حلَّ الرئيس الفلسطينى ضيفًا على مصر للمرة الثانية منذ طوفان الأقصى، وجمعته بالرئيس السيسى قمّة مُهمّة فى التوقيت والمحتوى، وبين الزيارتين التقيا فى القمَّة العربية الإسلامية بالرياض نوفمبر الماضى، ولم تنقطع الاتصالات وقنوات الحوار والتنسيق.. يعرف «عباس» أن كثيرًا من خيوط القضية تتجمَّع فى مصر، وأنها كانت وما تزال الحاضنةَ الأقرب لفلسطين، فى الرؤية والثوابت وليس بالجغرافيا فقط. وإن كان امتحان الراهن يدور بكامله فى نطاق غزَّة؛ فإن «رام الله» تقع فى القلب من أسئلته الجارحة؛ قبالةَ الاحتلال المُتغطرس أو مع الفصائل التى غاب الأُفق السياسى عن حركتها؛ فافتتحت الحرب دون أن تعرف كيف تنهيها، أو أن تضع تصوُّرًا لما يجب أن يكون عليه البيت الوطنى فى ظرفٍ شديد الاستثنائية. كأنَّ الرجل يسيرُ فى حقل الألغام مسلوبَ الخرائط، ومطلوبًا من الفريقين المُتحاربَين بالدرجة نفسها: المُحتلّ يُريد إقصاءه تغييبًا للشرعية الوحيدة التى يراها العالم من الصراع، والمُقاومة تسعى إلى وراثته ولو على طَلَلٍ ودم. والرشادةُ تُوجب ألَّا يُختزَل المشهدُ فى شخصه، ولا أن يُدفَع قهرًا إلى خارج المُعادلة.
يكبش «أبو مازن» النار من أىٍّ اتّجاه يمدّ يدَه. إنَّ له تاريخًا لا يُنكَر فى مُدوَّنة النضال، وكان إلى جوار «عرفات» كتفًا بكتف، وقتما تضافرت الرومانسية مع السلاح لتصنعا مسارًا سياسيًّا عنوانه حُلم الدولة المُستقلّة. لكن الرجل الذى فرضت عليه الأيام شُروطَها القاسية، وعاين اغتيال «أبو عمار» على طريقة رأس الذئب الطائر؛ صار اليوم أكثر تلبُّسًا بأثقال العُمر وأحلام أوسلو الذابلة، وأقلَّ قدرة على الحركة والمناورة، وقد استبدَّت به موجةٌ يمينيّة شديدة الشراسة من الناحيتين: الصهيونية بشقَّيها الدينى والقومى، والأُصوليّة الإخوانية بهواها الشيعى. وقد كان هدفًا للطرفين فى شهر العسل الذى جمعهما لسبع عشرة سنة بين مدٍّ وجَزر، وما زال هدفًا وقد صارا خصمين راديكاليين فى ميدان الحرب.. هو بالأصالة معنىٌّ باستبقاء ما فى حوزته من أَبنية السلطة المُتهدِّمة، وبالوكالة تختصمه الفصائلُ تأسيسًا على صراعٍ هُويَّاتى وانتقامًا من رمزية فتح وماراثون المفاوضات ومُؤتمرات السلام، ويختصمه الاحتلال تعويضًا عن أملٍ عقيم فى إفناء المقاومة وتصفية القضية. يرميه الأوائلُ بتهمة العمل شُرطيًّا لدى الصهاينة، ويدَّعى الأخير عليه أنه نسخةٌ مُهندمة من «حماس»، وقد تمادى الفريقان فى التعريض به تصريحًا وتلميحًا، والمقصود المساس برمزية مُنظّمة التحرير، لا بشخصه ولا بأداء حكومته.
قبل الطوفان بأسابيع طويلة، فتحت مصر أبوابها؛ على ما جرت العادة، ودعا «عباس» أُمناء الفصائل لاجتماعٍ فى مدينة العلمين الجديدة أواخر يوليو. حضرت الأغلبيةُ بما فيها حماس، وغابت حركة الجهاد، ولم يتوصَّل الفُرقاء لرؤيةٍ تُنهى الانقسام المُتسلِّط على البيئة الفلسطينية. ورغم أن البحث فى جذور الأزمة القديمة قد لا يُغيِّر شيئًا فى التركيبة القائمة؛ إلَّا أن المُكاشفةَ الصادقة تفرضُ الذهابَ إلى حالةٍ من النقد الذاتى، وتظهير عناصر الاختلاف التى تسبَّبت فى أن يتصارع الإخوة على البيت؛ قبل أن يستردّوه من أيدى الغاصبين. ولعلَّ العُقدةَ بحالها تخصُّ الأيديولوجيا؛ إذ أخلصت بعض الحركات لمرجعيَّتها الروحية والتنظيمية أكثر من إخلاصها للثابت الوطنى. قديمًا انشقّ بعضُ الطلبة عن حركة الشيخ ياسين لخلافٍ فى المنهج والديناميكية، فكانت «الجهاد الإسلامى» التى تراكب وجهُها السُّنّى على جسدٍ شيعى ميليشيّاتى يفرد طُولَه بعَرض المنطقة، وبعدها سُحِبت «حماس» للتحالف نفسه رغم التناقضات الفكرية العميقة. تلك القُدرة العالية على إدارة التباين المذهبى مع الأغراب، غابت تمامًا عن مُحاورة الأشقاء؛ فوقع الشرخُ على قاعدة الانتخابات، بينما تقضى، بطابعها كفاعليّةٍ ديمقراطية، أن تكون أداةَ تجميعٍ لا تقسيم. وقتها ابتُلِعَ قطاعُ غزَّة بالقوّة، وقُتِل مُوظَّفو السُّلطةِ بعُنف، وبعضهم أُطيحوا من أعالى البنايات كما لو أنهم صهاينةٌ لا فلسطينيون.
لغَرضٍ غير مُعلَن؛ برز مَن يُوزِّعون المسؤولية بالتساوى على السلطةِ والحمساويِّين. والخللُ أنّ صيغةَ الإدارة الذاتية، وما يتفرَّع عنها من مُؤسَّسات وانتخابات، أنتجتها «أوسلو» وأُدِيرت على ميثاق مُنظّمة التحرير المُحدَّث؛ بينما سعى فريقٌ إلى تأميمها لتكون سلاحًا وأداةَ إلغاء: فى الداخل ضد مُكوّنات المُنظّمة، وفى الخارج مع العدوِّ وسُلطاته. هكذا وُضِعَ «عباس» دون اختيارٍ منه فى نزاعٍ له وجه السياسة وجسم الحرب، فضربت إسرائيلُ حصارَها الخانق على «غزّة» المُتمرّدة، وكبَّلت «الضفّة» التى بدت ضعيفةً ولا تُمسِك بأىِّ طَرفٍ من خيط القرار. والحقيقةُ أن إدارة المُواجهات كلها مع الاحتلال، خشنةً كانت أو ناعمة، لا أمل فيها من دُون التئام الجماعة الفلسطينية على برنامجٍ مُوحَّد، يتقاسمه الساسةُ والمُقاتلون بعقلٍ واعٍ ومنطق سليم، على أن تتقدَّم الغاياتُ العُليا على المطامع الفئوية، وتتحدَّد الأدوارُ فى ضوء ما تحتاجه فلسطين من كلِّ طَرف، وما يقدرُ عليه، وليس ما يرى فى ذاته أنه جديرٌ به، أو تفرضه عليه انتماءات وتحالفات خارجية؛ وخلاف ذلك يصبُّ فى صالح الصهيونية حصرًا.
منذ السابع من أكتوبر حافظَ القادةُ الفلسطينيون على أداءٍ شديد الرصانة. لا السلطةُ ولا دبلوماسيِّوها أدانوا الطوفان؛ رغم الضغوط الدولية الشرسة، ولعبَ سُفراؤها دورًا مُهمًّا فى مُقاومة السرديَّة الصهيونية، وتعديل مِزاج الشعوب وبعض الحكومات عالميًّا؛ بل إنهم تفوَّقوا فى ذلك على «هنيّة ومشعل» وبقيَّة المكتب السياسى، وعلى رُعاتهم من بعض الدول والمنصَّات الإعلامية. التصريحُ الساخن الوحيد قاله «أبو مازن» فى اتّصالٍ برئيس فنزويلا، مفاده أن «حماس» لا تُمثّل الشعب الفلسطينى، ثمَّ سحبته الرئاسةُ وبثَّت الوكالة الرسمية بدلاً منه أن «مُنظَّمة التحرير المُمثِّل الشرعى والوحيد»، وهما بالمعنى نفسه؛ إذ ما يزال الحمساويّون خارجها ورافضين لميثاقِها. والواقع أن الدفاع عن المُنظَّمة ومركزية دورها أكبر من طموح الرئيس ودائرته المُقرَّبة، وأعمق من شجارٍ عابرٍ على سُلطةٍ ليس لها من اسمها أىُّ حظٍّ، إنْ فى الضفَّة أو فى غزَّة؛ إذ يتّصل الأمرُ بالحفاظ على وجودٍ مادى ملموس ومُعترَف به دوليًّا، ومن العدوِّ نفسه، بدلاً من تذويب القضية فى أقنيةٍ وجماعات محلّ انتقادٍ دائم، وصارت أخيرًا موصومةً بالإرهاب. صحيح أنَّ الموقف الغربى منحازٌ وشديد الوقاحة؛ لكنه صار واقعًا على الجميع التعامل معه، والاجتهاد للإفلات من مخالبه الحادة، وليس المُكابرة والاستسلام لفكرة تقزيم القضية الإنسانية العادلة، وحَبسها فى قارورةِ تنظيمٍ يسهُل الطعنُ فيه أو شطبُه من الصورة السياسية، فلا يعود لحضوره المادىّ أثرٌ مُثمر لصالح الرؤية التحرُّرية، والأصلُ أنَّ المُقاومةَ وسيلةٌ لا غاية.
يقولُ الفلسطينيِّون جميعًا إنهم راغبون فى إنهاء الانقسام؛ لكنهم لا يعملون لذلك.. قبل أسابيع أُدِير حوارٌ تحت عنوان التوافق؛ والمُفارقة أنه كان فى بيروت، وبحضور خمسة فصائل مُتحالفة أصلاً، ولم تُوَجَّه الدعوةُ لفتح ولا مُنظّمة التحرير. والمُؤكَّد أن مسألةَ الالتئام الوطنى كانت من موضوعات القمَّة الرئاسية القاهرية أمس؛ حتى لو تقدَّم عليها سؤالُ إنهاء الحرب وتنشيط جهود الإغاثة، ومُواصلة التصدِّى الصلب لمُخطَّطات التهجير التى لم تغب عن أجندة الاحتلال، رغم الصحوة الإقليمية والعالمية البارزة. والمنطقُ يقطع بأن «عباس» أشدّ الراغبين فى لَملمة الأثاث المُبعثَر؛ حتى لا يقف وحيدًا فى عين العاصفة. ومن المنطق أيضًا أن يبتغى ذلك على أرضية المُنظَّمة وميثاقها؛ حتى لا يعود بالصراع إلى نقطة الصفر، وتتحوَّل الجبهةُ الفلسطينية من دولةٍ معنويّة تبحث عن جسمها المادى، إلى حركةٍ شعبية تتوسَّل اعتراف العدوّ والصديق. وإن كانت الحربُ حالةً ظرفيَّة لا مفرَّ من أن تضع أوزارَها؛ فإنَّ المعركة الحقيقية فى داخل البيت، لا على تخوم الخطِّ الفاصل مع الصهاينة. والرأسُ الذى شاب شعرُه، ربما يكون خيارًا عقلانيًّا فى المدى المؤقت؛ بدلاً من السَّير فى غابةٍ النار بجسدٍ عَفىٍّ دون دماغٍ أو عينين.
لا جدالَ فى أن السلطةَ أحوجُ ما يكون لإعادة بناء نفسها. ولا تنحصرُ الحاجةُ فى الهيكلة والتنشيط، ولا فى تبادُل الوجوه والأدوار؛ إنّما تمتدُّ إلى مُراجعة ثوابت الخطاب ومُتغيّراته، وتوسعة النوافذ الضيِّقة بين الفصائل لتصير أبوابًا عريضة، يدلُف منها الجميعُ إلى قاعةٍ وطنية، مُتّسعةٍ بما يكفى لاستيعاب كلِّ الأطياف والتلاوين. ولقاء ذلك تحتاج السلطةُ إسنادًا سياسيًّا من دُول الاعتدال، يصونُ مُكتسباتها ويمنع ابتلاعها، وظهيرًا شعبويًّا من الداخل يُقوِّى شوكتَها ولا يجعلها مُنافسًا بين مُتسابقين؛ بل نائبًا عن شركاء مُتّفقين. وإن كان الأوَّل مُتوافرًا الآن؛ فإن الثانى مُعطَّل ودونه عقباتٌ ورواسبُ قديمة. المُنظَّمة اليوم تُواجه عدوًّا يُعرقل خُطاها ويُراكم العثرات، بينما تتقافزُ الفصائلُ على كتفيها لتُثقل كاهلها وتُبطئ حركتها، وإن كان عليها؛ بالتزام التاريخ ومسؤولية الحاضر، أن تُبادر باحتضان أجنحة العمل الوطنى مهما بدا بعضُها مُتشدِّدًا واحتكاريًّا؛ فإن على الفصائل أن تنزل من علياء التطهُّر الأُصولى بشعاراته العاطفية؛ لتختبر السياسة فى وجهها التداولى البراجماتى، أو أن تُوكل المهمّة للقادرين عليها. أى أن تكون شريكًا بمُقتضيات الشراكة، أو رديفًا لا يُصادِر قنوات الدبلوماسية ولا يخسرُ ظِلّ السلاح. فالمطلوب أن تُقاتل للقضية؛ لا أن تُقاتل بها أو على جسدها المريض.
العِلّة مُتجذّرة والمرض عضال. ليس المقصود تبرئة السُلطة ولا إدانة الفصائل، أو الانحياز للسياسة على حساب السلاح. حازت إسرائيلُ الجغرافيا ثم نقلت الصراع للأيديولوجيا؛ وصارت تتحدَّث عن دولةٍ يهودية نقيّة وعن مُحيطٍ عربى مُعادٍ؛ أمَّا الفلسطينيون فقد تورَّط بعضُهم فى حُروب الأفكار قبل أن يُؤمِّنوا مواضع أقدامهم فى الميدان. وما يتقدَّم اليوم على كلِّ ما عداه، أن يتملَّكوا نطاقَ حركتهم كأولويّة تسبق النزاع على إيقاع المَسير ووجهته؛ وألا يتنازعوا فى الولاءات ويصرفوا فوائضَ نضالهم، عاطفيةً ومادّية، لساحاتٍ أُخرى أو تحت راياتٍ بديلة. إنَّ المُقاربةَ المصرية مثلاً تنطلقُ من تثبيت أوضاع الصراع، ورَبط حوارٍ مع «اليوم التالى» على مُرتكَز التوازن الراهن بين إسرائيل وفلسطين؛ لكنّ المُشكلة أن فلسطين مُنقسمةٌ على نفسها؛ ولا يُمكن أن تُحاجج القاتل طالما اختلف الضحايا فى تركة القتيل ولم يلتئموا على ثأره.. الأقدمُ أَولى باحترام تاريخه، وصاحبُ الشرعية أحقُّ بالتقدُّم، والأقوى لا يجب استبعاده أو إهدار قوّته، وعلى الحِسبة الجديدة أن تبتكر علاقةً رياضية ناضجة بين العناصر الثلاثة.
قال وزير خارجية إيران فى تصريحٍ شديد الدلالة؛ إنَّ ما يتفقون فيه مع إسرائيل هو رفضهما لحلِّ الدولتين. وبالبديهة لا يُمكن أن تنتصرَ لفلسطين بمُلاقاة عدوِّها فى محطّةٍ وسيطة. وبالمِثل فإنّ «مُنظّمة التحرير» خصمٌ مرصود من نتنياهو وحماس، وهنا يقعُ الخلل. وإن كان ثمّة ما يُزعج إسرائيل فى رام الله، حتى أنها تُجاهِر بخطيئة أوسلو، ولا تخفى رغبتَها فى تفكيك السلطة وإسقاط شرعيَّتها؛ فالواجب على «غزّة» أن تُعزِّز الإزعاج وتستثمرَ فيه، لا أن تصمت أمام الحرب على الشرعيّة أو تشارك فيها. وأعودُ لتأكيد أن الكُلفةَ على الطرفين: السلطةُ تراوغ فى مُبادرة القاهرة مثلما راوغت حماس، وكلتاهما ترفض فكرة «حكومة التكنوقراط» كتقدمةٍ لانتخابات عامّة تفرز مُؤسِّسات مُحدَّثة. وإن كانت مصر معنيّةً بالملف لاعتباراتٍ أخلاقية واستراتيجية، ولن تُبدِّل موقفها الراسخ على ثوابت ثلاثة: إخماد النار، وتثبيت الغزِّيين فى أرضهم، ثم ترميم البيت بالمعنيين المادى والمعنوى؛ فإن كثيرين قد تتغيّر رُؤاهم، ويخفُت وهجُ الاهتمام بالقضية وأهلها، وترتدّ إسرائيل إلى بطشها المُعتاد تحت سَتر الفُرقة والإهمال. إنَّ ما يُفرّط فيه الفُرقاءُ اليوم قد لا يُحصّلونه غدًا، كما فعلوا من «مينا هاوس» إلى كامب ديفيد الأولى. والدعم المُعجَّل والمؤجَّل مرصود لبلدٍ مُتماسك وجبهة مُوحَّدة، وسدُّ الذرائع يُوجب إنكار الذات وإعلاء العام؛ مهما بدا الحُلم بعيدًا ومُطوّقًا بالعداوة والاستهداف. السلطة والفصائل فى امتحانِ وجود، ومصر تخوضه معهم بنزاهةٍ وتجرُّد كاملين، ويتبقّى أن يعرف المُناضلُ بالدبلوماسية أو البندقية على أى أرضٍ يقف، ولأىِّ غايةٍ يُحارب.