لا يحتاج المرء منا أن يتمتع بقريحة العباقرة فى التحليل السياسى، وقراءة المشهد الدولى بشكل دقيق، ولا يحتاج المرء منا أن يكون دارسا فى جامعة هارفارد الأمريكية العريقة، ليشحن عقله بالنظريات السياسية المعقدة، ولكى يتمكن من تفكيك وتركيب الألغاز وما يدور خلف كواليس المسرح السياسى العالمى، إنما يحتاج المرء فقط متابعة الأحداث صوتا وصورة، فى عالم صارت فيها التكنولوجيا ناقلة لأدق التفاصيل، وكاشفة لكل الكواليس، وأنه من خلال جهاز التليفون «المحمول» فى «اليد» يتعرف المرء على كل ما يدور فى العالم الآن، ويعى أن الجغرافيا السياسية اشتعلت براكينها، مهددة بحرب عالمية ثالثة قاسية.
شرارة النيران بدأت تتمدد وتنتقل من غزة إلى ما هو أبعد من دول الجوار، وكما قال «ابن قيم الجوزية» فى الشطر الثانى من البيت الأول لقصيدة له: «ومعظم النار من مستصغر الشرر».
والاكتفاء بهذا الشطر لما يحمله من تحذير بليغ، للنار المشتعلة فى المنطقة، والعالم كله، والتحذير هنا، من أن النار المدمرة تبدأ من إندلاع شرارة صغيرة، يمكن أن يعتبرها البعض تافهة، سهلة السيطرة عليها، بينما التاريخ يؤكد أن كم من حرب اندلعت بسبب تافه، غير ذى أهمية، وأن الاستخفاف به يمكن أن يؤدى إلى عواقب وخيمة، مثل الاستخفاف بحرب إسرائيل البربرية على غزة، فى البداية، خاصة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلفها دول أوروبا القديمة، ما أدى إلى تطاير الشرار وتمدده فى الإقليم، وأن صداها تجاوز البحر الأحمر والاحتكاك بين قوتين نوويتين باكستان وإيران، ووصل إلى روسيا وأوكرانيا، وشبه الجزيرة الكورية!
وصار التخبط الآن هو سيد الموقف، فالولايات المتحدة الأمريكية - ومن خلفها بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا - فشلت فى تقديراتها الجيدة لنتائج الحرب الوحشية الإسرائيلية فى غزة، وسارت خلف بنايمين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، الذى ارتدى عباءة شمشون، لهدم المعبد على رؤوس الجميع، فزاد تخبطها، ويستشعر الجميع أن أمريكا تحديدا فقدت القدرة على إطفاء الحرائق، ومنع تسللها، وتعقدت الأمور من بين يديها، وصارت فى «حيص بيص» .
الأمر ذاته، إيران بدأت تتخبط، وحساباتها باتت تتعقد، فقررت إشعال النار فى مناطق أخرى كالعراق وباكستان، اعتقادا منها أن الوضع فى غزة صار اهتماما عالميا، وأن قبضتها على الملف بدأت تترهل وتتفكك يوما بعد يوم، وأن مخططاتها باءت بالفشل، فازداد تخبطها، وزيادة التخبط، تعطى دلالات أن العقل فقد السيطرة وحاد عن الصواب!
هذه النيران المشتعلة، وصفها وزير الدفاع البريطانى جرانت شابس، خلال الأيام القليلة الماضية، توصيفا جيدا، عبر تصريحات له عن المناورات الضخمة التى يجريها الحلف الأطلسى «ناتو» عندما قال نصا: «عصر السلام المستقر انتهى».
المصطلح الذى دشنه وزير الدفاع البريطانى، مر مرور الكرام، دون اهتمام من المحللين سواء فى الإقليم أو على المستوى العالمى، ولم تفرد له وسائل الإعلام الدولية، المساحات التى يستحقها من المناقشة والتحليل.
وزير الدفاع البريطانى قال: «أنفقنا 31 مليون جنيه إسترلينى لتحديث وتطوير قدراتنا النووية واستخدام أدواتنا العسكرية فى الردع، وتحويل قواتنا العسكرية إلى ماكينة ردعيه قوية، من خلال منح قواتنا المسلحة القدرة على التحرك فى أكثر من مكان بنفس الوقت».
وزير الدفاع البريطانى، لفت النظر إلى أن بلاده سترسل 20 ألف جندى إلى حلف الأطلسى فى مهمة جديدة، حسب وصفه، وأن هذه المهمة هى الأكبر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأن بريطانيا ستنشر 60 ألف جندى حول العالم، وهو عدد يعد الأكبر لبريطانيا منذ أكثر من 40 عاما.
ولم يشأ وزير الدفاع البريطانى، أن يختم تصريحاته، دون لفت الأنظار لأمر مهم، عندما قال: «إن مكاسب السلام فى فترة ما بعد الحرب الباردة وصلت إلى نهايتها، ما يؤكد أن هناك تحركات فى أوروبا الشرقية، هدفها التحرش بروسيا، ما يؤكد أنه فى حالة انتهاء الحرب الإسرائيلية فى غزة فإن النار ستزداد اشتعالا فى أوكرانيا.. ما ينذر بحرب عالمية قاسية، لا يستبعد أن يستخدم فيها السلاح النووى، مطلقا.
الأمر صار أخطر من كل التوقعات، وأن شرار النار يوما بعد يوم تتنقل من بقعة إلى أخرى بسرعة، والتهديدات فى زيادة، وسط حالة ترهل نفوذ القوى التقليدية، ولم تعد هناك قوة ذات ثقل وتأثير قادرة على إطفاء الحرائق، فى ظل المنافسة والعداء المتصاعد بين القوى الأكبر فى العالم، أمريكا والصين وروسيا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة