استعصت العُقدةُ على الحلّ. الساعون للحرب لديهم أهداف مُعلنةٌ وخيارات حارقة، والذين يريدون السلام محشورون فى غابة الجنون، أو لا يملكون بدائل قادرة على ترويض صقور الميدان. تعدَّدت المبادرات ولا أُفقَ لأن تُثمر تهدئةً حقيقية فى القريب، بينما القاتلُ مُعتصم بلُغةِ النار، والضحيّة يملأ المساحة بين الرجاء والموت بتصوُّره الرومانسى عن البطولة وقوَّة المواقف العادلة. صار ما فى «غزّة» أقلَّ من صراعٍ وأكبر من نكبةٍ ثانية، فلا صاحب الأرض مغروسٌ فيها برؤيةٍ ناضجة وبرامج قابلة للتطبيق، ولا سارقها يُميّز فى خطّته بين الإبادة والتهجير والاحتلال الدائم. من حيث أرادت الفصائلُ بطوفانها أن تدفع القضيةَ للأمام؛ فوجئت بأنها مُضطرّة إلى الرجوع فى الماضى؛ لإعادة التأسيس على ما كانت تزدريه، ومن حيث أراد الصهاينة أن يُنجزوا غايةَ الابتلاع الكامل بأثرٍ رجعى، ويُعوِّضوا ما اعتبروه خطأً استراتيجيًّا فى حروب 1948 و1967 و1973 وإلى أوسلو وما بعدها؛ فوجئوا بحجرٍ فى آخر النفق، فلا سبيلَ لمُواصلة الزحف، ولا أمان فى حال العودة.
يُوشِك العدوانُ أن يُودِّع شهرَه الرابع. وباستثناء كُلفة الخراب والدم بأعبائها الباهظة؛ ليست الأمورُ أفضل ممَّا كانت عليه فى السابع من أكتوبر. تُريدُ إسرائيل استعادة أسراها دون إغلاق دفتر الحرب، ولا فارقَ إن كان ذلك لغرضٍ فى نفس نتنياهو، أو لثأرٍ يشتعلُ فى روح جيشٍ عاين هشاشتَه، ودولةٍ فقدت صورةَ الرَّدع. أمَّا «حماس» فإنها تسعى إلى البقاء لا أكثر، وأوّل شروطه أن تتوقَّف سيمفونية القصف الهادرة، ثمَّ أن تُزَاح سيناريوهات السيطرة الأمنية أو المنطقة العازلة أو تنشيط سُلطةِ حُكمٍ بديلة فى القطاع. والذين يُقاربون المشهد من زاوية الانحياز المشبوب أو الوساطة العاقلة، عليهم أن يُوفِّقوا بين الرؤيتين المُتصارعتين؛ ليخرجوا بما فى صالح البشر والجغرافيا؛ إنما يتعيَّن أوّلاً أن يُقرّ المُتصارعون بأن «ما كلّ ما يتمنَّى المرءُ يُدركه»، ولا مفرَّ من القبول بأن يأخذوا فى جانبٍ ويخسروا فى آخر؛ إذ شَرطُ عمران المائدة أن يطبخ كلُّ فريقٍ وجبتَه على نار الغريم، أو يُغامر بأن يأكُل طبقَه باردًا، وعلى مزاج طُهاةٍ آخرين.
أنجزت مصرُ وقطر تفاهُمًا قاد إلى هُدنةٍ أُولى، أواخر نوفمبر الماضى، وكان صالحًا للتمديد لولا مخابيل الكابينت أوَّلاً، وشِقاق «الحماسَين» بين عقلٍ خفيف بالخارج ويدٍ ثقيلة بالداخل. وما خلت الأسابيعُ الماضية من مُداولاتٍ وأوراق: طرحت القاهرة تصوُّرًا يبدأ بالمُبادلة وينتهى بالتهدئة، وقدَّمت الدوحة نُسخةً ثانية، وقِيل إنّ الحركةَ عرضت برنامجًا على شرط رُؤيتها للنصر، وعرضَ الاحتلالُ توقُّفًا مُؤقّتًا لشهرين، يُقاوم انتصارَ الغزِّيين ويُفسِح المجال للبحث عن فوزٍ صهيونى ضائع. العُقلاءُ ليس فى يدهم إلَّا ترتيب الأوراق، والمجانين لا يتوقَّفون عن البعثرة. ولا أحدَ يعرفُ أىَّ دعائيّةٍ بائسة يُمكن أن تطلع من بين الركام وأكوام الجثث، أو تُبشِّر بالمُستقبل وقد بات الثأر فى كلّ بيت. لم يعُد الواجب أن تُنقذ أمريكا حليفتها ممَّا تراه امتحانًا وجوديًّا تفرضه المُقاومة، ولا أن يُنقذ المُمانعون فصائلَهم من بطش النازية الصهيونية؛ الذى ما كُنّا فى احتياجٍ إلى دليلٍ عليه؛ بل أن يتضافر الجميع لإنقاذ الطرفين من أنفسهم، واستخلاص المنطقة كلِّها من دوَّامةٍ تتدحرجُ نحو المجهول.
دخلت أوروبا على الخطّ.. حُلولٌ مُتأخّر فى السباق؛ لكنّه أفضل من الغياب الكامل أو إعاقة المُتسابقين. أفصح مسؤول السياسة الخارجية جوزيب بوريل، على هامش اجتماع وزراء خارجية الاتحاد فى العاصمة البلجيكية، عن ورقةٍ من عشرة بنود. وهى أخفُّ من مُبادرةٍ، وأثقلُ من مُناوشةٍ دبلوماسية عابرة. والأوقعُ أن تُرَى فى حجمها الطبيعى: خريطة طريق لا رؤية سلام. المُعضلةُ هنا أن القارة العجوز كانت لوقتٍ قريب فى صفّ إسرائيل، وأن آلية القرارات الإجماعيّة فى مرافقها كفيلةٌ بتعطيل المسار لو اعترض عضوٌ واحد، كما أنها لا تملك أوراقَ ضغطٍ حقيقية على الطرفين، رغم شراكتها الواسعة مع تل أبيب وحضورها المُتقدّم بين مانحى فلسطين. والأهمّ أنها فى حاجةٍ ماسّة لإسناد واشنطن؛ مثلما تحتاجها فى أوكرانيا، وقد لا تكون ساعة البيت الأبيض فى الوقت الراهن مضبوطةً على ميقات بروكسل.
خطّة بوريل فيها نقاطٌ إيجابية؛ إذ تجعل «حلَّ الدولتين» خيارًا نهائيًّا، وتدعو لمؤتمرٍ دولى يضع إطارًا للسلام تحت سقفٍ زمنى، وتُرتِّب التزاماتٍ على الشركاء لجهة الأمن والإعمار ولَعب أدوارٍ ضامنة. المأزقُ أنها لم تتحدَّث مُطلقًا عن وقف الحرب؛ بل قالت إنها ستعمل فى غضون المُهلة على تخفيف الآثار وتنشيط الإغاثة. وقد تكون السنة التى حدَّدتها قصيرةً على مقياس الاقتحام السياسى لقضايا صراعيّة كبرى؛ لكنها طويلةٌ جدًّا فى عُرف المعارك الطاحنة وتكاليفها الإنسانية الفادحة، وقد فعلت أربعةُ أشهرٍ فقط فى «غزّة» ما يُعيدُها أربعةَ عقودٍ فى الزمن. ثمّ الثغرةُ الكُبرى أنها تستبعدُ طرفى النزاع من الترتيبات الأُولى، ولا تُحدِّد آليّةً لاستدعائهما لاحقًا، وتفرضُ استمرار العمل ولو انسحب أحدهما. وكلّها تكفى لتفخيخ الطاولة فى أيّة لحظة، وتشى بأنها خطوةٌ لتقطيع الوقت فحسب؛ ما لم تتلقَّاها إدارة بايدن بحماسةٍ وجهد فائقين.
عُقدةُ العُقَد هنا أن الولايات المتحدة فى خلاّطٍ هائج؛ أو هكذا ترى إدارتُها الحالية. كانت فلسفةُ الفصائل فى اختيارها لتوقيت «طوفان الأقصى» أنه قد يتمدَّدُ باتّساع الإقليم؛ فيُجبر الديمقراطيين تحت حال الإحماء لانتخاباتٍ رئاسية، على أن يتخلّوا عن تحفُّظهم تجاه المصالح الإسرائيلية، ويُبادروا إلى إجراءاتٍ جادّة تُطفئ حرائقَ الشرق؛ ولو على حساب تل أبيب. وبعيدًا من إحباط الخطّة؛ فإن ما توهَّمته «حماس» عُنصرَ قوّةٍ كان هو نفسه مفصلَ الضعف. إنَّ سِباقًا مُنفلتًا مع «ترامب» تحديدًا يضعُ «بايدن» تحت رحمة نتنياهو، بأكثر ممَّا يفرضُ على الأخير أن يُعِير رغبات حليفه الأكبر انتباهًا. ويعلم الجميع أنَّ ورقة إسرائيل فارقةٌ فى ماراثون البيت الأبيض، والكُتلة اليهودية لها يَدٌ عُليا على المشهد، بالمال والأصوات؛ بينما المنافسةُ مع واحدٍ من أشرس حُلفاء الصهيونية وأكثر من خدموها، لا فى طَرح «صفقة القرن» أو نقل السفارة للقدس فقط؛ بل فى مسألةٍ أشدّ إلحاحًا للكيان مع إيران وأذرعها وبرنامجها النووىّ. فكأنَّ الصورةَ التى أفضت إليها العمليةُ فى «غلاف غزّة»؛ أنتجت حالةً جُمهوريّةً شديدةَ اليمينية فى واشنطن، فصار بايدن نُسخةً بديلةً عن ترامب، ولن يكون بمقدوره العودة إن فاز؛ كما لن تتغيَّر الرؤية لو عاد صاحب «النموذج المعيارى للمنافسة» إلى السُّلطة من جديد.
هكذا تبدو الحسابات كلُّها صفريّةً تقريبًا. التوازنُ الذى أحدثته الإدارة الأمريكية فى خطابها لا يخرج عن لُعبة الانتخابات أيضًا، وأطروحتها عن «حلِّ الدولتين» لا يُرافقه تصوُّر واضحٌ ولا جدولٌ زمنىّ معلوم. إن فاز ترامب فقد تتلقَّى القضية صفعةً أقسى من كلِّ ما فات بقذائفه وقبوره الجماعية، وإن تمكَّن بايدن من البقاء فإنه لن ينقلب على نفسه سريعًا، وسيحتاج مُهلةً طويلة لتمهيد التراجع، أو إنضاج مُقاربةٍ أكثر ذكاء؛ لو افترضنا أنه قد يريد ذلك أصلاً، وسرعان ما سيجد نفسَه أمام طاحونة الانتخابات النصفية، وعليه أن يُروِّض مروحة «أيباك» ورياح المسيحية الصهيونية، وسيكون الحزبُ بكامله مُضطرًّا لاعتماد خطابٍ مُطمئن لإسرائيل، أو رمادىٍّ فى أحسن الظروف. وباختصار؛ يُمكن القول إن الفصائلَ الغزِّية خُدِعَت من حُلفائها، ودعاية «وحدة الساحات» التى بشَّرت بتوسعة كُرة النار، سقطت فى المُمارسة العملية أمامَ بديلٍ شعاراتى عن «استقلال الأجنحة»، وصيغةٍ يتحوَّل فيها الرُّعاةُ إلى حناجر خطابيّةٍ أو مُساندين معنويِّين على البُعد. الطمأنةُ المُسبَقة أعمت العيون عن موازين القوى، وشطبت عاملَ المواقف الدولية؛ كما أنَّ مُصادرة الحالة الفلسطينية لصالح أجندة «شيعية ميليشياتية»، أثّرت على بناء جبهة إجماع عربى، رسميًّا وشعبيًّا، وحتى داخل البيت، فلم تَقِلّ التناقضاتُ مع العدوِّ عن مثيلاتها إزاء الشقيق والصديق.
سار الطوفانُ إلى وجهاتٍ عدَّة إلّا الأقصى؛ بمعنى خدمة القضية عمليًّا؛ لا مُجرّد تسخينها إلى درجة الفوران، ومن دون أن تنسكبَ الدماءُ الحارّة فى مجرى حلحلة الصراع أو حَلِّه، ولصالح مُوازنة التكتيك مع الاستراتيجية، وتحويل الهزيمة العسكرية إلى نصرٍ سياسى. والذين زعموا أنهم يُساندون «غزّة» بشعارات الممانعة؛ ما خاضوا المعركة على معيار المُؤازرة الجادة. وحينما أشعلوا بعضَ الأحزمة الرديفةِ جُزئيًّا، سرقوا الضوء من القطاع، وصرفوا جانبًا من أنظار العالم عن مُعاناته، بدل أن يُبرزوا الساحةَ الأصيلة ويُعزِّزوا مركزيّتها. إسرائيل تمضى بسرديّةٍ مُلفّقةٍ وأهدافٍ غير قابلة للتحقيق، ووُجهاء الفصائل يرفعون راياتهم فوق راية فلسطين، ويُقلِّصون الأهدافَ إلى حجم الأنفاق ومصلحة المحور المُمانع. كأنَّ الطرفين يُعاديان المُستقبل ويتسابقان نحو إعادة الجولات القديمة: «حماس» غايتها الرجوع إلى ما كان قبل الطوفان فى 7 أكتوبر، وطموح نتنياهو أقلُّه محطّة «فكّ الارتباط» فى 2005. لا شىءَ يشغلُ الأولى سوى إبقاء سُلطتها ولو صارت الأرض رَدمًا ومقبرةً جماعية، ولا فكرةَ فى دماغ الثانى إلَّا تصحيح ما يراه أخطاء استراتيجيّةً فى الماضى، والسبيل لذلك باحتلال الشريط الساحلى المأزوم، أو تنفيذ مُلحقٍ مُعاصر للنكبة والترانسفير.
يتكلَّم التوراتيّون يوميًّا عن خيالهم الوحشىّ للمُستقبل، ولا يعرفون كيف يُغادرون أوحالَ الحاضر. ومُؤخّرًا أصدرت «حماس» روايتها عن الحرب فى ورقةٍ بعنوان «لماذا طوفان الأقصى». جاءت المُذكّرة فى ستّة أبوابٍ، وبعيدًا من التأصيل التاريخى المعروف للصراع، وبواعث العملية من وجهة نظرها، وتفنيد أكاذيب الاحتلال عن الخسائر المدنية. دعت إلى تحقيقٍ دولىّ تعرفُ أنه لن يحدث، وإن طُرِح فسيكونُ مشمولاً بإدانتها الاستباقية؛ لأن المُهيمنين على البيئة الأُمميَّة يرفضون أن تكون طرفًا فى المُعادلة. أمَّا المُزعج؛ فأنها أفردت مساحةً طويلة للدفاع عن نفسها، بأكثر ممّا دافعت عن الذاكرة النضالية التى سبقتها ومهَّدت لولادتها، والأكثر إزعاجًا طرحها 8 مطالب تدورُ كلُّها فى نطاق العودة إلى 6 أكتوبر. ما تحدَّثت عن الانقسام ودورها فيه، ولا عن مسارات الخروج منه، ولم تذكر السُّلطةَ ومُنظّمة التحرير، وغابت عنها الرؤية السياسية للراهن والآتى، وللدولة الواحدة أو الدولتين، وبدا أنها تُحاول التنصُّلَ من آثار الحرب، وتعتبر استمرارَ هيمنتها على القطاع غايةً عُليا لا تقبلُ النقاش. وهنا تصيرُ الأسئلة جارحةً، ويصيرُ القفز عليها من قَبيل للتواطؤ: تهدَّم العمرانُ، وقُتِل وأُصيب عشراتُ الآلاف، وابتلعت السجونُ ضعفَ ما كان فيها، وأباطرةُ الميدان مُنتهى أملِهم أن يشطبوا كلَّ هذا ويعودوا بالمشهد إلى ما كان عليه. التعاطفُ وحده يمنع الآن من تعليق أجراس الاتّهام، والقول إن «غزّة» وُضِعت فى مُراهنةٍ خاسرة على طاولةٍ يُديرها آخرون.
كلُّ مُنصفٍ بامتداد الأرض يأسى على مُعاناة الفلسطينيين، ويقف بالضرورة داعمًا حقَّهم فى الوطن والحرية بالطريقة التى يُحبّونها؛ لكنَّ العالم فى صيغته الاعتبارية ليس عادلاً قَطعًا، وتترتَّبُ جرَّاء ذلك أعباء أكبر على صاحب الحق؛ لو كان ضعيفا، وعلى من يجرحُ الغولَ إن عجز عن قتله. يتشدَّد الصهاينةُ بأثرِ الفشل، ويتشدَّد «الحماسيّون» خوفًا من الفشل؛ والواقع أنه لا أحدَ منهما فى وضعٍ يسمح له بإملاء الشروط. التصفيةُ الكاملة مستحيلةٌ مهما توحَّشت آلةُ القتل، وإعادةُ عقارب الساعة ليست فى مقدور الحركة، بالخشونة أو البكاء، أو الوقوف على الأطلال ورُكام الجُثث. المُقترح الأوروبى هشٌّ لكنّه ضرورى، وهو المُقاربة الأُولى من قوّةٍ دولية وازنة، وبالتفاعل مع رُؤى الاعتدال العربى يُمكن أن يُثمرَ رُوزنامةً صالحة للتطبيق. الأملُ فى موجةٍ دولية تتضخَّم بالحيويّة والحركة الدائبة لتكنسَ آثارَ الطوفان، وتتّسع لتضُمّ المُحايدين وتُروّض المُنحازين، وتُليِّن التصلُّبَ الأمريكى، وإمَّا أن يرفع المحورُ الشيعىّ يدَه أو تتحرَّر الفصائلُ منها بنزعةٍ وطنية خالصة. إيقافُ النار أهونُ الأحلام وأقربها؛ إذ المُعتاد أنها ما تخمُد إلَّا لتندلع من جديد، والأصعب أن يكون التبريدُ بدايةً لفصلٍ من الأمل فى السياسة. وإذا كان الوحشُ يكره السلامَ وتفتنه مُطاردة الفرائس؛ فليس على الضحايا أن يدقّوا الطبول أو ينحشروا معه فى قفصٍ مُغلق. الأقوياءُ يقيمون الحجَّة بالموت؛ أمَّا الضعفاء فإنهم مُضطرّون لإقامتها بكلِّ ما فى صدورهم من محبَّةٍ للحياة، وتلك تُؤخَذ بالشدَّةِ والبأس حِينًا، وأحيانًا بالانحناء أمام العواصف، والرهان على مَكر الزمن.