العالم الافتراضى، أو ما يعرف اصطلاحا بـ«مواقع التواصل الاجتماعى» فيه المنطق غائب طوال الوقت، والعقل أسير «الشير والريتويت» والانقياد خلف قطيع العابثين، وأن فضيلة التحقق من الأشياء مندثرة اندثار الديناصورات، والعاطفة دائما متأججة، سلبا وإيجابا، وفق الميول الفكرية والسياسية والعقائدية، وادعاء المعرفة فى كل المجالات بما فيها الفلك وعلوم البحار والجيولوجيا والفيزياء والكيمياء والعلوم العسكرية والمفاعلات النووية، وثقب الأوزون، وكل الألعاب الرياضية البدنية والذهنية، بجانب إصدار الفتاوى الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، علاوة على علم الغيب وما تخفيه الصدور.
السوشيال ميديا تعج بلجان الذباب الإلكترونى التابعة لجماعات وتنظيمات إرهابية، وكيانات معادية، وعصابات تتاجر فى كل شىء، بما فيها «تجارة البشر»، بالإضافة إلى كتائب التشكيك والتسخيف واغتيال سمعة الشرفاء بدم بارد، وبأريحية مطلقة، وإصدار أحكام الإدانة والبراءة دون دليل أو تحقق.
فى مواقع التواصل الاجتماعى تجد الشىء ونقيضه، معارك وسجالات وقضايا مشتعلة، للدرجة التى يعتقد فيها الشخص أن درجة حرارة كوكب الأرض ارتفعت للغليان، وتجد قضايا تتقاطع مع صحيح الدين، ومع قواعد العقل والمنطق، وتتصادم مع العادات والتقاليد، فى خليط عجيب من التعصب والتطرف والإباحية، وكأنها مستشفى للأمراض النفسية والعصبية، مقسمة عنابر، كل عنبر حسب الحالة المرضية، تبدأ بالاكتئاب، وتتدرج حتى تصل إلى عنبر الخطرين!
تأسيسا على ذلك فإن ما يُطرح على مواقع السوشيال ميديا، فى كثير من الأحيان، أمر شبيه بالنفايات العفنة، والمؤلم أن البعض يشم رائحتها باعتبارها رائحة ورود رائعة وفواحة، ويصدق ذلك ويُسخر جهده للترويج لها والمساهمة فى انتشارها، وللأسف تجد قطيعا يسير خلفه، وكأنهم فقدوا حاسة الشم، أو أن أنوفهم قُطعت، وهنا تتجلى المأساة.
ومؤخرا، فوجئنا - كالعادة - تعاطى هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم روادا على السوشيال ميديا، بتوظيف تصريح للدكتور مصطفى وزيرى، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، يؤكد فيه أن هناك لجانا تعكف على دراسة إمكانية إعادة «تغليف» الهرم الثالث الذى بناه الملك منكاورع، وذلك بالتعاون مع البعثة اليابانية بالقاهرة، وهنا قامت الدنيا ولم تقعد، ودشنوا مصطلح «تبليط» الهرم الثالث لتدميره وتشويهه دون بذل الجهد فى توثيق المعلومة، وانتشر خبر «تبليط» الهرم، انتشار النار فى الهشيم.
وللتأصيل العلمى، فإن الهرم الأكبر كان مغطى بالكامل بغلاف من الجير الأبيض، والذى تساقط بفعل عوامل التعرية، ونفس الأمر الهرم الأصغر كان مغلفا بأحجار الجرانيت، والاختلاف أن التغليف لم يكتمل فى عهد الملك، بعد الانتهاء من تغليف 14 مدماكا، ولا نعرف ما هو السبب فى عدم اكتمال التغليف، فقرر المجلس الأعلى للآثار وبالتعاون مع البعثة اليابانية بالقاهرة إعداد الدراسات العلمية اللازمة لإعادة التغليف بنفس أحجار الجرانيت المتساقطة بجوار الهرم، بجانب إجراء الحفريات لاكتشاف مراكب الشمس، المتوقع وجودها، علاوة على آثار أخرى، فى ظل أن هناك كثيرا من الأسرار تكتنف الأهرامات لم تكتشف بعد.
إعادة الأحجار الأصلية لتغليف الهرم، وفق خطة ترميم علمية، شىء رائع، ومشروع تأخر كثيرا، مع الإدراك أن هناك فارقا شاسعا بين الترميم والتجديد، الترميم هو الإصلاح مع الإبقاء على أصالة الأثر، عكس التجديد، الذى يقضى على أصالة الأثر، وأنه لا يوجد أثرى واحد خاصة من علماء وخبراء علم المصريات، يقبل بعملية التجديد، باعتبارها جريمة تضرب بعنف وطنيته ومكانته العلمية.
ومصطلح «التبليط» منقرض تماما من قواميس «الترميم» ومن لا يدرى فإن الترميم، علم، وهناك قسم خاص فى كليات الآثار، وعلى رأسها كلية الآثار جامعة القاهرة، لدراسة الترميم وتخريج كوادر علمية مؤهلة، ولا يمكن أن يقعوا فى هذه الخطيئة العلمية، بتبليط الهرم مستخدمين البلاط والأسمنت!
شائعة تبليط الهرم ليست الوحيدة غير المنطقية، سبقتها مئات بل آلاف الشائعات، والخزعبلات المثارة عن أسرار الآثار المصرية، لكن أسوأ شائعة انتشرت خلال الفترة الأخيرة، وكانت صادمة وموجعة وقاسية على النفس، هى شائعة أن أبوالهول أغمض عينيه! وانتشرت صور «فوتوشوب» لأبوالهول مغمض العين، والقطعان صدقوا. ومجرد طرح السؤال هل أبوالهول أغمض عينيه فعلا؟ فإنه كارثة وأمر مرعب، يكشف أن العقول شابها العطن، والهوس، وتعطلت تروسها عن التفكير فى أبسط صوره، فكان يجب على من يردد مثل هذا السؤال حينها، أن يسأل نفسه سؤالا: كيف لحجر «جماد» يتحول إلى «كائن حى» يغمض ويفتح عينيه، ويحرك أعضاءه؟!
شائعة أبوالهول يغمض عينيه، الغريبة العجيبة، تضمنت الترويج لأسطورة ليس لها وجود فى التاريخ، تقول إنه عندما يغمض أبو الهول عينيه، تعنى وقوع حدث مهيب فى المستقبل، ربما يصل إلى حد فناء الوجود كله!
وكما قلنا فى مقال سابق، إن الشائعات أخطر من الحروب العسكرية والكوارث الطبيعية، فى تأثيرها التدميرى للدول، فيتوجب على الجميع الحذر من الوقوع فى فخ الشائعات المسممة والأكاذيب المضللة!
يا سادة، شىء من العقل، مع ضرورة رفع منسوب الوعى، والتحقق من الشائعة من مصادر موثوقة، وعدم السماح للمنطق أن ينتحر، والمحافظة على تروس العقل من التحطم والتوقف عن التفكير، فالإنسان كائن مفكر، إذا توقف عن التفكير صار كائنا آخر!.. نريد عقولا مفكرة، فاعلة، قادرة على الإمساك بتلابيب العلم، ووضع الخطط للنهوض بلعبة كرة القدم.. لا نريد "كرفتات فوق الكراسى" لالتقاط الصور، وملء الفراغات!.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة