كان التاريخ الوطني يكتب طبقًا للأهواء السياسية وليس طبقا للتحليل والتمحيص، والنقد الذي يجعل التاريخ مصدرا للتجارب التي يجري التعلم منها والبناء عليها، فضلا عن دور التاريخ في صياغة الشخصية الوطنية، هذا ما يتطلب عند كتابة التاريخ مراعاة البعد عن المبالغات التي تخرجه عن سياق المنطق والقبول العقلي والتصديق، والكثير من الدول تعتبره أحد أدوات إعداد المواطن للحياة السياسية، فكثيرا ما وظف التاريخ لخدمة أغراض مرحلية سرعان ما يجري تصحيح ما استخدم لخدمة هذه المراحل فيسقط من آثار الأكاذيب من عيون الناس.
للأسف فإن المدرسة المصرية التاريخية فقدت جزءا من قدراتها خلال العقود الأخيرة فجاءت الوفاة المبكرة لأركانها الواعدة مثل: نعيم وصفي ذكي، السيد الباز العريني، إبراهيم طرخان، لتفقد مصر الكثير، كما أن تركيا مؤخرا وعبر برامج ومسلسلات وكتب جعلت للدولة العثمانية شعبية في الكتابات التاريخية العربية، مما جعل التاريخ المملوكي في مصر يتراجع، في حين أن ذروة دور مصر الذي ما زلنا نبني عليه إلى اليوم يعود للعصر المملوكي حين حررت مصر نهائيا بلاد الشام من الصلبيين على يد كل من: سيف الدين قطز ثم الظاهر بيبرس ثم البطل المنسي الأشرف خليل محرر عكا، لتصل مصر حدودها إلى أقصي اتساع لها عبر التاريخ حيث امتدت إلي أذربيجان شمالا وشمال السودان جنوبا وشرق ليبيا، لتصبح القاهرة عاصمة العالم الإسلامي، وبورصة العالم حيث التجارة القادمة من الصين والهند وأفريقيا وأوروبا تصب في مصر لنرى مدن تجارية كبري كقوص وفوة والإسكندرية وأسيوط ودمياط ، لتتحول القاهرة إلى مدينة ألف ليلة وليلة في المخيلة الأوربية، لثروتها ومعمارها ومكانتها.
على جانب آخر، فإن جمود أقسام التاريخ في الجامعات المصرية تسبب في تراجع قدرات المصريين في الكتابة التاريخية إلا أعداد قليلة، ومعظمها مهاجر أو معار أو مهمش، وهناك حاجة ماسة للتفكير في أقسام التاريخ لإدخال مواد لإعداد المؤرخ، مثل تأريخ التاريخ، فلسفة التاريخ، النقد التاريخي، إضافة إلي أن العصور الغائبة عن الذاكرة التاريخية المصرية تحتاج إلى إعادة كتابة مرة أخرى، فنحن في حاجة لأن ندرس الإيمان بالمسيحية في مصر، وكيف نجح المسيحيون الأوائل في نشر هذا الدين تحت وطأة الاضطهاد والتعذيب والاستشهاد، كما أن تراكم التاريخ الوطني عبر عصور سحيقة يتطلب الوعي بطبقات التاريخ الوطني وبالتالي ينشأ الإيمان بالوطن وحضارته.
كتابة التاريخ للجمهور شيء، وكتابة التاريخ لطلاب المدارس شيء آخر، والكتابة الأكاديمية للتاريخ شيء ثالث، نحن إلى الآن لم نقدم تاريخنا وفق مستويات مختلفة من الكتابة طبقا للجمهور المخاطب، هذا ما يجعل هناك مشكلات في مصر في تلقي المادة التاريخية تذهب إلى حد نفور طلاب المدارس من المادة التي ذهبت حاليا إلى حد التسطيح، وبالتالي يجري تلقيها بالاستهزاء من طلاب المدارس، وخطورة هذا كله أن هناك روايات تاريخية كتبت خارج مصر بمستويات متعددة بدءا من كرتون الأطفال إلى الأفلام الوثائقية المتاحة على شبكة الإنترنت، هي من تقدم التاريخ المصري أو جوانب منه للمصريين، وبينما نحن سلمنا بهذا الأمر، أدرك الآخر أهمية التاريخ فجعل له قنوات متعددة لكي يصل للناس كما تراه الرؤى الوطنية.
علم المصريات
علم المصريات هو العلم المعني بمصر القديمة منذ عصور ما قبل التاريخ حتى نهاية الحقبة البطلمية، هذا العلم من المفترض أن مصر تكون هي سيدة العالم فيه.. للأسف الشديد أن موقع مصر من علم المصريات متراجع كثيرا عن المكانة التي يجب أن يكون عليها، هناك علماء شباب مصريون مبشرون في هذا الحقل المعرفي، لكن الأمر يتطلب خطة وطنية مدتها عشر سنوات لكي تكون مصر هي الرقم الأول والمرجع في هذا العلم، فلا يعقل أن تتفوق فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا وبولندا حتى الصين الآن في هذا العلم، كما أن العديد من المعلومات التاريخية الشائعة، إما بها نقصان شديد مثل معرفة المصريين بالأسرة صفر والتي أعادت ترتيب وقراءة تاريخ مصر في عصر بداية الأسرات، أو حتى المقاومة الوطنية التي هزمت جيش الاحتلال الفارسي (جيش قمبيز) والذي شاع عنه أنه اختفى في بحر الرمال، إلى اعتبار الحقبة البطلمية حقبة احتلال.
نحتاج إلى إنشاء موسوعة رقمية وورقية وطنية للتاريخ الوطني تكون في بداياتها بسيطة المداخل فيما لا يزيد عن أربعة مجلدات، ثم ينبثق عنها عدة موسوعات متخصصة موسعة في كافة العصور التاريخية لمصر وفق معايير علمية صارمة، مما يولد جيلا جديدا من المؤرخين بمنهجيات جديدة لكتابة التاريخ الوطني.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة