للحرب ظاهرٌ صلب، وموجةٌ جارفة؛ لكنها من الداخل مزيجُ معارك تتلاقى فيه القوَّةُ الخشنة بالناعمة، وأشدُّ حالات الاندفاع بأعلى مستويات التعقُّل والمُراجعة.
وإذا كان العامَّةُ يرونها كُتلةً واحدةً مُصمَتة؛ فالمُنخرطون فيها مُلزَمون بأنْ يُفكِّكوا وحداتها، وألَّا ينفصلَ التكتيكىُّ منها فى وعيهم، عن العَمَلانىِّ والاستراتيجى.
وأسوأ ما فى الحروب أن تُخاضَ برُؤيةٍ سطحيَّةٍ وخططٍ غير ناضجة، وأن يرهنَ أحدُ طرفيها كلَّ خياراته لدى الغريم؛ فلا يعودُ قادرًا على التوصُّل لأهدافه المُعلَنَة، أو العودة إلى نقطةِ البداية لتقييم المسارات وتقويمها. وإذا كان مطلوبًا أنْ تتوفَّر على معرفةٍ عميقة بالعدوِّ؛ فالأصلُ أنك تنطلقُ من تعريفٍ دقيق للذات، وإلمامٍ بحدود قُدرتها وما يُمكن أن تصيبَه من غايات، وبالثغرات ونقاط الضعف وكيفية تلافيها أو تحييدها. أمَّا الانخراطُ فى المَعمَعة دون هذا أو ذاك؛ فإنه انتحارٌ كاملُ الأوصاف، أو على الأقلِّ مُغامرةٌ غيرُ مُتقَنَة، ولعِبٌ عشوائىٌّ لصالح الفريق المُضادّ. وللأسف؛ يبدو أنَّ هذا ما يحدثُ بالفِعل على جبهات المُمانعة منذ «طوفان الأقصى»، وإلى الساعة التى يعجزُ فيها المحورُ عن إحصاء خسائره؛ بينما يتأهَّبُ الصهاينةُ لمزيدٍ من المكاسب السهلة، والكاسرة أيضًا.
لم يَعُد مُلغِزًا النظرُ فى مواقف «حماس» واستكشاف اعتلالاتها الظاهرة. لقد امتلكت الحركةُ وَصفًا دقيقا لليوم الأوَّل، أو على التحديد للرصاصة الافتتاحيَّة؛ ثمَّ صارت من بعدها أشبَه بمن ألقى نفسَه فى البحر دون خبرةٍ بالسباحة والموج. كانت الفكرةُ المُتسلِّطة على ذِهن «السنوار» أن يُغيِّر تركيبةَ الجبهة، ويضعَ نفسَه فى قلب المشهد الداخلى والإقليمى بتشريفةٍ احتفاليَّةٍ زاعقة؛ أمَّا ما بعد ذلك فلا أهميَّةَ له، كما لا برنامجَ للتعاطِى مع ارتداداته. راهنَ الرجلُ على خلخلة البيئة العِبريَّة بأثر ضربته الثقيلة والخاطفة؛ ثمَّ على حُلفائه من الشيعيَّة المُسلَّحة، وتفاعُلات المنطقة والعالم؛ بعدما تصلُ رسالتُه ويتلقَّى رُدودَ الاحتلال عليها. وهنا تجمَّعتْ كلُّ الأخطاء الكفيلة بتحويل الحرب إلى متاهةٍ إفنائيَّة مفتوحة، والمُبادرة إلى تقَهقُرٍ فى الميدان والسياسة على السواء؛ لا لأنّه مارسَ حقَّه المشروعَ بطريقةٍ عاطفيَّة ساذجة فحسب، إنما لأنه ربطَ حسابات الفاعلية والأثر بمُعادلاتٍ حاكمة من الخارج، وما اهتمَّ بصياغة استراتيجيَّةٍ تنشغلُ بامتصاص الانتكاسات، بقدر ما تحفَلُ بالانتصارات الصغيرة والعابرة.
والخطأُ بحذافيره تورَّطَ فيه حزبُ الله على الجبهة الشمالية. إذ منذ أطلقَ عمليَّتَه تحت شعار «الإسناد والمُشاغلة»، اعتصم بعنوانٍ وحيدٍ يخصُّ مجريات الأحوال فى غزَّة، ويقطعُ بأنه لا تهدئةَ فى لبنان قبل القطاع؛ فبدا كأنه قد طوَّق نفسَه بالنار وتركَ برميل الزيت فى أيدى الاحتلال، يصبُّ عليها كيفما شاء، أو يُطفئها إذا أراد. وهكذا صار مُجرَّد التراجُع عن ثابته المُعلَن مُعادلاً كاملاً للهزيمة، بينما يُغذِّى الإقدامُ الطائشُ آلةَ العدوِّ، ويُبقِى على اشتعال الجبهتين معًا. رصاصةٌ واحدةٌ جنوبًا تكفى لاستدراجه، وأىُّ تعقيبٍ منه هُنا يُبرِّر المُواصلةَ هناك. وكان بإمكانه أن يُجزِّئ الفكرةَ الكُبرى إلى أفكارٍ أصغر، وأن يتدرَّجَ فيها صعودًا من نقطة لِمَا بعدها، بحيث يكون الغرضُ مثلاً تنشيطَ التفاوُض، ثمَّ تحسين الشروط، وإنفاذ المساعدات، وإجلاء المدنيِّين لأماكن آمنة، وغيرها من التفاصيل المُكوِّنة لصورة الإنقاذ النهائية المُتمثِّلة فى وقفِ إطلاق النار، وبهذا يُمكنه الحديثُ عن نجاحاتٍ جُزئيَّة، وانتقالاتٍ منطقيَّة بين المراحل، ويتركُ لنفسِه مُتَّسَعًا لأن يُناور فى الأهداف والمواقيت، ويصرفَ كلَّ تقدُّمٍ؛ ولو ضئيلاً، فى مسار الهُدنة والإغاثة؛ لصالح إبقاء جبهته على دعاياتها الإسنادية، وتحصينها فى الوقت ذاته من التقلُّبات الحادَّة، ومن فُرَص الصدام واسع المدى.
عندما أعلنتْ إسرائيلُ باقةَ أهدافها فى غزَّة، ومنها إفناء حماس، كان واضحًا أنها تطلبُ المُستحيلَ، وربما تتيقَّنُ من عدم إمكانيَّة الوصول إليه؛ لكنها فى المستوى النظرىِّ قادرةٌ على تحقيقه، وبوَصفِها الطرف المُتغلِّب فى الميدان؛ فمن مصلحتِها اتِّخاذُ منصَّةٍ بعيدة للتصويب، وإبقاءُ الحرب على حالِها، دون افتقاد الآليَّة اللازمة لإيقافها متى أرادت. وبينما قالت فى البداية إنها تتصدَّى لتهديدات الحزب من مَوقع رَدِّ الفِعل، وعندما صعَّدت الأهدافَ إلى إعادة المُستوطنين النازحين من الشمال؛ لم تكن تطلبُ إلَّا هامش الحركة الذى يسمحُ لها بالنفخ فى هيكل المعركة، وتضخيمها بما يمنعُ القُوى الشيعيَّة من تصدير صورة النصر، أو التمتُّع طويلاً بانكسار مُعادلة الرَّدع. وفى كلِّ الأحوال؛ فإنها كانت تتشدَّدُ عن بأسٍ ومصلحة، ولها منافعُ فى السخونة أضعاف ما فى التبريد، وتطمئنُّ إلى فارق القوَّة، وانسدال غطاء الدبلوماسية والعسكرية عليها من الدائرة الغربية، لا سيَّما الولايات المُتّحدة؛ بينما كانت عناصرُ التآلُفِ لدى المُمانِعين آخذةً فى التآكُل، ومَوجتُهم تنحسرُ، ورأسُ المحور يدخلُ فى مجال الترويض، بالرُّعب أو الإغراءات.
لا قيمةَ للمُبادرة إطلاقًا ما لم تكُن قادرًا على الحسم؛ بل العكس تمامًا. إذ مع الهشاشة والانكشاف، ومع غياب الرُّؤية وخريطة السَّير فى الميدان أو الخروج منه؛ فقد تصيرُ الضربةُ الأُولى مِحنةً حقيقيَّةً، لناحية أنها تُشبه العبثَ فى أنياب الضباع، وتستنفرُ أسوأ ما فى أرواحها من بطشٍ ووحشيَّة، وتُؤمِّنُ لها نزول الحَلَبة فى حماية السرديَّات المُضلِّلة، كما حُمِلَتْ المسألةُ مُبكِّرًا على إدانة «حماس» وتمرير حقِّ الدفاع عن النفس للاحتلال. وإذا كان للفصائل الغَزِّية حقُّ المُقاومة وطَلَب العدالة؛ مهما قُوبِلوا بوَصْمٍ واعتراضاتٍ؛ فإنَّ تنشيطَ جبهة الحزب لم تكتسِبْ صِفَةً وطنيَّةً أو قانونية، بقدرِ ما طُرِحَت بوَصفِها استجابةً من إيران للشرارة الأُصوليَّة فى الطوفان، وتنشيطًا لأذرُعها على أجندةٍ «فوق فلسطينية» وإنْ ادَّعت خلافَ ذلك. وهكذا يُمكن القولُ إنَّ الميليشيا اللبنانية أضرَّت بحُلفائها الفلسطينيِّين ولم تخدِمْهم؛ إذ بالمُعطيات الميدانيَّة ما حقَّقت الإسنادَ أو المُشاغلة، ولا قلَّصت مُعاناة المدنيِّين والمُقاتلين فى مَجمرةِ القطاع؛ لكنها فى المُقابل ألحَقَتهم على تيَّارٍ يُنظَرُ له من زاوية المُروق واختراق القانون والنظام الدوليِّين، ويُصوَّرُ على صِفَة البلطجة العقائدية، ناهيك عن سوابقه مع العواصم العربية، وامتدادته المُريبة فى آسيا وعلى أطراف أوروبا. والمعنى؛ أنَّ الرصاصةَ المُلوَّنة لطَّخت وجهَ القضيَّة العادلة، على الأقل لدى القوى الدولية المُنحازة أصلاً، وفوق هذا لم تُحدِثْ أثرًا ملموسًا على جبهة الحرب؛ فكأنها أصابت صدرَ الصديق، من حيث أرادت أن تصرِفَ عنه رصاصات العدوّ.
لم يكُن فى صالح الاحتلال أن تبقى جولةُ الطوفان بسيطةً وبيضاء فى الفرز والتصنيف، أى أن تظلَّ مُواجهةً صافية بين مُحتلٍّ ومُقاوم؛ إذ المنطقُ أنَّ فاعليَّة السرديَّات المُلفَّقة وخطابات الوَصْم والتشويه ستفقِدُ أثرَها حتمًا، طالَ الوقت أم قصر؛ لذا يُمكن الجزمُ بأنها كانت ستستدعى حزبَ الله وغيرَه من أذرُع المُمانَعة؛ وإن لم يُبادروا. وأيَّةُ قراءةٍ تتجاهلُ مصلحةَ الصهاينة، ونتنياهو تحديدًا، فى توسعة الصراع وإكسابه نكهةً دينيَّة ميليشياويَّةً عابرةً للحدود؛ تنطلقُ بالضرورة من خِفَّةٍ فى الرؤية وعَجزٍ عن استيعاب السياقات. أمَّا صيغةُ الانخراط من جانب المحور فإنها تُؤكِّدُ أنهم لم يَرَوا «الفيل فى الغرفة»؛ ولو استشرفوا ذلك ما تصرَّفوا بالطريقة التى اعتمدوها. وأمَّا الدفعُ بمَنطقِ أنَّ هذا الاستخلاص يُساوى بين الاحتمالين، ويجعلُ الصدام قدرًا محتومًا ولا رادَّ له؛ فإنه يُغيِّبُ حقيقةَ أنَّ الخلافَ هُنا ليس على اشتباك الحزب أو امتناعه؛ إنما على طبيعة التشابُك وحدوده وآفاق المناورة والانسداد فيه. والوعىُ بأنَّك مطلوبٌ للقتال من جانب العدوِّ؛ يفرضُ عليك أنْ تستعدَّ له بجُزءٍ منك، وأن تسعى للتهرُّب منه بكلِّ الأجزاء، خصوصًا لو كان امتدادُ الخطوط على استقامتها منذ البداية يُرجِّحُ ما وَصَلنا إليه اليومَ؛ أى أنْ يتفوَّق المُحتلُّ، وينتكِسَ المُقاوِمُ، ويُعاد بناءُ مُعادلة الرَّدع على صورةٍ أفدح ممَّا كانت قبلها، حتى أنها تُهدِّدُ فلسطين فى أُصولِها الكُبرى، وتُهدِّدُ الشيعيَّةَ المُسلَّحةَ نفسَها فى جوهر وُجودها ومُبرِّراته، لا فى مُجرَّد حدود الانتشار والفاعليَّة وتوازُنات البقاء الحَرِج.
يصحُّ وَصفُ الصهاينة جميعًا بالمُراوغة؛ إنما لا يتفوَّقُ أحدٌ منهم على نتنياهو. وبينما يبدو فى مُمارساته عالمًا بالسنوار وقادة حماس، وخبيرًا فى حزب الله وذِهنية أمينه العام؛ قبل أن يُقرِّر شطبَه من الرُّقعة؛ فقد بَدَوا من جانبهم مُتخبِّطين ولا يعرفونه جيِّدًا، أو لا يُقدّرون إمكاناته بالدرجة التى يفرضُها التواضعُ واحترام الخصم؛ طالما تسعى فعلاً لهزيمتِه أو حرمانِه من الانتصار عليك. وسيرةُ رئيسِ الحكومة الإسرائيليَّة من الظاهر مَليئةٌ بالتناقُضات؛ لكنّها قُماشةٌ واحدةٌ للعارفين بنسيج الليكود، وطبيعة اليمين المُتقلِّب بين القوميَّة الصارخة والتوراتيَّة الداميّة. لقد صوَّب طويلاً على اليسار واتِّفاق أوسلو، وكان له سَهمٌ فى نَحر إسحاق رابين ووأد مسار التسوية السِّلمِيّة؛ لكنَّ هذا لم يمنَعْه من الحديث عن حلِّ الدولتين مُغازلةً للرئيس الأمريكى باراك أوباما، والمُراوحة بين خطابَى السياسة والعُنف، ومُهادنة مُنظَّمة التحرير بينما يعملُ لتأليب حماس، ثمَّ الاستثمار فى فوضى الحركة والتباكى على غياب الشريك. يقولُ كثيرًا عكسَ ما يقصدُ، ويُظهِرُ خلافَ ما يُبطِن؛ وإذ رأى الحماسيِّون فى مُطالبتِه بإبادتهم معركةً شخصيَّةً تفرضُ عليهم التصلُّب؛ ولو على حساب القطاع وأهله، كان هذا ما أرادَه بالفِعل، وإذ اعتبرَ الحزبُ أنَّ حماوتَه على أطراف لبنان دليلُ بأسٍ واستقامةٍ أخلاقيَّة، كانت عَيْنَا عدوِّه على المزيد؛ حتى أنه عندما التزمَ «نصر الله» قواعدَ الاشتباك، وتراجعت وتيرةُ العمليات نسبيًّا، بادرَ من جانبه بقَصف الضاحية، واستنفار مراكز العاطفة والثأر فى «لا وَعى» السيِّد ورجاله. ومن أسفٍ أنهم فوَّتوا كلَّ الإشارات الواضحة، وأخطأوا فى قراءة السياقات، وفى الاستدلال منها على معانٍ أشدّ خطأً وإغراقًا فى الضلالات.
اعتمدَتْ استراتيجيَّةُ ذئبِ الليكود على توظيف الخصوم ضدّ أنفسهم، ليتوَلّوا تحريكَ تكتيكاته من نقطةٍ لأُخرى؛ دون أن يبدو قاصدًا، أو أنه يتحرَّكُ وفقَ قرارٍ مُسبَق. وفى ذلك؛ فإنّه يُلقِى الطُّعمَ وعَيْنُه على أكثر من سمكةٍ، فإذا أفلَتَتْ واحدةٌ أصابَ غيرَها. لقد قصفَ القنصليَّةَ الإيرانية فى دمشق راغبًا تطوير الصراع مع رأس المحور بدلاً من الأطراف، ومن وراء تلك الغاية أن تندفعَ الميليشيَّاتُ الحليفة، أو تتشقَّق دعائمُ التحالُف ويتسرَّبَ الشَّكُّ لأطرافه. كان اختبارًا خَشِنًا ومُباشرًا لطهران؛ فإمَّا تستجيب له بمنطقه وتفتتحُ حربًا يُلاقيه الغرب فى ميدانها، أو تتراجع إلى الوراء وتُخلى طريقَه للانفراد بأذرُعها المُمَدَّدة فى الإقليم. وبهذا الفَهم اتُّخِذَ قرارُ تصفية «هَنيَّة» يومَ وصول الرَدِّ الباهت على حادث القنصلية، وقرارُ حسن نصر الله بعدما استوثَقَتْ الدولةُ العِبريَّة من صَمت الجمهورية الإسلامية عن ثأر قائد حماس، وسيكونُ التعاطى الباهتُ مع التنكيل بالحزب مُقدِّمةً لتكتيكاتٍ أُخرى لا تخصمُ من قدراته وحده؛ إنما تُعيد هندسةَ خريطة المُمانَعة فى الإقليم بكامله، وتُصوَّب على مشروع الشيعيَّة المُسلَّحة فى قلبه؛ وإن بدا أنها لم تتجاوزْ أطرافَه البعيدةَ إلى اليوم.
إذا أردَتْ أن تضربَ تحالُفًا؛ فلتبدأ من أضعف أطرافه. هكذا يعرفُ أهلُ الاستراتيجيَّة منذ اطَّلعوا على أفكار المُنظّر العسكرىِّ الصينىِّ «صن تزو» قبل قرون. والخاصرةُ الهشَّة كانت حماس؛ ما كان كفيلاً باستدعاء محور المُمانَعة بكاملِه على غير إرادته. ثمَّ كانت ضربةُ الحزبِ، دُرّةِ التاج وأثمنِ أُصول الشيعيَّة المُسلَّحة. والفكرةُ هُنا أنَّ إسرائيل تقلِبُ الآيةَ على إيران؛ فبينما اعتمدت الأخيرةُ منذ الثورة الخُمينيَّة وتجربة حرب العراق، على أن تبنى جدارًا مُتقدِّمًا يتولَّى مهامَّ الدفاع عن مصالحها، ويلعبُ دورًا حُرًّا وخفيفَ الحركة فى توازُنات الرعب، صار عليها اليومَ أن تتدخَّل لإنقاذه؛ دفاعًا عن خطابها القِيَمى وجدارته الإقناعيَّة، أو أن تترُكَه للمصير المُراد به وتُغامرَ بفقدان حليفٍ مُهم، وبانحلال سَرديّة «وحدة الساحات» وميثاقيَّة الاطمئنان إلى العتبات المُقدَّسة فى الوعود والتحالُفات. هكذا انقلب عاملُ القُوّة إلى نقطةِ ضَعفٍ، ولم تعُد الخسارةُ محصورةً فى قَصقصة الأجنحة وحرمان الحرس الثورىِّ من امتدادٍ إقليمىٍّ مُهمّ؛ إنما تمتدُّ إلى تعرية العقيدة نفسِها، وإفساح طريق الوصول لعاصمة المحور، مع مُعضلةِ أنَّها ارتكَنَتْ طويلاً إلى استراتيجية الأذرُع الطويلة؛ فلم تُعالِج هشاشتَها الداخليَّةَ أو تهتمّ ببناء عناصر قُوّتها فى الخريطة الأُمّ.
عندما أطلقَ الاحتلالُ عَمليَّتَه فى الضفّة الغربية بدا الأمرُ غريبًا. لقد ظلّت هادئةً نسبيًّا طوال شهور «الطوفان» الأُولى، ولم تستجِبْ عاطفيًّا أو حركيًّا لِمَا يحيقُ بغزّة، على خلاف السوابق التى تسبَّبت فيها وقائعُ أقلُّ من حرب «السيوف الحديدية» فى تأجيج انتفاضاتٍ شعبيَّةٍ كاسحة. وكالعادة؛ نظر محورُ المُمانَعة للمسألة بتبسيطٍ مُخلٍّ، وحصروها فى المُيول العدوانيَّة والإجراميَّة لدى العدوِّ، وشهوته الهائجة للدم والإفناء. وغاب عنهم فى زحام العاطفيَّة والتفكير بالقلب لا العقل؛ أنه يُرتِّبُ أوضاعَ الجبهة الداخلية استعدادًا للانطلاق بعيدًا؛ بمعنى أنه يُؤمِّنُ ظَهرَه من جانب الضفَّة بعدما طوَّق القطاعَ وكَسَّحَه تمامًا، على صيغة التمهيد لتوجيه قُدراته القتالية الكاملة إلى الجبهة الشمالية، واختصام حزب الله بوتيرةٍ أعلى من كلِّ ما سبق، ولغاية الحَسم الكامل بمعانيه المُتدرِّجة. صحيحٌ أنه لم يَقُل إطلاقًا بالسعى لإبادة الحزب؛ لكنه يتمنّاها، كما أن لها صورًا مُتعدِّدة لا تُختَزَلُ فى استصدار شهادةِ وفاتِه فحسب. فَكُّ الارتباك مع غزّة له نفسُ المعنى، والإزاحةُ شمالىَّ الليطانى أيضًا، وتطويقُ هَيمنتِه الانفراديَّة على المجال العام والبيئة السياسية، والحَطُّ منه أمام حاضنته، وشَرخُ علاقته العضويّةِ الوطيدةِ مع المُرشِد، بما يُهدِّد رباطَ الولاء العقائدىَّ نفسَه على المدى الطويل؛ كلُّها مكاسبُ جُزئيّةٌ يُمكن تطويرُها، أو تمريرُها لمرحلة لاحقةٍ من الصراع؛ لن يكونَ الحزبُ فيها فاعلاً، وقد يصيرُ شوكةً فى حَلق إيران بأكثر مِمَّا كان خنجرًا فى يدِها؛ لأنه إنْ كَتَمَ عنها غيظَه ومَلامَتَه؛ فإنَّ صورتَه المُتداعِيَة ستظلُّ دليلاً على هُزالها، ورادعًا للآخرين عن الالتحاق بها، أو مُواصلة الدوران فى فلكِها.
مثلما كانت الاغتيالاتُ بشائرَ لِمَا بعدها، وعمليَّةُ الضفَّة تجهيزًا لعمليَّات لبنان؛ فإنَّ ما نزلَ بالحزب فى الأُسبوعين الأخيرين بمثابة تأهيلٍ لبيئة الصراع، وتمهيدٍ نيرانىٍّ لأنشطةٍ أكبر. لقد سُحِقَت مُعادلةُ الرَّدع تمامًا؛ وتدرَّج الاستهداف من القادة الميدانيِّين، إلى نظامِ الاتصال ومنظومة القيادة والسيطرة، ووَضع الضاحية فى عين العاصفة، وُصولاً لقِطاف الرأس الأكبر. واليومَ؛ يُعانى الحزبُ انكشافًا فادحًا، ونقصًا قِياديًّا، وانسدادًا للقنوات بين أطرافه، وأخيرًا مأساويَّةَ الخيارات أو انعدامها. يحتاجُ وقتًا طويلاً لاستيعاب الصدمة أوّلاً، وللبحث عن الثغرات وسَدِّها، ثمَّ إعادة تركيب هياكله وانتظام مُستوياته القياديَّة والعَمَلانية. لا حيلةَ لديه بشأن تطوير النزاع أو إبقائه على حالته، كما لا هامشَ لدى إيران للمُفاضلة بين سيِّئ وجَيِّد؛ إذ احتمالاتُها كلُّها تقودُ إلى الخسارة حَصرًا؛ كأن تصمت فتُضحِّى باستثماراتِ أربعةِ عقودٍ خارج تُرابها، أو تشتبك فتَستدعِى أعداءَها جميعًا إلى مُواجهةٍ حارقة فى داخلها، لن تُوفِّر برنامجَها النووىَّ ولا حتى نظامها السياسى من باقة الأهداف. وإذا كان عقلُ المحور ومَركزُ قُوَّته يبدو عاجزًا؛ فإنَّ الأطراف أكثر عجزًا، وأفقر فى إمكانات المناورة وفُرَص النجاة. يعملُ نتنياهو باستراتيجيَّةٍ واضحةٍ عنوانُها التدمير الكاسح، والمُلاحقة اللاهثة، وألَّا يترُكَ فرصةً للميليشيا أن تلتقطَ الأنفاس أو تُرَمِّمَ بنيانَها المُتهدِّم، وهذا مِمَّا ينسجمُ مع رؤيته للتفاوض تحت النار، ورغبته فى انتزاع مكاسب لا تقبلُ القسمة، ولا تحتملُ سوى معنى النصر المُقنِع له، ومعيارُ قناعته أن يُقرّ غُرماؤه بالهزيمة ويَرتضوها. إنها نهايةٌ جولةٍ تتَّسعُ فيها الفوارق، وتتضاءلُ احتمالاتُ الإفلات من الفِخاخ، ولا رفاهيةَ من الوقت للبقاء فى حال السيولة واستمراء الخيارات الخاطئة، أو الاستظلال بمُعادلة الردع بعدما تهشَّمَتْ، وعجزَتْ عن إنقاذ المأزوم عندما كان قويًّا، وليس فى مقدورِها أن تستنقِذَه وقد أشرفَ على الهلاك. يتحرَّكُ الزمن، والصهاينةُ أيضًا، وما زال فريقٌ من الناس على سكونهم. لا أملَ لحماس بعيدًا من فلسطين: القضية والمظلّة والصفة الشرعيّة للمنظمة والسلطة، كما لا أملَ للحزب خارج لبنان، الدولة والطائف وميثاقية التعايش. الدولُ أبقى من الميليشيات، وبها يكون السلاح أقوى وأنجع، وبعيدًا منها يذبُل ويسهل اصطياده. العودةُ تُحرِّر الجغرافيا من فواتير الأيديولوجيا، وتسمحُ للسياسة بأن تُداوى جروحَ الميدان، أو تُحاصر توسُّعَها، وعلى الأقل يكونُ الإجماعُ ضمانةً لِئلَّا نُصَرِّف فوائضَ القوّة ضد بعضنا، أو يتشفَّى كلٌّ مِنَّا فى هزائم الآخر. إنها الوطنيّة الصافية فحسب؛ وكل ما بعدها يقبلُ الجدلَ والاختلاف.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة