ثلاثةُ شهورٍ من النار، وما قدَّم العالمُ شيئًا لفلسطين، ولا قدَّم أصدقاءُ الفصائل أيضًا. بدت المرافقُ الأُمميّة بمواثيقها وقانونها الدولى فى حال ضعفٍ مُخزٍ، والذين احترفوا التجارة بالقدس كانوا أشدَّ خِزيًا وهزالاً.
وإن كشفت الأيام عن عوار الدبلوماسية مُتعدِّدة الأطراف؛ فإنها فضحت بالمِثل تهافُتَ الرجعيّة الدينية ودعايتها وأحلافها. كان على فلسطين أن تتسنَّد على أبنائها أوّلاً، ثمّ المُخلصين لها ولهم؛ وأن تقرأ السياق الذى آلت إليه القضية، وتعرف متى تصمت أو تتكلم، ومتى ترفعُ السلاح. لكنَّ شيئًا من الاستبداد بالقرار، وأشياء من قبيل الاستتباع والرهانات الخاطئة والقفز على الواقع وتوازناته، تضافرت معًا لتدفعها على المُنحدَر.
واليوم صارت الحِسبةُ أعقدَ ممَّا كانت: عدوان غاشم، وبأس مزعوم، ونزيف من الأرواح والعُمران، وجغرافيا تنطفئ ونوايا سيِّئة تتَّقد، والقماشةُ الوطنية تتفسَّخ خيوطها، وتنعقد الآمالُ على إفاقةِ الضمير النائم أو مُفاجآت الميدان المحترق، وما عاد معلومًا أين ينتهى الموت وتتجدَّد الحياة، وهل الخصومةُ مع العدو الظاهر وحده، أمْ مع أعداء آخرين يُظهِرون عكس ما يُبطِنون.
بُنِيت اللعبةُ كلُّها على حساباتٍ خفيفة. أن تشتعل أطراف غزَّة؛ فيردّ الصهاينةُ فى نطاقٍ محسوب، أو تنخرط الساحات الرديفة، من لبنان لسوريا والعراق، فى المُواجهة. وربّما تتَّسع رقعةُ النار فتأكل دُولاً مُجاورة، وسيكون العالم مُحايدًا أو إنسانيًّا، بما يضمن استحصالَ المنفعة المادية والمعنوية للفصائل بأقلِّ قَدرٍ من الأعباء. وحدثَ العكسُ تمامًا فى كلِّ شىءٍ؛ فالهجمةُ نجحت بأكبر ممَّا خطَّطت «حماس» أو أرادت، والموجةُ الارتدادية كانت أشدَّ ضراوةً، والحلفاءُ أحرقوا عهودَهم عند مفترق الطريق، وأدارت العواصمُ الوازنةُ حضورَها على الجبهة دون تفريطٍ ولا توريط، أمَّا البيئةُ الدولية فقد صدمت كلَّ التصوُّرات الرومانسية المُعلَّبة. والخلاصةُ أنّ المحنةَ اتّخذت طابعًا ميلودراميًّا فاقعًا؛ فدفع الغزِّيون فاتورةَ المُغامرة غير المحسوبة، وما صرفت القضيةُ تضحياتهم فى رصيد السياسة أو المظلومية: فالأُولى يرفضها المُقاتلون، والثانية يُحاربونها بالتعالى والمُكابرة.
إسرائيلُ لا تكتفى بالقول إنها ستخوض الحرب إلى أن يتحقَّق النصر؛ بل تُمارس سلوكًا عمليًّا يُفضى إلى ذلك. وبينما تتعطَّل مُقاربةُ الهُدنة، ولا يبدو الحسمُ قريبًا، بالقوَّة أو بالسياسة، فإنَّ سوابقَ المواجهات تشى بمزيدٍ من التصلُّب والشراسة؛ حتى لو لانت اللغةُ قليلاً، على أمل ترتيب البيئة بما يُساعدها على تمرير بعض أهدافها المُجمَّدَة. وتستند فى ذلك لغطاءٍ أمريكى لم ينسحب حتى الآن، وإلى سوء إدارة «محور الممانعة» للصدام منذ البداية. وكلَّما ذهبت الخياراتُ إلى استعداء الغرب، أو تهيئة الظروف لانخراط الولايات المُتَّحدة فى النزاع؛ فإن فُرصَ لَملَمة النار تتضاءل لصالح مزيدٍ من المُكاسرةِ وعَضّ الأصابع، وهو ما يُمكن أن ينتهى بحربٍ شاملة، أو بتفاهماتٍ إقليمية مُنتِجة فى ساحاتٍ بديلة؛ إنما فى الحالتين قد يخسر الغزِّيون وحدهم. وأفدح ما فى الأمر أنهم يقعون فى دائرة ردِّ الفعل؛ فيستجيبون لمُثيرات الخارج بقدرٍ ضئيل من الاستقلال والمناورة.
لم يعُد المأزقُ فى العدوان نفسه؛ بل فى استثماره من أطراف عديدة لتحصيل منافع أبعد من فلسطين، مُقابل غياب الإرادة، أو انعدام قدرة الفصائل على تمييز نفسها فى دائرة الصراع، والتمسُّك بأن يكون رصاصُها وقتلاها من أجل القضية حَصرًا. العدوُّ يُحب أن يُلخِّص المسألةَ الغزِّية تحت عنوانٍ طائفى حارق، وقد قال وزير الدفاع الصهيونى يوآف جالانت إنهم يُواجهون سبع جبهاتٍ، وردّوا فى ستٍّ منها، واضعًا القطاع بين «جيشٍ شيعى» يتوجَّب ألا يُحسَب عليه أو يُسدِّد فواتيرَه. لا سيِّما أن العالم المُنحاز يخوضُ معركةً مع رأس المحور على قضايا أكبر، والبقاء تحت الراية نفسها يسلبُ من المُقاومةَ قضيَّتها ويُلحِقها على أجنداتٍ أخرى، ويُطوِّق فُرصَ السياسة لحدِّ الاختناق، وربما يُطلِق يدَ إسرائيل بما هو أكبر من كلِّ ما أجرمت فيه حتى الآن.
لن يعود الأمريكيون من طريق الظلم قريبًا. كلُّ الأسابيع الدامية ما عدَّلت فى خطابَهم إلّا بفارق المُباشرة عن البلاغة؛ فصاروا يستهلكون لُغةً رماديّةً للتعبير عن النوايا السوداء نفسها. وعلى هذا المعنى؛ فإن حديثها المُتعقِّل لا يصلح للتطمين، ولا يشطبُ تاريخَها المعروف من الازدواجية والمناورة، وسرقة الوقت بالشعارات تارة وبالدبلوماسية تارات. ما زالت الفاعليّةُ الأُمميَّة مُعطَّلة، ولا وزنَ لثلاثة قراراتٍ أقرَّتها الجمعية العامة بشأن المساعدات والسيادة على الأرض وحقِّ تقرير المصير. وحتى قرار مجلس الأمن الأخير أخرجته واشنطن مُجرّدًا من القيمة، بعد أربعةِ تأجيلاتٍ وكثيرٍ من التعديل، و»فيتو» على مُقترَحٍ روسى، وصيغةٍ بائسة عنوانها «تهيئة الظروف لوقف النار»؛ ما قد تراه إسرائيل تفويضًا بالإبادة وإنابةً فى تحديد الظرف المناسب. إنها مُفارقةٌ مُشينة وكاشفة، أنَّ النص الذى يسَّرت مُرورَه بامتناعها عن التصويت، لم يخلُ من ورقة «حقّ النقض» أيضًا، وفى ذلك إشارةٌ على أن الجهة التى يُعوَّل عليها دوليًّا، لن تُغادر انحيازَها بيُسرٍ، والعقل فى أن ينشغل الضحايا بإحراجها وتحييدها، أو بتكثيف الجهد لاستمالتها، وليس مُعاندتها أو الاصطدام بها. هذا ما يفرضه الأقوياءُ على الضعفاء، ونِصفُ النجاح فى أن تعرف ضعفك وتتحسَّب لقُوَّة عدوِّك.
ليس من الحصافةِ أن تخوضَ الفصائلُ حربها مع الاحتلال على صِفة الندِّية، ولا من الذكاء أن تتطوَّع اليوم بالحديث عن عدم الاعتراف بإسرائيل، دون أن يُثار ذلك أو يُوضَع على طاولة التفاوض. كما أنه ليس من الإخلاص وصفاء النيَّة أن يقول مُتحدّث الحرس الثورى إن «طوفان الأقصى» مجرَّد جزءٍ فى خطَّة الثأر لقاسم سليمانى، بعد أربع سنوات من اغتياله بطائرةٍ أمريكيَّة مُسيَّرة فى بغداد. العدوُّ يُريد أن يحرق الأرض بمن عليها، ويتمنَّى لو زالت «غزّة» من الخريطة، أو على الأقل أن تظلَّ بين مطرقة اليمين الصهيونى وسندان الأُصوليّة الإسلاميِّة، ودورُ المُخلصين للقطاع وأهله أن يُحاصِروا الوحشيَّة؛ لا أن يدعموها، والحصار لا يقعُ بالسلاح وتسخين الجبهات فقط؛ إنّما يبدأ باتساع الرؤية وانضباط الخطاب، والأهم تنزيه القضية الشريفة عن أن تكون سِكِّينًا فى قبضة الشيعة أو ميكروفونًا فى يد الإخوان.. باختصار؛ ليس من دور الفصائل الغزِّية أن تكون إصبعًا سادسًا فى كفِّ إيران، أو مسجدًا ضِرارًا تتَّخذُ الرجعيّةُ من منبره مُرتكزًا لقصف دُول المنطقة وحكوماتها، وليس من الشرف أن يُصرّ الفريقان على استتباع فلسطين، أو توظيف محنتها الوجودية ورقةً عابرةً فى أجندةٍ سياسية أو تطلُّعاتٍ نَفعيّة رخيصة.
