سنةٌ كاملةٌ تحتشدُ بأخطاء الجميع؛ لكنَّ كلَّ طرفٍ منهم يُنكِرُ حصَّتَه من المسؤولية، ويستميتُ فى تعليق خطاياه على شمَّاعة الآخر، واتِّخاذها تكئةً للتبرير أو التعويض. وبالنظر إلى أنَّ الأمور تُبنَى على بعضها؛ فلا يُمكن الانصرافُ عن حقيقة أنَّ «طوفان الأقصى» لم يكُن بدايةَ الأزمة، ولا أنه مغفورُ الذنب لمُجرَّد انطلاقته من حقيقةٍ وطنيَّة وأخلاقيَّة، تُجيزُ النضالَ والمقاومةَ دائمًا، وبكلِّ السُّبل المُتاحة. وإذا كان الاحتلالُ يتحمَّل جانبًا عظيمًا من المسؤولية بأثر البطش الطويل، وسَدِّ منافذ السياسة والحلول السِّلمية؛ فإنَّ «حماس» وحلفاءها من الفصائل الغزِّية، وبقيَّة أذرُع محور المُمانَعة، ليست مُبرَّأةً تمامًا من سوء التقدير وخطأ الحسابات. ولأنَّ العِبرةَ بالخواتيم لا المُقدِّمات؛ فليس مُهمًّا مقدار ما تتوفَّر عليه من ذرائع وأسانيد عادلة؛ إذ الخصومةُ مُؤطَّرةٌ بالمَظالِم من بدايتها، والعدوُّ معروفٌ فى أجندته وسُلوكه. وعليه؛ تسقطُ حجَّة الجهل وافتراضاتُ حُسْن النيَّة. ولا تمنعُ إدانةُ القطار الهائجِ وسائقِه المخبول، من القول إنَّ الوقوفَ أمامَه بتحدٍّ واستخفافٍ لم يكُن صائبًا على الإطلاق. وتلك مساحةٌ رماديَّةٌ تنصرفُ عنها الأذهان تحت وطأة التبسيط والانحياز والحشد العاطفىِّ؛ بينما لا تُفهَمُ القضايا الكُبرى، والمُعقَّدة بطبيعتها، على صورة الاختزال الشنيع، بين سوداويَّة الأُصوليَّة الصهيونية، وبياضِ الأُصوليَّة الإسلامويّة؛ على ما يُحِبُّ البعضُ ويفتتنون بلعبة الفرز والتصنيف فى المُعتقدات والألوان.
العمليَّةُ الحَماسيِّة فى غلاف غزّة، والردُّ الإسرائيلىُّ الغاشمُ عليها؛ كانا يُعبِّران عن صراعاتٍ أكبر مِمَّا بين المغصوب والغاصب، لكنهمَّا إلى ذلك، يكشفان عن أزمةِ ثقةٍ عميقةٍ داخل البيئتين. لقد تخطَّت الحركةُ مقدارَ الانضباطِ الذى حافظت عليه طوال تاريخها، وكان يضمنُ لها أن تتقوَّى أو تُحافظ على أُصولها القائمة، وأن تنتقلَ القضيّةُ إلى الأمام قليلاً، أو تثبُتَ فى مكانها دون انتكاسٍ فادح. وبالمِثل؛ كانت استجابةُ الاحتلال خارجَ نطاق التناسُب، وأكبرَ مِمَّا تقتضيه اللحظةُ بحسابات التكتيك والاستراتيجية؛ ولا معنى إلَّا أنَّ «السنوار» كان يضعُ عينيه على هدفٍ أكبر من فلسطين، وهكذا فكَّر «نتنياهو» أيضًا واتَّخذَ قرارَه بالتصعيد الصاخب. أمَّا مسألةُ الشَّكِّ فتجلَّت فى إخفاء طبيعة الخطَّة ومَوعدِها عن الحُلفاء من تيَّار الشيعيَّة المسلَّحة؛ كما لو أنه يُرادُ وَضعُهم إزاء واقعٍ ما كانوا يقبلونه فى الميقات أو التفاصيل، وكذلك اللوثةُ الصهيونيَّةُ التى توحَّشَتْ من يومِها الأوَّل، وانصاعت لهُدنةِ نوفمبر على أمل امتصاص غضب الراعى الأمريكى ومخاوفه، ونِيَّة أن تكونَ الأخيرةَ؛ وما قصَّرت فعلاً من وقتِها فى إفساد كلِّ المُقاربات التالية. والحال أنَّ حلبةَ الصراع أُضِيئَت على لاعِبَيْن، واستدعى كلٌّ منهما ظهيرَه العقائدىَّ والسياسىَّ؛ لكنهما كانا طوال الوقت يخوضان مُباراةً بسيطةً فى الشكل ومُركَّبةً فى الجوهر، ظاهرها مع الغريم المُباشر، وباطنها مع الأصدقاء والشركاء.
سيرةُ الصراع الفلسطينىِّ الإسرائيلىِّ، تختزلُ فى مضامينها كثيرًا من أسئلة القيادة ومُعضلاتها فى الناحيتين. بدأت المُنازعةُ بين بيئتين مُتماسكتين هُويَّاتيًّا وثقافيًّا؛ لكنهما تفتقدان صِفةَ الانتظام المُؤسَّسى على صورة الدولة. تطلَّبَتْ الانتقالاتُ اللاحقةُ حروبًا ومُواجهاتٍ خَشِنَةً لحسم الجولات وتحديد الرابح والخاسر؛ فكانت النكبةُ عنوانًا للدولة العِبريَّة وقَصًّا لشريط المأساة العربية الكاملة. أمَّا المُقاومةُ فقد تخبَّطَتْ طويلاً إلى أن وقَعَتْ مُنظَّمة التحرير على وَصفَتِها الوطنية، وتكفَّلَتْ الانتفاضةُ الأُولى بإزاحة حِسبَة المكاسب إلى ناحيتها؛ فكانت اتفاقيَّة أوسلو وبدءَ التجسيد الشرعىِّ لها على تُراب الوطن. و«أوسلو» نفسُها كانت قطيعةً بين سياقين فى حظيرة العدوِّ؛ إذ تلاشت النبضةُ الأخيرة فى قلب اليسار المُؤسِّس، وعاد اليمينُ للسلطة مُؤكِّدًا ولايتَه الكاملةَ على الزمن. والانقسامُ قامَ مقامَ الحرب فى إزاحة السُّلطة وتسييد حماس، ودارت المُناكفةُ من وقتِها على الانتقال الجديد، وكيف يُسيِّرُه كلُّ طرفٍ بما يُفيدُه ويُعسِّف بالآخر تمامًا.
هكذا استثمَرَتْ حكوماتُ نتنياهو اليمينيَّة فى الحركة، لا لإغلاق باب التسوية وإنهاء ما تبقَّى من حقبة رابين فحسب؛ بل على أمل التحضير لجولةٍ حربيَّةٍ تكونُ الجسرَ العريضَ إلى سياقٍ مُغايرٍ بالكامل. ويُمكِنُ الجَزمُ بأنّها كانت تنتظرُ المُواجهةَ يومًا ما؛ لكنها أخطأت فى ترتيب الأولويَّات لا أكثر. والمعنى أنها عندما خرجت من حرب العام 2006 على الجبهة اللبنانية، اعتبرَتْ أنَّ الخطر القريبَ زمنيًّا سيأتى من جانب الحزب، وأنَّ «حماس» امتحانٌ مُؤجَّلٌ باختيارها، أو يتيسَّرُ لها تأجيلُه بتعميق التشظِّى بين المُكوِّنات الفلسطينيَّة، وتطويقها بالمنافع والإغراءات؛ وإن تسبَّبَتْ فى تثبيت حُكمِها وترقية قُدراتها. وهُنا؛ ربّما تحتملُ مسألةُ الخديعة فى «طوفان الأقصى» تفسيرًا انقلابيًّا على ما ساقَه الحماسيِّون؛ إذ لم تُعبِّر على الحقيقة عن تفوُّقٍ للفصائل أو هشاشةٍ لدى الاحتلال؛ بقدر ما أكَّدَتْ أنّه لم يكُن دقيقًا فى التقدير وتوجيه القُدرات؛ فاستعدَّ بدرجةٍ مُضاعَفَة للمُواجهة مع «نصر الله»، ولم يحسِبْ حسابًا للمُفاجآت المُحتمَلَة من جانب السنوار.
الدليلُ الحاسمُ على ذلك أنه تمكَّن من استيعاب أثر الطوفان سريعًا، وأدار المُحرِّكات فى اتِّجاهٍ عكسىٍّ ليجعلَه نكبةً ثانية للقطاع، بل ولفلسطين بكاملِها. فضلاً على أنه أظهرَ بأسًا كبيرًا فى تقويض الإمكانات الحزبيَّة شمالاً، وعبَّر عن هيمنةٍ كاملةٍ على المجال الحيوىِّ لدُرَّة الاستثمارات الشيعيَّة فى الأذرُع والميليشيَّات. اخترقَ البيتَ وقوَّضه من داخله، ودَسَّ عليه عملاء ولوجستيَّاتٍ مُفخَّخة، ودشَّن قُبَّتَه الحديديَّةَ فى 2011؛ ليُحيِّد ترسانةَ الصواريخ ويتجاوز مخاطرَها التى اختبرها قبل سنوات. احتملَ المُناوشات المُتقطِّعةَ والمحسوبةَ أحدَ عشرَ شهرًا أو يزيد؛ ثمَّ باغتَه بثِقَله فى غضون أسبوعين، وتشدَّد فى الضربات على صورةٍ تفوق أسوأ كوابيس المُمانعين؛ حتى أنه أسقطَ الرايةَ الإيرانيَّةَ العالية على ضِفاف الليطانى، وقوَّضَ رهانَ «الدفاع المُتقدِّم» عن الجمهورية الإسلامية وأجندتها، وعن مشاريعها التسليحيَّة والجيوسياسية. والنظرُ لرخاوةِ الإنجاز الصهيونىِّ جنوبًا، بمعزلٍ عمَّا أصابَه من الحُلفاء العقائديِّين فى الجانب المُقابل؛ إنما ينسجِمُ مع فكرة انكسار عهدِ الثِّقَة والمُوالاة بين الطرفين، وعن سقوط نظرية «وحدة الساحات» عَمليًّا؛ ولو ظلَّ أصحابُها على إفراطهم فيها. إذ لا معنى لحساب المنافع لجبهةٍ بينما تتآكلُ الأُخرى؛ إلَّا أنهما لم تعودا مُتضامِنَتَيْن على ما كان سابقًا، وأنهما لا تحسبان أمورَ الاستراتيجية بينهما بمَنطقٍ واحد، ولا باللغة نفسها.
أثبتَتْ تلُّ أبيب أنها قرأت درسَ الضاحية قبل عقدين جيِّدًا، واستوعبَتْه تمامًا. اشتغلت بدأبٍ يُشبِه صُنَّاع السجِّاد الفارسيِّين على اختراق بيئة الحزب، وتفخيخها، وامتلاك أوراق القُدرة على نَسفِها المُؤجَّل إلى أن يحين مَوعِدُه. وما حدثَ أنها حيَّدت أغلبَ الصفِّ القيادىِّ الأوَّل، ثمَّ الأمين العام وخليفته وخليفة الخليفة أيضًا؛ فلجأ التنظيمُ على إيقاع الصدمة إلى تخبئة رُموزه، وإعلان أنه سيعودُ لتجربة القيادة الجماعية التى اختبرَها فى تأسيسه المُبكِّر. وبعيدًا من تصدُّر نعيم قاسم حاليًا، واحتمال أن يكون هدفًا وشيكًا؛ فالإبقاءُ على فاعلٍ غامضٍ لا يُحقِّقُ فاعليَّة الإدارة كما أنجزها السيِّد الراحل؛ إذ تقومُ طبيعة الحزب على الدعائيَّة والخطابة، ويكتسبُ قدرًا من تماسُكِه وأثره بشخصيَّة قائده الأعلى، أمَّا توسِعَةُ الدائرة فإنها تتسبَّبُ حتمًا فى الارتباك وبُطء القرار، وتمسُّ صلابةَ الميليشيا وثِقَتَها بنفسِها، وهكذا تتبدَّى أزمةُ المرحلة، وهى انحلالُ القُدرات الحركيَّة وانحدار سلسلة القيادة، مع ما يترتَّب عليه من تآكُلٍ للرمزيَّة، وانزلاقٍ مُتسارعٍ على مُنحنى الخُفوت والانطفاء.
المسألةُ فى غزَّة لا تختلفُ كثيرًا؛ إذ تسبَّبتْ إزاحةُ «هنيّة» فجأة فى إرباك حماس، وتوحيد مُستويَيها السياسىِّ والعسكرىِّ فى السنوار. ومع استهداف الأخير، وخشيته من أن يكون «صورة النصر» التى يطلبُها العدوّ؛ فإنّه يختبئُ عن الظهور والإدارة الديناميكية الفعَّالة، فتنتقلُ سُلطة القرار بالتبعية لدائرةٍ أوسع. وإلى ما فيها من خِفَّةٍ وتنازُع؛ فإنها لا تُبشِّر بالتشافى السريع حالما ينالُ الاحتلال من قائدها المُختفى، أو يُخرجُه من القطاع فى صفقةٍ مُستقبَليّة مُحتمَلَة. أمَّا جوهرة المحور فى «فيلق القدس»؛ فقد انتقل العهدُ من «سليمانى» بفائض الكاريزما والدأب والمهارة الاستراتيجية، إلى «قاآنى» العاجز عن ملء الفراغ، أو إيقاف النزيف. وما يجرى على المُمانِعين يمسُّ إسرائيل أيضًا؛ إذ تعيشُ مُسلسلاً من الانحدار فى سلسلة القيادة منذ الهزيمة فى أكتوبر 1973، وبغَضِّ النظر عن تقييم نتنياهو لنفسه كآخر ملوك اليهود، أو عن الاعتراف بذكائه وقُدرته على المُناورة والخداع؛ فإنه يُمثِّلُ ارتدادًا كبيرًا فى الوعى والخيارات المنطقية عمَّا كان من آباء المشروع، فضلاً على أنه يُقدِّم اليومَ صورةً يمينيَّةً بديلةً عن تجاربه السابقة، يُعبِّرُ فيها «جيل الصابرا» المولود على أرض فلسطين عن نفسه بوضوحٍ أكبر، ويخلِطُ الصهيونيَّةَ بالتوراة فى أجندةٍ سياسيَّة فجّة، ولا يفتحُ قوسًا لأيَّة جُملةٍ تخصُّ التسويةَ الدائمة أو تحفل بالوجود الفلسطينى.
هذا التداعى معناه أنَّ الأوضاع آخذةٌ فى التراجُع، والطوفان ليس إلا جولةً ستتبَعُها جولاتٌ إضافيّة. بينما لا تُظهِرُ القُوى الراعيةُ من الخارج نزوعًا للفاعليَّة المُثمرة. الولايات المتحدة أظهرت انحيازًا صارخًا منذ اللحظة الأُولى، وبينما يبدو عليها الامتعاضُ من بعض مُمارسات الحكومة الإسرائيلية؛ فإنها أعجزُ من التصدِّى لها أو تحجيم نتنياهو. لقد كثّفت حضورَها العسكرىَّ لأجل حماية الدولة العِبريَّة، وترويضها أيضًا. والمعنى أنها سعَتْ لتوجيه الرسائل فى اتجاهين: الأُصوليَّة الشيعيَّة حتى لا تتجرّأ على الحرب، والأُصوليَّة الصهيونية حتى لا تتمادى فى إشعال الساحات. لكنَّ الرسالةَ وصلَتْ فى اتِّجاهٍ واحد، فكان من نتائجها أن تشجَّع زعيمُ الليكود على المُغامرة، واستتباع واشنطن. بينما رأت طهرانُ فى المسألة فرصةً لإبرام الصفقة مع الشيطان الأكبر مُباشرةً، وضمانةً تحولُ دون انفلات الأوضاع؛ لا لشىءٍ إلَّا الرغبة الأمريكية فى تمرير شهور الضباب، ولَجْم فُرَص التصعيد الحارق على أبواب سِباقِها الانتخابى.
كلُّ الإشارات أنتجت دلالاتٍ مُضادّةً لِمَا أُرِيْدَ منها. «الطوفان» سعى لإيلام العدوِّ فاستفزَّه، وأراد تنشيطَ القضية فأَرْدَاها وأعادها للخلف عُقودًا. الحزبُ استهدفَ من «حرب الإسناد» أن يُؤكِّد الحضورَ الشيعى فى فلسطين؛ فانطفأ فى لبنان. وإيران ما ابتغَتْ بالمُناكفة إلَّا أن تحجزَ مَوقعًا على طاولة التفاوض؛ فصُعِقَتْ بأنها مُستدعَاةٌ لجبهة القتال بالأصالة. واشنطن دعمَتْ تلَّ أبيب فاستنفَرَتْ تيَّار المُمانَعة، وسَعَتْ لامتصاص غضبة الأخير فحفَّزت نتنياهو أكثر. والذئبُ الإسرائيلىُّ نفسُه أرادَ أن يُرمِّم مُعادلةَ الرَّدع فعزَّز تهشِيمَها، وتطلَّع إلى «كَىِّ الوعى» وإرعاب الفلسطينيِّين فأثارَ انزعاج الحزب، وعندما قفز لانتهاز سانحة الخلاص منه؛ أيقظَ مشاعر الهلع والمخاطر الوجودية فى نفوس الإيرانيين، ووضعَهم أمام خياراتٍ أحلاها شديدُ القسوة والمرارة؛ فترجَّح لديها أنها قد تمضى لصدامٍ لا بديلَ عنه، طالما أنها مُهدَّدةٌ فى استثمارات أربعة عقود؛ بل وفى وجودها وحواضنِها الآمنة.
ابتهجَ «السنوار» يومًا ولم ينشغِلْ بما بعده، بينما استمدَّ نتنياهو من الوجيعة ذريعةً تُمكِّنه من البطش بالغزِّيين، ومن ترميم جبهته الداخلية. وإذ تبدَّى الآن أنه كان يسعى منذ البداية لإطالة الحرب، وأنه يُراهن على الانتخابات الأمريكية؛ فالخطر ليس فى مسافة الأسابيع الثلاثة عن موعد التصويت لساكن البيت الأبيض، بل فى الفاصل بين الاختيار والتنصيب. نحو ستة أسابيع سيكون بايدن «بطَّةً عرجاء» بأضعاف ما هو عليه، بينما بمَقدور تل أبيب أن تُفرِطَ فى تسييج الحدود بالنار حال فازت كامالا هاريس؛ لوَضعِها أمامَ استحقاقاتٍ يستحيلُ عليها التلاعُب بها أو تغييرها، أو أن تستحلِبَ كلَّ المزايا الموعودة مع ترامب؛ دون أن يحتملَ الرئيسُ الجديد كُلفَتَها السياسية والأخلاقية، أو أن يكون بمُستطاع خصومِه الديمقراطيين كَبحها والإفلات من تداعياتها. إنها الفترةُ الأخطر منذ الطوفان، وإن كان ثمّة تهديدٌ باندلاع حربٍ إقليمية شاملة؛ بافتراض أنها غير مُندَلِعَة، فسيكون فى المساحة الرمادية الناشئة عن الانتقال والانحدار فى سلسلة القيادة أيضًا.
وإزاءَ الوَهْم المتسلَّط على وعى الشيعيَّة المسلَّحة، يبدو خصومُها الصهاينة غير مُنشَغِلين بحروب الدعايات أصلاً. وضعَ عجوزُهم الماكرُ أهدافًا مُستحيلةً فى غزَّة؛ لإبقاء النار مُتأجِّجَةً دون محطَّةٍ للوصول أو الإطفاء، واعتبر بُلهاءُ النضالِ الانتحارىِّ ذلك دليلاً على انتصارهم، والنتيجة أنه يُحقِّقُ نجاحاتٍ على الأرض، ويكتفون بالشعارات والخُطَب الرنَّانة. هكذا تجرَّأ خالد مشعل فى ذكرى الطوفان أن يقول إنهم انتصروا، وأعادوا الاحتلال لنقطة الصفر، وأن إسرائيل ستزول، ومأساة القطاع مُجرَّد «خسائر تكتيكية» لحماس، وبالفجاجةِ ذاتِها دخل المُرشِدُ خامنئى على الخطِّ، مُستَخِّفًا بعقول أتباعه؛ اكتفاءً عن الهزائم الثقيلة المُتلاحقة بأنَّ هجمةَ غلاف غزَّة أعادت إسرائيل للوراء سبعة عقود كما يقول. وهذا لا ينمُّ عن جهالةٍ واضحة، ولا عن انعدامٍ للإنسانية والعقل فحسب؛ إنما يكشفُ عن تلبُّسٍ كاملٍ بالضلالات السارية بينهم على صيغة البلاغة العقيمة: «يخسرُ العدوُّ بعَدَم النصر، ونكسبُ بعَدَم الهزيمة». وإذ يتناسَبُ ذلك مع طبائع حروب العصابات؛ فإنه يتجاهلُ أنَّ حماس والحزب لا يُقدِّمان نفسيهما كعصابتين، فضلاً على أنهما مُحمّلان بمسؤولياتٍ سياسية وإدارية، من مُنطلَق احتكارهما لسُلطة الحُكم، وتنصيب نفسيهما بديلاً عن الدولة ومرافقها. وبهذا المنطق لا تُحسَبُ خسائرُهما بالمُقاتلين وقِطَع السلاح فقط؛ إنما بالبشر والحجر والمُقدَّرات المادية التى سُحِقَتْ تحت أحذية الاحتلال ومُجنزراته الثقيلة.
جانبٌ آخرُ من الوَهْم ينصرفُ لنطاق الوجود والفناء، وأنَّ التنظيمات الدينية المُسلَّحة فكرة، والأفكار لا تفنى ولا تُستحدَث من العدم، مثلما تقول الفيزياء فى الطاقة. والحقيقةُ أنَّ الإخوان والقاعدة وداعش كانت كلها أفكارًا اعتقاديَّةً وانطفأت، ولا يفيدها أن تظلَّ فى صدر مُؤمنٍ بها أو خزانة رشَّاشِه؛ فالفارقُ عريضٌ جدًّا فى الفناء بين الفكرة والوجود، بل وبين الوجود العاطفى والوجود المادىِّ الفاعل. لقد تضرَّرت حماس لعقودٍ مُقبلة، والحزبُ أيضًا؛ أمَّا المأساةُ فأنهما عرَّضا بيئتهما الاجتماعية وخزّانهما الداعم لانتكاساتٍ عصيّة على التشافى المُعجَّل، ناهيك عن أضرارها فى المدى الطويل. والحال أنَّ إسرائيل مُرتبكة لكنها مُتقدِّمة، ومُهدَّدة لكنها أكثر أمنًا من خصومها. وما خطَّطت لإنجازه فى عقودٍ؛ تيسَّر لها فى شهور أو أسابيع. أما المُمانعة فقد قدَّمت تجربة سيئة فى السياسة والإدارة، وكانت تُغفَر تحت الظل المقدس للسلاح، وبعدما انحلَّت سردية المقاومة عمليًّا ستجد نفسها أمام استحقاقات شعبية أُرجئت بالحرج، أو بالرعب والإذعان؛ وحال اللجوء لتفعيل فائض القوة المتداعية على جبهات الداخل؛ فسينتقل من مربع انحراف القيمة الشريفة، إلى جيز السقوط فى البلطجة الكاملة.
نتنياهو فاشل فاسد؛ لكنه يتلطّى وراء عداوة مع آخرين يفوقونه فى الخفِّة والإخفاق. وميليشيات المُمانعة بعدما عجزت عن الحكم؛ ها هى تخسر شرعيّة القتال ووجاهتها، وقدرتها على تأخير المساءلة وغفران الذنوب. وهكذا تتداعى فكرة الهيمنة والاستحقاق دون التزامات أو مسؤوليات سياسية وأخلاقية، وسيكون الحساب فى البيئة الشعبية اللصيقة أكبر مما كان فى الميدان. إنها مسألة تخصُّ الأجندات الفكرية العميقة أولا، ثم صوابية التحالفات واستقامتها، وقبل هذا تخصُّ الرؤية وانحدار سلسلة القيادة، وبينما يستند العدو إلى قوّة غاشمة وإسناد غربى لا يلين، فضلا على صفة الدولة فى مواجهة ميليشيات موصوم أغلبها بالإرهاب؛ فإنها قادر على عبور محنة الإدارة وترميم شقوقها، بينما لا تُبدى الفصائل والحركات شيعية الهوى نُزوعًا إلى المراجعة والتقويم إلى اليوم، وهذا أخطر ما يُهدِّدها بما يتجاوز ضغوط الواقع، ويفوق سطوة العدو وضرباته الموجعة.