بداية، لا بد من التأكيد على أن معدن الذهب، يحتل منزلة عظيمة فى حياة المصريين، فنحن أول شعب على وجه الأرض توصل إلى كيفية استخراج المعدن النفيس، فى النوبة وجبال البحر الأحمر، ووصل عدد المناجم التى أمكن الكشف عنها 125 منجما، كما برع المصريون فى تصنيعه وبأشكال مبهجة، وعشقوا لونه الأصفر، لدرجة التقديس، باعتبار أن لونه يرمز إلى الخلود، فهو ثابت لا يتغير مع مرور الزمن، ويستمد لونه من لون أشعة الشمس، ورغم حالة الاحترام والتقديس للمعدن النفيس، إلا أن المصريين القدماء لم يعبدوه.
المصريون القدماء «الفراعنة» لم يستخدموا الذهب للزينة فقط، ولم يكن رقما مهما فى معادلة الحياة الاجتماعية فحسب، ولكن استخدموه فى الطقوس الدينية، ويكاد المعدن الوحيد الذى ارتبط عندنا - نحن المصريين - بالحياة والموت معا، فاستخدمه المصرى القديم للتزين والتقرب الدينى فى الحياة، وأيضا عند الموت حيث اصطحبه معه فى مقبرته وكأنه طقس جوهرى من الطقوس الجنائزية.
وصارت صناعة الذهب، حرفة متقدمة ومزدهرة عند المصريين القدماء، وتكاد تحتل مرتبة أولى من بين الحرف الأخرى، لا تضاهيها سوى حرفة الزراعة.
تأسيسا على هذه الحقائق الثابتة، فإن الذهب صار ملاذا آمنا فى حياة المصريين الاقتصادية، ويعتبرونه سندا ودعما فى الظروف الصعبة، من خلال اقتنائه كأصل ثابت.
لكن فى السنوات الأخيرة، صار شراء الذهب، حالة شراهة، فقد فيها العقل الكثير من قدراته، والمنطق ضرب بأدواته عرض الحائط، وصارت السوشيال ميديا، بورصة الشائعات السخيفة، بروادها المانحين أنفسهم الحقوق الحصرية فى الفهم والمعرفة فى كل شىء، من الإبرة للصاروخ، يتقيأون ما فى جوفهم المريض من نصائح سامة، وينساق عدد كبير وراء هذه النصائح مثل ضرورة شراء الذهب، وتخزينه، أو شراء الدولار، والمُحزن أن من ينساق وراء هذه النصائح المسممة، هم القادرون ماديا، وأصحاب الوعى المرتفع!
وبلغة الأرقام التى يعشقها غالبية المصريين، فإن إحصائيات مجلس الذهب العالمى، كشفت عن أن المصريين اشتروا ذهبا فى الربع الأول من العام المنصرم 2023 بما قيمته مليار دولار، وفى خلال 9 أشهر من 2023 تمكن المصريون من شراء ما يقرب من 50 طنا من الذهب.
البعض يذهب بخياله الخصب، إلى أن الرقم التقريبى لما يقتنيه المصريون من الذهب ربما يصل إلى 100 ألف طن، ولا يمكن لكائن من كان أن يؤكد أو ينفى رقما معينا، ولكن من خلال الرقم الرسمى بأن المصريين اشتروا فى 9 أشهر ما يقرب من 50 طنا فى عام 2023 فما البال بعشرات السنين السابقة!
إذن وفى ظل شراهة المصريين لشراء الذهب، بشكل أدهش تجار وخبراء الذهب أنفسهم فى الداخل والخارج، فإن أرقام ما يقتنيه المصريين من الذهب أرقاما «خزعبلية» بالمعنى الحرفى، وهو ما يطرح العديد من الأسئلة الحائرة، الباحثة عن إجابات واضحة مقنعة، عن تكدس البيوت بالمعدن الأصفر.
أول الأسئلة الجوهرية التى نضعها بين يدى الخبراء الاقتصاديين، والتجار والمقتنين، هل القناطير المقنطرة من الذهب، والمخزنة فى البيوت فى حالة تصريفها وبيعها تشهد ما يطلق عليه «فقاعة»؟
وهل سوق الذهب المصرى يستطيع استيعاب شراء كل هذه الكميات، خاصة أن المخزن منها عبارة عن سبائك وجنيهات، نظرا إلى أن المعروض سيكون أطنانا تفوق قدرات التجار على الشراء ويشهد السوق حالة ركود مرعبة؟
وما هى المعايير الحاكمة لسوق الذهب فى مصر، فى ظل عدم خضوعه لمعايير سوق الذهب العالمى، وكأنه يعزف منفردا بعيدا عن سرب العقل ومنطق السوق؟
وما تأثير اقتناء الذهب على حركة الاقتصاد، كون أن هناك فئة تذهب إلى الحلول الاقتصادية النمطية دون التركيز على الاستثمار المنتج والذى يتمتع بعائدات أكبر وأعظم، ويحقق الثراء الكبير؟
الحقيقة، أكاد أن أُجزم أنه لم تستفز حالة الشراهة فى اقتناء الذهب، عقل خبير اقتصادى واحد، أو تاجرا كبيرا، أو حتى مقتنيا للمعدن النفيس، ويجيب بتدبر وحكمة وقدرة على سؤال، ماذا بعد حالة شراء الأطنان من الذهب؟ وما مصير السوق فى حالة أن المشترين طرحوا ما يمتلكونه من ذهب فى السوق؟ إذا ما وضعنا فى الاعتبار أن المشترين فى السنوات الأخيرة هم من الذين لا يقتنون الذهب لسنوات طويلة، وإنما يبحثون عن حفظ أموالهم، وفق نصائح خبراء العالم الافتراضى على السوشيال ميديا؟
الأمر مثير للدهشة، ويحتاج لدراسة وقدرة على التقييم الصحيح، وتحديد الجدوى من شراهة شراء الذهب، وبهذه الكميات غير المنطقية!
ومرة ثانية، أكاد أن أجزم أن هناك مصانع إنتاج الشر، ما زالت تعمل بقوة، وأن ما يحدث فى بعض الأسواق، ليس طبيعيا، وينحرف عن مسار المنطق والعقل.