في الوقت الذي تهيمن فيه أزمة قطاع غزة على الأحداث في العالم، في ظل الانتهاكات التي ترتكبها قوات الاحتلال بحق المدنيين العزل، تحت ذريعة "طوفان الأقصى" والتهديد الذي يلاحق إسرائيل جراء هجمات الفصائل الفلسطينية، يبدو أن المستجدات باتت كاشفة لحقائق، أبرزها أن العدوان يتجاوز مجرد درء التهديدات المزعومة أو حتى النزعة الانتقامية، إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، فالقطاع أو حتى القضية برمتها ليسا المستهدف الوحيد من العمليات الوحشية، وإنما في واقع الأمر المنطقة بأسرها، وهو ما يبدو في محاولات بث الفوضى، عبر دعوات مشبوهة، على رأسها تهجير الفلسطينيين، وهو ما يعكس محاولة صريحة لإعادة تصدير الفوضى إلى منطقة تعيش حالة من الاستقرار النسبي بعد سنوات الربيع العربي، وتدشين مرحلة من الإصلاح، تبدو إرهاصاتها في العديد من القوى الإقليمية، وعلى رأسها مصر، خلال السنوات الأخيرة، لتحقيق التنمية.
بينما تبقى الحقيقة الثانية، التي أسفرت عنها، الوقائع في الفترة الماضية، هو الارتباط الوثيق في المصير بين منطقة الشرق الأوسط، والأقاليم الأخرى المتقاطعة معها جغرافيا، وأهمها القارة الأفريقية، والتي تبدو هدفا مهما هي الأخرى، في إطار محاولات نشر الفوضى، خاصة وأنها تعد الرقعة الجغرافية الأكثر هشاشة، إذا ما قورنت بمناطق أخرى، على غرار آسيا، وهو ما يبدو في التزامن الملفت بين العدوان على غزة، والاتفاق المبرم بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال، في انتهاك صريح لسيادة دولة "أفروعربية"، وما يمثله ذلك من تهديد مزدوج على المستوى الإقليمي في صورته العربية، من جانب، وعلى المستوى القاري، في ضوء محاولة تغيير خريطة منطقة القرن الإفريقي.
ولعل التزامن بين مذكرة التفاهم الموقعة بين إثيوبيا وأرض الصومال، مع الأوضاع في غزة، تعكس إدراكا مهما من قبل صانعي القرار الدولي، بأهمية البعد "الأفروعربي"، في ضوء العديد من المسارات، ربما أبرزها التقارب الكبير بين القوى العربية المؤثرة مع دول القارة، خلال سنوات ما بعد "الربيع العربي"، وهو ما يظهر بجلاء في النموذج المصري، والتي استعادت علاقاتها مع محيطها الأفريقي الكثير من الزخم، خلال السنوات الماضية، في الوقت الذي تراجع فيه نفوذ الغرب، داخل القارة، بصورة كبيرة، في إطار يحمل قدرا كبيرا من الاستقلالية، مما ساهم في خلق حالة من التداخل بين القضايا العربية والأفريقية، أضفت الكثير من القوة للقضايا المشتركة، وبالتالي يبقى استهداف هذا البعد وتقويضه بمثابة أولوية مهمة في المرحلة الراهنة، سواء من قبل الدولة العبرية أو حلفائها فى الغرب.
ربما كانت الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، الحليف الأهم للغرب في منطقة الشرق الأوسط، أمام محكمة العدل الدولية، أحد أبرز مؤشرات حالة التداخل، بين البعدين العربي والأفريقي، خاصة وأنها، كما ذكرت في مقالي السابق، تضفى الكثير من الزخم للحق الفلسطيني، في ضوء معطيات عدة، أهمها أن الدولة التي أقدمت على الخطوة بعيدة جغرافيا عن دائرة التأييد التقليدية للقضية، على الأقل منذ عقود، والتي لم تخرج في أغلب الأحيان عن نطاق الهوية العربية الإسلامية، بينما ساهمت بصورة كبيرة في زيادة الضغط الدولي على حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في ضوء ما تمثله من حرج دولي، جراء فشله الميداني على أرض المعركة، فيما يتعلق بتحقيق أهداف الحرب التي يخوضها من جانب، وإنساني، على خلفية الانتهاكات الوحشية ناهيك عن إعاقة دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، من جانب آخر، بالإضافة إلى تفاقم أزمته السياسية، سواء على مستوى الداخل، فيما يتعلق بقضية الأسرى أو التراجع الاقتصادي، وغيرهما، أو على المستوى الدولي، في ضوء تغير نسبي وملحوظ في مواقف الحلفاء.
وهنا تبدو الحاجة الملحة، بالنسبة لإسرائيل وحلفائها المقربين، لضرب تلك الحالة من التداخل، عبر خلق أزمات قارية، ذات أبعاد عربية، بينما يعتمد اختيار موقع الأزمة على مدى الهشاشة التي يعاني منها، من خلال حلفاء قاريين لهم، وهو ما يبدو في النموذج الصومالي، الذي يحمل الهوية العربية ذات العمق الأفريقي، بينما يعاني من أزمات كبيرة جراء تفشي الإرهاب، وحالة الانقسام، ناهيك عن المعاناة الاقتصادية، في حين كانت أديس أبابا، مجرد أداة لتنفيذ المخطط المشبوه، وهو ما يحمل في طياته العديد من الأهداف، ربما أبرزها تحقيق المزيد من السيطرة، بالإضافة إلى تقوية علاقاتها بالغرب، لغض الطرف عن الداخل ومستجداته، عبر تقديم خدمة مهمة لحليفتهم العبرية، من خلال خلق حالة من الانقسام بين الحالتين العربية والقارية، من شأنها إنهاء التداخل الإيجابي في القضايا المشتركة.
وفى الواقع، يبدو التحرك الإثيوبي والذي تزامن مع الخطوة الجنوب أفريقية، مؤشرا مهما على استهداف حالة "إصلاحية"، تتبناها دول المنطقة، تقوم على أساس تحقيق أكبر قدر من الاستقرار، سواء الاقتصادي أو السياسي، أو حتى الدبلوماسي، عبر تصدير الأزمات من خلال الدعوات المشبوهة التي تتبناها حكومة الاحتلال، وضرب العلاقات التي تسعى إلى تدشينها، لتحقيق الاستقرار الشامل في إطار يتجاوز النطاق الإقليمي المحدود، خاصة بعدما نجحت تلك الرؤية، والتي تصدرتها مصر، في خلق حالة من التداخل الإيجابي، فيما يتعلق بأزمة غزة، ومجابهة الانتهاكات الإسرائيلية بالقطاع، وما يمكن أن ينجم عنه ذلك من تعزيز الموقف الفلسطيني في المستقبل، خلال مفاوضات الحل النهائي، وهو ما يثير قلق الدولة العبرية وحلفائها، وبالتالي تحركت نحو وأده مبكرا.
وهنا يمكننا القول بأن الحاجة تبدو ملحة لتعزيز البعد "الأفروعربي" في العلاقات الإقليمية، لدول الشرق الأوسط، بينما ينبغي تعزيز الأبعاد الأخرى، المرتبطة بمختلف مناطق العالم، وهو الأمر الذي ربما شهد طفرات كبيرة في السنوات الماضية، عبر تعزيز العلاقات العربية الصينية، وكذلك العلاقة مع اليابان، وهو ما بدا في التطور الكبير بين تلك القوى المؤثرة والمنطقة العربية، سواء في إطار الدول أو على مستوى الكيان الجمعي، والمتمثل في الجامعة العربية، والتي تتحرك بدورها نحو تحقيق تقاربات كبيرة مع مناطق أخرى، على غرار روسيا ودول الكاريبي، وحتى الولايات المتحدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة