تحديات كبيرة واجهت المصريين في لحظة اندلاع "الربيع العربي"، دارت في معظمها حول تساؤلات عما سوف تؤول إليه الاحتجاجات، وما سوف تسفر عنه، في لحظة غياب القيادة السياسية، وتهلهل الأحزاب، وعدم قدرتها على حشد الشارع، أو توجيه بوصلته، مع تنامي الحالة الفئوية، في ظل الرغبة في تحقيق تحول فوري في الأوضاع، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وهو ما يمثل انعكاسا للحالة "الثورية"، التي تسعى في جوهرها إلى إحداث تغيير جوهري، في لحظة الانطلاق، وهو ما لا يمكن أن يتوافق مع الواقع، بينما لم تكن هناك قوى قادرة على ترويض "خيال" الثوار، بل على العكس، فقد كانت القوى الوحيدة المنظمة في الشارع، والمتمثلة في الجماعة التي قفزت على "أحلام" البسطاء، تسعى إلى تأجيج تلك الحالة، لتحقيق مآربها السياسية، لتلتهمها نار الثورة، في نهاية المطاف، عندما عجزوا عن مجاراة الطموحات، التي أشعلوها، بعدما وصلوا إلى كرسي السلطة.
ربما يبقى تقييم الحالة "الثورية" في اللحظة الراهنة، أكثر موضوعية، بعد العديد من المراحل، التي مر بها المجتمع المصري، بين الانحدار نحو مستنقع الفوضى، والصعود مجددا، فالمطالب التي تبناها الشارع قبل 14 عاما، مشروعة تماما، ولكن يبقى الخلاف الرئيسي في الكيفية التي يمكن تحقيقها، وإطارها الزمني، وهي الأمور التي غابت عن المحتجين تماما، في ظل غياب قيادة رشيدة لحركة المتظاهرين، وهو الأمر الذي ربما تنبهوا إليه بعد ذلك بأكثر من عامين، عندما خرجوا إلى الميادين مجددا، لتفويض القوات المسلحة، باعتبارها الأقدر على درء التهديدات التي أحاطت بالدولة، على كل الأصعدة، وفي القلب منها الإرهاب.
المعضلة التي واجهت "الربيع" تجسدت في غياب قيادة رشيدة، مما أدى إلى حالة من الاندفاع نحو إحداث تغيير جذري، دون امتلاك أي مقومات لتحقيقه، في ظل حاجة ملحة إلى تحقيق "إصلاح" يؤهل إلى التغيير المنشود، وهو الأمر الذي انتبه إليه الشارع، في 30 يونيو، والتي تمثل في ذاتها "إصلاحا" لما أفسده تلك الحالة الثورية غير الواقعية، لتفتح الباب أمام ما حالة ثالثة، تتجسد في تحقيق "إصلاح" ذو طبيعة ثورية، عبر تغيير جذري في المفاهيم، والسياسات، عبر سلسلة من البناء، تبدأ من وعي الإنسان، وحياته وأوضاعه الاقتصادية، مرورا بحلحلة الثوابت المرتبطة بمفاهيم العدالة الاجتماعية والدعم، وغيرها، وحتى الانطلاق نحو بناء الدولة من خلال مشروعات عملاقة من شأنها الانتقال بالبلاد نحو حقبة جديدة، أو بالأحرى إلى "جمهورية جديدة"، من شأنها تحقيق ما نادى به الثوار الطامحين، ولكن عبر بناء أساس مجتمعي واقتصادي وسياسي، من شأنه تحقيق التغيير المنشود.
ولعل التزامن بين ذكرى 25 يناير، وما حمله من أحلام مشروعة لفئة كبيرة من المجتمع، وانطلاق مرحلة جديدة من مشروع "الضبعة" النووي، أحد أهم المؤشرات التي تحمل في طياتها أن الأهداف التي حملها متظاهرو يناير، وهنا أقصد الشرفاء منهم، تتحقق، ولكن ليس على أساس "فئوي"، وإنما على أرضية "وطنية"، عبر الدخول إلى عصر الطاقة النووية، عبر أحدث محطة يمكنها مواكبة النهضة التنموية الشاملة، التي تشهدها البلاد منذ عشر سنوات، ناهيك عن كونها سابقة إقليمية من شأنها صياغة المشهد النووي في منطقة الشرق الأوسط، بعدما كان مرتبطا بالتهديدات الأمنية والمخاوف الدولية، كما سبق وأن ذكرت في مقالي السابق، وهو ما يعني قيادة مصرية لمشهد إقليمي مختلف نحو تعزيز الحالة التنموية الشاملة، رغم تواتر التحديات، والتي شهدت تفاقما ملموسا في الآونة الأخيرة، في أعقاب العدوان على غزة، ومحاولات تمديد دائرة الصراع بعد الاستقرار النسبي.
حالة "الثورة الإصلاحية"، والتي حملت على عاتقها تحقيق أحلام الثوار، عبر تحقيق الإصلاح، انعكست على مسارات متوازية، أولهما فردي، عبر تحسين حياة ملايين البشر، من أصحاب الدخول المحدودة، عبر تقديم الدعم اللازم لهم، وتوفير السكن المناسب، وما تحتاجه من خدمات تعليمية وصحية، بعدما عانوا لعقود طويلة من الحرمان من أدنى حقوقهم الإنسانية، من خلال مبادرات عدة تبنتها الدولة المصرية، وعلى رأسها "حياة كريمة"، بينما كان المسار الثاني جمعيا، على المستوى الكلي للدولة، من خلال اقتحام التنمية إلى العديد من المناطق والمحافظات المهمشة، وانطلاق المشاريع العملاقة، التي من شأنها إحياء القطاعات التي عانت إهمالا ذريعا، على غرار الزراعة والصناعة، من خلال توطين مختلف أنواع التكنولوجيا التي من شأنها تحويل البلاد إلى دولة منتجة، لا تعتمد فقط على الاستهلاك والاستيراد من الخارج.
في حين كان المسار الثالث إقليميا، عبر العديد من الخطوات، ربما أبرزها إرساء مبدأ الشراكة، بين القوى الإقليمية المتصارعة، من خلال تعزيز المصالح المشتركة، مما يساهم في تخفيف حدة المنافسة فيما بينها، وهو الأمر الذي تجلى في أبهى صوره في الموقف الإقليمي الموحد من أزمة غزة، بينما لعبت الدولة المصرية في تصدير تجربتها لمحيطها الجغرافي، مما ساهم في تحقيق قدر من الاستقرار في العديد من الدول الأخرى، في حين يبقى مشروع الضبعة بمثابة أحدث الحلقات التي من شأنها الدخول بالمنطقة إلى عصر جديد من التنمية الشاملة.
وهنا يمكننا القول بأن الدولة المصرية نجحت في تحقيق مقاربة بين نقيضين، هما "الثورة" والإصلاح، خاصة وأن الأولى تسعى دائما إلى تغيير جذري وسريع، بينما يبقى المفهوم الثاني بطيئا نسبيا، في ظل الحاجة إلى تحقيقه تدريجيا، من خلال إرساء مفهوم ثالث وهو "الثورة الإصلاحية"، والتي تتحرك جديا نحو تحقيق أهداف المفهومين سالفي الذكر، في إطار زمني سريع نسبيا، مقارنة بالوتيرة الطبيعية التي يمكن بها تحقيق ما تحقق في الداخل المصري، خلال سنوات معدودة، والتي قد تستغرق في الظروف الطبيعية عشرات السنوات، بينما لم تتجاهل إقليمها، والذي بات في حاجة إلى مجابهة تحدياته، ليس بتأجيج الصراعات، وإنما بمواصلة العملية التنموية، للصمود في مواجهة المستجدات الصادمة، ومحاولات تصدير الفوضى، خاصة وأن الهدف الرئيسي لمثيري الأزمات يتجسد في تقويض الحالة التنموية لما تشكله من تهديد لهم في المستقبل.