحتفاظ بعلاقته مع القوى القارية المؤثرة، ناهيك عن انكشاف ازدواجيتهم أمام العالم، منذ بدء الأزمة الراهنة، بالإضافة إلى الدعم الذي تحظى به بريتوريا من المعسكر المناوئ للغرب (روسيا والصين) بمثابة أوراق ضغط مهمة على الجانب الإسرائيلي.
ولعل أهم ما يلفت الانتباه في الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا، يتجسد في كونها نقطة انطلاق مهمة لتداخل إفريقي على خط الصراع التاريخي في الشرق الأوسط، أو بالأحرى عودة قارية لإفريقيا، بعد غياب دام لعقود طويلة من الزمن، ربما يرجع إلى حقبة الستينات، وأوائل السبعينات، وهو الأمر الذي يبدو مستحقا لدراسة متأنية، تستحق التأمل، في ظل تغييرات في الموقف الإفريقي، من حالة الدعم المطلق للحق العربي الفلسطيني خلال المذكورة، ليتراجع تدريجيا نحو حالة من الحياد، الذي مال في فترات معينة إلى الانحياز لدولة الاحتلال بحكم المصالح التي ربطت دول القارة مع الغرب.
وفي الواقع، ارتبطت فترات التراجع في الدعم الإفريقي للقضية الفلسطينية، بالإهمال الكبير للقارة من قبل القوى "الأفروعربية"، وفي القلب منها مصر، والتي تراجعت إفريقيا في أجندتها لعقود طويلة من الزمن، وهو ما خلق حالة من التباعد فيما يتعلق بالقضايا المركزية بالمنطقة، وجردها في واقع الأمر من جزء كبير من الدعم الدولي المؤثر، مما ساهم في إضعافها، وهو الأمر الذي يعكس حجم النقلة النوعية التي شهدتها العلاقة بين مصر ومحيطها الإفريقي خلال السنوات العشرة الماضية، والتي اعتمدت تعزيز العلاقة مع الدائرة الإفريقية والعمل على توسيعها، عبر اقتحام دول بعيدة نسبيا عن محيطها القريب، وهو ما يبدو في التقارب مع دول القارة، بدءً من غينيا الاستوائية، مرورا بأنجولا وزامبيا والجابون، وحتى جيبوتي وتشاد والكونغو الديمقراطية، بالإضافة إلى جنوب أفريقيا، وهو ما ساهم في إحياء حلقة التواصل المفقودة، ليس فقط في العلاقات الثنائية بين هذه الدول ومصر، وإنما أيضا فيما يتعلق بإحياء الدور الإفريقي الداعم لقضايا الرئيسية في الشرق الأوسط، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
وبالتالي تبقى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا، هي بمثابة باكورة الثمار التي جنتها منطقة الشرق الأوسط، جراء التقارب مع الأقاليم المتداخلة معها جغرافيا، جراء السياسات التي تبنتها مصر، والتي باتت راعيا رئيسيا للقضية الفلسطينية، في ظل قدرته غير المتناهية على خلق توافقات دولية "عابرة للأقاليم" حول ثوابت القضية الفلسطينية، وهو ما ساهم في زيادة الضغوط على الاحتلال، عبر تحول كبير في المواقف الدولية، من الدعم المطلق لدولة الاحتلال، في بداية العدوان على غزة، تحت ذريعة الدفاع عن النفس، إلى إدانة الانتهاكات الإسرائيلية، والحديث الجاد حول ضرورة الاعتراف بدولة فلسطين من قبل قوى دولية مؤثرة، على غرار دولتي مقر الاتحاد الأوروبي (بلجيكا) ورئاسته الحالية (أسبانيا).
ويعد التداخل الأفريقي في القضايا الإقليمية بمثابة أحد الأهداف الرئيسية التي تبنتها الدولة المصرية في السنوات الماضية، باعتبارها أهم القوى التي تجمع بين الهويتين العربية والإفريقية، في ظل رغبتها في توسيع نطاق التكامل، بحيث لا يقتصر على منطقة جغرافية محدودة، عبر توسيع التعاون بين الدول، وإنما يمتد لتحقيق حالة من التكامل بين الأقاليم الجغرافية، عبر التنسيق بين الأقاليم المتقاطعة جغرافيا، وتعظيم المصالح المشتركة فيما بينها، والعمل على الحصول على دعمها فيما يتعلق بالقضايا المشتركة، مع تحييد الخلافات إن وجدت، وهو ما يمثل أحد أهم محاور العمل الدبلوماسي المصري في السنوات الأخيرة.
وهنا يمكننا القول بأن دعوى جنوب أفريقيا بحق الانتهاكات التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي هو خطوة هامة وعملاقة، من شأنها تحقيق تضامن أوسع مع القضية، في الوقت الذي تزيد فيه عزلة الاحتلال والدول المنحازة إليه، بينما تضفى المزيد من المصداقية لعدالة الحق الفلسطيني، فيما يتعلق بمرحلة ما بعد العدوان على غزة، عبر مراحل التفاوض حول الحل النهائي، في ظل التوافقات التي تحققت خلال الأزمة حول الثوابت، وفي القلب منها حل الدولتين، في إطار يتجاوز الدول نحو توافقات إقليمية عابرة للثقافات والجغرافيا التقليدية.