كلُّ الأرواح والدماء النازفة لم تمنع التجار من تدنيس الراية الفلسطينية. ويستحيلُ افتراض أنَّ مُتحدِّث الحرس قد ينسب عملية 7 أكتوبر لطهران من تلقاء نفسه، ومن ثمَّ لا يُعوَّلُ على نفى قائده لاحقًا. وثمّة احتمال من اثنين: أنّه كلامٌ حقيقى ومن ثمَّ فقد بِيْعَت القضيّة الإنسانية العادلة فى مزادٍ مذهبىٍّ بائس، أو أنّه خاطئٌ ومعناه أن رأس المحور الشيعى يستهون التصريح بما يطعن فى شرفِ المُقاومة؛ كأنه سدَّد الثمنَ مُبكِّرًا ويُحصِّل ديونه الآن. ولا ينصرفُ ذلك عن مِحنة تيار المُمانعة فى بيئاتٍ أشدّ اتّصالاً بالمركز وتأثيرًا عليه، مثل لبنان والعراق وسوريا، وأحدث آيات الهشاشة تصفيةُ مسؤولٍ إيرانى رفيع فى قلب دمشق.
اعتادت إسرائيلُ أن تُنفِّذ ضرباتٍ فى العُمق السورى، ومنذ «الطوفان» أخرجت مطارى حلب ودمشق من الخدمة عدَّةَ مرَّات. ولا يتوقَّف قصفُها لمعاقل «حزب الله» بأعماق وصلت لعشرات الكيلو مترات. لكنّ عملية الاغتيال الأخيرة تُضمِر معانى مُزعجةً؛ أخطرها أن تل أبيب تحضَّرت لما هو أبعد من حرب غزَّة ومُناوشات لبنان، وتُلمِّح علنًا إلى جاهزيتها لمواجهةٍ أوسع؛ بل إنها تسعى إلى التحرُّش بالجبهات الأخرى بأكثر ممَّا تخشى مُناوشاتها.. يُهدِّد ذلك بإدخال «حماس» وحُلفائها فى مآزق وَعِرة، وبأن يتوحَّش أعداؤاها ويتقلَّص داعموها، ويصير بإمكان الاحتلال أن يُعزِّز سرديَّة العداء العقائدى، ويستجلب مزيدًا من الدعم، وربما ينجح فى الزجِّ بالولايات المُتّحدة إلى الميدان، والتفلُّت من أعباء السياسة والقانون والقيود الإنسانية. النموذجُ الأبرز فى المُغامرة الحوثية؛ فقد تحوَّلت واشنطن إلى العداوة الكاملة، بعدما كانت مُحايدةً بنكهة الانحياز وقتما تفرَّغت الميليشيا لتهديد السعودية والإمارات، وجرَّت معها فى تحالفها الجديد دُولاً لم تدخل على خطِّ الصراع بالإقليم، ويُمكن أن يتكرَّر الأمر حال توسعة الحرب أو تسخين مزيد من المياه فى الخليج والمُتوسِّط.
يعرف نتنياهو أن الصدامَ الواسع ليس من مصلحة أحد، وإسرائيل أوَّل المُتضرِّرين؛ لكنه يحلم بتحصيل مكاسب المعركة الإقليمية. والفصائل قد تتطلَّع لهذا أملاً فى تخفيف الضغط عن غزَّة، أو إشعال المنطقة لإجبار الجميع على التعجيل بالإطفاء. وقيادةُ المحور الشيعى تقف بين الخيارين: تُريد أثرَ الحرب الشاملة، ولا تُريد وضع أذرُعِها المُهمَّة فى قلب النار. و«حزب الله» أهمّ الأذرع وأقواها، وما يحدثُ قبالة سواحل اليمن، أو مع ميليشيات العراق وسوريا، قد يبدو بالنظرة البسيطة عصيًّا على التكرار فى لبنان؛ إذ يملك «نصر الله» عناصرَ قوّةٍ مُضاعَفة عمَّا لدى «حماس» وبقيَّة الساحات، وبإمكانه تسخين مياه المتوسط ليُحكِمَ الخناقَ البحرى كاملاً على إسرائيل. أمَّا عمليًّا فإن حضور القوات الأمريكية مُتغيِّرٌ لا يُمكن تجاوزه فى حسابات الميدان؛ حتى لو أعلنت سحب حاملة الطائرات جيرالد فورد من سواحل البلدين.
فُوجِئت فصائل غزَّة بأنَّ «وحدة الساحات» مُجرَّد شعارٍ دعائى، وأنها سقطت فعليًّا أمام توحُّش الصهاينة وانحياز الغرب. وبينما يعود المُمانعون لحصد ما يعتبرونه مكاسبَ ناتجةً عن غياب الحَسم، وعن عجز الاحتلال أن يُتمِّم مُخطَّطه لقَضْم القطاع أو تطويعه، يغيبُ عنهم أن إسرائيل أخطرُ ما يكون الآن؛ إذ هى أقربُ لوَحشٍ جريح ومُطلَق اليد، وقد تسعى إلى تعويض هزائمها بالبحث عن انتصاراتٍ فى أماكن أخرى. إنَّ فائضَ القوَّة فى المُنازعة الحالية قد تضخَّم للغاية، ولم تعُد البيئةُ الغزِّية قادرةً على استيعابه، كما لم تستوعبه سواحل اليمن وباب المندب، ما يزيدُ فُرصَ إشعالِ جبهةٍ إضافية واحدةٍ على الأقل، والأرجحُ أن تكون بين تل أبيب والضاحية، وما عجز الاحتلالُ عن إحرازه داخل فلسطين سيجنيه على حدودها الشمالية، وهكذا تتحقَّق «وحدة الساحات» بمعنى سلبىّ، أى أن يتكفَّل العدوُّ بتعميم الخراب عليهم، بدلاً من أن يتضامنوا معًا لتقوية بعضهم أو هزيمة الخَصم. هذا الاستنزاف المُتصاعِد يُهدِّد بخَلق مآسٍ جديدة فى المنطقة، ويُصعِّب مهمَّة التعافى والتعايش إلى مدىً بعيدٍ فى الجغرافيا والزمن.
لصالحِ القضية؛ يتوجَّب أن تعزلَ المُقاومةُ نفسَها عن المحاور والاستقطابات، بالقول والفعل. وأن تتعاطى إيجابيًّا مع المُقاربات الهادفة لامتصاص جنون العدوِّ وسُوء نِيَّة الحُلفاء، ولعلَّ أهمَّها المُبادرة المصرية الآخذة فى التبلور، إذ القاهرة وسيطٌ نزيه بالتعريف، ومنحازٌ وداعم للفلسطينيين بالتاريخ والمُمارسة. ومن المفارقات أن السلطة وحماس يختلفان على بعضهما، ويتّفقان فى رفض ما يُبشِّر بإنهاء مأزق البيت الفلسطينى. والواقعُ أن الرواسبَ القديمة تحتاج شيئًا من إنكار الذات، وتجاوز المصالح الفصائلية، وهو مسارٌ مُثمر حال قبلته إسرائيل أو رفضته؛ إنه يُوحِّد الرايةَ الوطنية هنا، ويُقوِّض آلة القمع هناك، أو يزيد انكشاف الاحتلال وتعريته دوليًّا. العمائمُ السوداء التى أذابت سوريا والعراق على جَمْر الطائفية، واختطفت لبنان من توازناته الحرجة؛ لتضعه تحت رحمة الميليشيا؛ لن تُقيل «غزَّة» من عثرتها أو تضعها فوق أجندتها، وبالكاد تُساندها بالقَدر الذى يُحقِّق لها مصالح سياسية وعسكرية ومذهبيّة، ظاهرةً ومخبوءة. كأنَّ الصهيونية والشيعيّة يختصمان على جُثث الغزِّيين، ويتعيَّن أن تُدرك المُقاومةُ ذلك وتعكسه فى سُلوكها، وإلَّا فلا قيمةَ لأحاديث الاستقلال والتجرُّد والنزوع الوطنى، طالما يُفارِق المُقاتلون عدوُّا؛ ليناموا فى حُضنِ عدوّ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة