تشبّ المنطقة بكاملها على أطراف الأصابع؛ استكشافًا لما تُخبّئه سحابةُ الضباب بين تل أبيب وطهران، وترقُّبًا لما ستسفر عنه مداولات الكواليس وتفاهماتها، بشأن الضربة الإسرائيلية المُرتقبة ردًّا على صواريخ إيران الباليستية. بدأت الأمورُ من قطاع غزّة قبل سنة؛ لكنه ما عاد مركزَ الصراع ولا أهمَّ قضاياه العالقة؛ بل انتقل لهامش الأحداث بفعل سياسات الطرفين، وما آلت إليه الأوضاع بعدوانيَّة أحدهما وعشوائيّة الآخر.. ومهما قِيل عن قدسيَّة القضية الفلسطينية؛ فإنها فى الواقع غيرُ مُقدَّسةٍ إلَّا لدى أصحابها الحقيقيين، وتلك الصفة لا تنطبق سوى على أهل الداخل، والمحيط اللصيق فى مصر والأردن، أمَّا البقيّة فإنهم يتعاطون معها بحسب الظروف، وفى سياق أجنداتٍ كبر منها، وحساباتٍ تبدأ وتنتهى عند تخوم الأيديولوجيا والمصالح العابرة.
كان "طوفان الأقصى" حربًا اختياريّة، على معنى أنَّ قراره اتُّخِذ فى فسحةٍ من الوقت والتدبير، وكان فيه هامشٌ للتقديم أو الإرجاء. ومنذ 7 أكتوبر أُغلقت دفاترُ المُفاضلة والانتقاء، وصار الجميعُ يتحرّكون فى دائرةٍ اضطراريّة مُغلقة. صحيحٌ أنَّ التنسيب الطبيعى للأحداث يبدأ حتمًا من نقطة الاحتلال وضغوطه، وانغلاق الأُفق السياسى مع ما ترتَّب عليه من استلابٍ وتغييب للحقوق؛ لكنَّ هذا العامل المُمتدَّ لعقودٍ لا يُبرِّر الميقات، وإنْ سوّغ فكرةَ المقاومةِ نفسها. وعليه؛ فربما أراد الحماسيَّون أن يَنفُذوا من ثغرة الأزمة الداخلية فى إسرائيل، أو ساءهم اتفاقُ التهدئة بين إيران والسعودية، وتقدُّمُ الوساطة الأمريكية مع الأخيرة نحو التطبيع، ويُحتمَلُ أيضًا أن يتَّصل الأمرُ بصفقة الممرِّ الهندى إلى أوروبا من قناة الخليج، واستشعار الفصائل أنه يمسُّ مركزيَّة قضيتهم لدى الوعى العربى، أو استنفار الحليف الشيعىِّ خوفًا من تأثيراته الاقتصادية والجيوسياسية على محوره. والخلاصة؛ أنَّ "السنوار" عندما أطلق الشرارة؛ لم يكُن مشغولاً بحقل القشِّ الجاهز للاشتعال فى غزّة، بقدر انخراطه فى مُعادلاتٍ إقليمية تتجاوز مصالحَه الوقتيَّة، وتَفوقُه فى الحجم والتوازنات.
تقاطُعات الطوفان من زاويةٍ "فوق فلسطينية" تمنحه صِفَةً إقليمية ظاهرة، بينما صدمةُ الحُلفاء المُمانعين وارتباكُهم المُبكِّر يكشفان عن مُفاجأةٍ من خارج الخطط المُعدَّة سلفًا. وهكذا أُضعِفَت "حماس" فى أشدِّ حالاتها قوّة، عندما نأت طهران بنفسها عن الهجمة وغسلت يديها منها، ثمّ تكرَّر الإضعافُ بانخراط حزب الله من الجبهة اللبنانية بعد تردُّدٍ، وإبقاء المسألة فى حيِّز المُناكفة الدعائية؛ لغَرَض تبييض السُّمعة والتهرُّب من تهمة خذلان الشريك. وخطأُ الانطلاقة أنَّ الجولةَ لم تنحصر فى المُنازعة الوطنية الصافية، ولا تمدَّدت بما يكفى لتكون صدامًا بين جبهتين أيديولوجيَّتين؛ بل رقصت بينهما لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ما سمحَ للعدوِّ بالانتفاع من دعايات الحرب المُصمَّمة عقائديًّا عبر حزامِ النار المُعادِى، دون سداد تكاليفها الكاملة، وأنْ يظلَّ فى الوقت نفسه قادرًا على الانفراد بالغزِّيين وإبادتهم، فى مُتَّسعٍ من الخيارات المُتاحة لفَرز الساحات وترتيبها، والتدرُّج بينها. أى أنَّ "نتنياهو" مُنِحَ سياقًا مِثاليًّا لتجزئة صراعه مع الشيعيَّة المُسلَّحة، بينما لم تستفِد الأخيرةُ من قوَّتها المُنتَدَبة ظاهرًا للميدان، والمُنتظِرَة عمليًّا لدورها فى الاستهداف والتصفية؛ على ما تُحدِّده ساعةُ الصهيونية.
ما دار فى ذهن قائد حماس غالبا أنه يقصُّ شريطَ الحرب الإقليمية. طبيعةُ القطاع المُؤطَّرة جُغرافيًّا، وامتدادات الحركة العابرة للحدود، وما يُعرَفُ من انحيازٍ غربىٍّ كاسح لإسرائيل، تقطعُ كلُّها بأنه لا حلولَ فى أيَّة مُواجهة واسعةٍ إلَّا من الخارج. والاحتكامُ لتلك المعادلة يصحُّ أنْ يُعزِّز الاحتدام، بقدر ما يُبشِّر بتسوياتٍ هادئة. لقد رُهِنَت العمليّةُ من بدايتها لاعتباراتٍ خارجية، وراهن سيِّد غزّة على فائض قوّة الحلفاء، وأن يتولّوا مهمَّة خلق التوازن مع العدوِّ بآلته العسكرية المُتفوِّقة، ثمَّ مع الظهير الأنجلوساكسونى المُواكب له بالتزاماتٍ عقائدية وسياسية لها بُعد ثقافى. وترسيم التحالفات على هذا المعنى؛ إنما يُسبغُ على الفصائل الفلسطينية السُّنيّة طابعًا إثنيًّا ومذهبيًّا لا يخصُّها، وينتدبُ القُوى المُهيمنة دوليًّا لمعركةٍ تتلبَّسُ سرديَّة الرجل الأبيض، وما تبقَّى من تنظيرات فوكوياما وهنتنجتون. بمعنى أنَّ المقاومةَ المشروعة تصيرُ مضادًّا للعولمة، وصورةً مقلوبةً عن الحروب الصليبية القديمة. والروايةُ بطبعِها فى خدمة الأقوى؛ أمَّا الضعيفُ فيخسرُ عندما يُغذِّى غُدَّة التوحُّش لدى الغريم.
والمشهد الراهن، أحببنا ذلك أم كرهناه، سارَ فى اتِّجاهٍ يتلاقى مع نزوات زعيم الليكود وائتلافه. ربما لم يتمكَّن من تحريف الوقائع فى غزّة، وساعدت استفاقةُ الضمير العالمية فى إبقاء القطاع آمنًا نسبيًّا من التضليل وسرقة الحقيقة؛ لكنَّ الدراما المُتقلِّبة شمالاً لم تلقَ قبولاً من المشاهدين، ناهيك عن الغضب والمُساندة ورفض الوحشية. لم ينطلِقْ الحزبُ من ذرائع منطقيَّةٍ بالمقياس الغربى؛ إذ من ناحيةٍ لا يبدو طرفًا مُباشرًا مع غزّة بالجغرافيا أو الهويّة الوطنية والحق القانونى، فضلاً على أنه أبرمَ قبل سنتين اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية، ما يعنى أنَّ النقاط البريّة العالقة تقبلُ التسويةَ السياسية، وهى مشبوكةٌ فى عُقدةٍ ثلاثية مع سوريا الرافضة للإقرار بلبنانيّة بعضها. والأهمّ أنَّ حرب 2006 أفضت لتهدئةٍ تحتكمُ لقرار مجلس الأمن رقم 1701، وينصُّ على جُملة أمورٍ أهمّها إنهاء المظاهر العدائية وإخلاء الجنوب من السلاح، باستثناء الجيش وقوات يونيفيل الدولية، وأخطرها الإشارة للقرار 1559 بنزع سلاح الميليشيات. وإذا كان الحزبُ لم يلتزم بنودَه لعقدين، فالاحتلال أيضًا ظل على انتهاكاته؛ لكنَّ الفارق أنَّ "نصر الله" وجَّه فائضَ قوَّته للداخل، وهيمن على الدولة غَصبًا، وأنه ذهب لميدان القتال خارج الإجماع الوطنى، بينما يأتيه العدوُّ محمولاً على موجةٍ عالية من الطوفان، ومدفوعًا بطَاقةِ الكُره والشرِّ الكامنة فى صدور الإسرائيليين جميعًا.
تتجمَّعُ الخيوط معًا لتكشفَ عن محنةٍ مُركَّبة. حماس فاجأت حلفاءها لوضعهم أمام أمرٍ واقع، وهُم من جانبهم بحثوا عن أفضل السُّبل للحضور والغياب معًا؛ فانتدبوا الحزب عن المحور على أمل إبقاء الاشتباك تحت الأسقُف الآمنة، ولمَّا عجزَ أُلحِقَ به الحُوثيِّون من أقصى الجنوب بعد أسابيع، فأنهوا كلَّ هامشٍ لدى إيران للنأى بالنفس، ومنحوا الحربَ صِفَةً دولية فوق إقليمية، تشتبكُ مع مصالح العالم بأكمله. وهكذا؛ كانت الهدايا المجَّانية تتدفقُ على نتنياهو؛ بينما يتوهَّم المُمانعون أنهم خطَّطوا مواجهةً محدودةَ الكُلفة وعالية الأثر. وعندما انتقل ذئبُ الصهيونية للتحرُّش المُعلَن بالجمهورية الإسلامية فى معاقلها السورية، لم يكُن يُوجِّه رسائلَ للأطراف من طريق المركز؛ بل يختصمُ الرأسَ كمُقدِّمةٍ لاستدعائه بالأصالة، وهذا ما لم يستوعِبْه المُرشدُ وحلقته العسكرية الثورية، فانطلَتْ عليهم خدعةُ صناديق البريد الوهميَّةح إلى أن وجدوا "هنيّة" صريعًا فى قلب طهران، ثمَّ فُتِحَتْ النارُ على الحزب من كل الجهات، ظاهرها إعادة تركيب المشهد السياسى والعسكرى فى لبنان، وباطنُها تمرير خطّة إبادته بإقرارٍ إيرانى، أو لا يصيرُ لدى الأخيرة بديلٌ عن التقاط عدّة الحرب والانخراط فى أجواء القتال.
ضربةُ القُنصليّة الإيرانية فى دمشق مطلع أبريل كانت الطُّعم، والتعقيب الباهت للغاية على "ليلة الصواريخ والمُسيَّرات" بعدها بأسبوعين أكملَ المهمَّة. بدا وقتها أن واشنطن نجحت فى ترويض تل أبيب، وارتضى نتنياهو أن ينحصر رَدُّه على مهرجان الألعاب النارية فى صاروخين يُحيِّدان بطّاريةَ دفاعٍ جوىٍّ تُؤمِّنُ إحدى المنشآت النووية. أمَّا المًضمَر؛ فأنه كان يُلوِّح للغريم الأساسى بخِفَّة المواجهة ومأمونيَّتها، وإن كان يقول ضِمنًا إنه قادرٌ على الوصول والإيذاء العميق، ليترُك لهم أن يفهموا جانب الرسالة الذى يُرضيهم، ويتعاطَوا معه كيفما يُحبّون. والحال أنّه ما كان لينتقل من غزَّة إلى لبنان؛ إلَّا لو اطمأنَّ لتقويض حماس، وأنها لم تعُد خطرًا حقيقيًّا. وبعيدًا من مناوشاتٍ أخيرة تُحمَلُ على "حلاوة الروح" بأكثر مِمَّا تُعبِّر عن الفاعلية؛ فقد استوعبَتْ قيادةُ المحور أنها خسرت أحد أطرافها، وأن الحوثيِّين إن كانوا آمنين نسبيًّا فإنهم يظلّون هدفًا قليل التأثير وسهل الاصطياد، بينما لا تسمحُ توازنات المشهد العراقى بتفعيل قوّته الشيعية الضاربة، وينأى "الأسد" بنفسِه عن الجولة من بدايتها، مع شكوكٍ عميقة فى أنه يتسلَّى بالخسائر الإيرانية؛ إن لم يكُن شريكًا فيها. هكذا لا يبقى سوى الحزب؛ ولِذا تتضاعفُ قيمتُه: إنه دُرّة التاج فى مشروع الدفاع المُتقدِّم وأجندة تصدير الثورة، وأن يقفَ بمُفرده فمعناه أنها مسألة وقتٍ قبل شَطبه والانتقال إلى المركز رأسًا. من هُنا لا يُمكن النظر لاغتيال أمينه العام إلَّا على صورة الدعوة الصريحة للرقص، أى لم يعُد لدى طهران خيارٌ إلا الهروب من الحرب؛ لكن يتعيَّن أن يكون انسحابًا مُسيَّجًا بالنار؛ كى لا يغرى نتنياهو بالمُلاحَقَة. وإذا كان التنفيذُ قد بدأ مطلع أكتوبر، بإطلاق نحو مائتى صاروخٍ على العُمق الإسرائيلىِّ، قيل إن كلها أو بعضها "فرط صوتية"، أو أنها لم تكُن مُحمَّلةً جميعًا برؤوسٍ شديدة التفجير؛ فإنَّ الرمزية والاستعراض يكفيان لإدارة مُحرِّكات اليمين الصهيونىِّ ونقلِه للمرحلة التالية. الذاكرةُ تستدعى وُجوبًا ما فعله "صدَّام" أوائل التسعينيَّات، وعقيدة "الجدار الحديدى" ستحكمُ تقييم الجولة؛ حتى لو كانت الحربُ قد تجاوزت ثوابتَها القديمة، عن الردع الاستباقى والمعارك الخاطفة والقتال على أراضى الآخرين. أمَّا واشنطن فإنها الطرفُ الأضعف فى المُعادلة، عكس ما يظنُّ الناظرون من الخارج. "بايدن" محكومٌ بصهيونيَّته، ومُكَبَّلٌ بمصالح حزبه الانتخابية، وكلَّما فرَّط لتل أبيب يُغذِّى غضبةَ طهران، وكلَّما تشدَّد مع الثانية يُحفِّز جرأةَ الأُولى، وعليه أن يرقُصَ على حبلهما المشدود؛ ساعيًا لتمرير الوقت فى جولاتٍ مُتبادَلة محدودة، على أمل الرحيل قبل الانفجار.
إسرائيل تُحارب فى عدَّة جبهاتٍ فعلاً؛ لا على تعداد نتنياهو من غزة إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران نفسها، إذ كلُّها جبهةٌ واحدةٌ يُؤخَذُ قرارُها الأخير على مكتب خامنئى؛ إنما القصدُ فى الجانب السياسىِّ المُتخفِّى وراء العسكرية. يشنُّ أوّلاً هجومًا كاسحًا على التسوية الهادئة تحت راية "حلِّ الدولتين"؛ فيما يُمارسه من تأطيرٍ للقضية فى "حماس" واستهدافٍ غشوم لمُنظَّمة التحرير والسلطة الوطنية، كما يختصمُ محورَ الاعتدال بإفساد مُقاربات الهُدنة، وإبقاء القطاع مُشتعلاً دون أُفقٍ لليوم التالى، ويُحارب البيئة الأُمَميَّة أيضًا من زوايا عِدّة: وزير خارجيته يُعلن الأمين العام للأُمَم المُتّحدة شخصًا غير مرغوب فيه، وبرلمانه يُشرِّعُ قانونًا لمُصادرة مقرّ وكالة "أونروا" فى القدس، وجيشُه يُصوِّب على قوات يونيفيل جنوبىّ لبنان، فيُدمِّر أُصولاً ويُسقِطُ جرحى؛ وإن كان فى ذلك مَزيجٌ من الخشونة والنعومة؛ فكُلّها تُعبِّر عن حروبٍ سياسية تُشَنُّ على الهامش الحربىّ؛ لكنها أعمقُ منه فى المعنى وأخطر فى مراميها؛ إذ تتجاوزُ فكرةَ "جَزّ العشب" وتطويع العدوّ، أو ترسيم حدوده داخل فلسطين وخارجها، إلى مُحاولة تشكيل السردية القانونية والأخلاقية على نمطٍ مُغاير، ستدفعُ القضيَّةُ فيه أضعافَ ما دفعته بمُغامرة حماس، ومُقامرات إيران ومحورها.
لعلَّها مُفارقةٌ تُثير السخرية والأسى معًا؛ إذ تتأسَّسُ شرعيّة إسرائيل على القرار 181؛ بينما لم تعُد السلطةُ المُنشئةُ له محلَّ ترحيبها. أمَّا مسألةُ التهجير فقد نجح نتنياهو فى حصرها بالداخل، بينما يشتغلُ من مستوى ثانٍ على تهجير القضيّة نفسها خارج نطاقها القانونى القديم. خطورةُ ما يحدث مع "أونروا" أنها الجدارُ الأخير لحقِّ العودة، أكان للاجئى الماضى أو مَنْ تضطرُّه أيّة ظروف مُقبلة للخروج، بينما القوات الدولية فى لبنان تتخطَّى رعايةَ القرار الساقط منذ إقراره؛ لتمنعَ فِكرةَ تجديد الاحتلال على أىِّ شبرٍ وراء الخط الأزرق، ومُطالبتها بالتزحزُح 5 كيلومترات تشى برغبةٍ فى البقاء، قد تتبعُها إزاحاتٌ تالية لحدود الليطانى، وبعض مناطقها تتجاوز عشرات الكيلوات. هكذا يثبُت الغزِّيون على أرضهم؛ لكنَّ القضيّة ترتحلُ، وينزحُ المسؤولون عن رعاية شِقَّيهما الأخلاقى والأمنى من تمركُزاتهم، ويُوطِّدُ نتنياهو معالمَ مرحلةٍ لن يكون عليه فيها أىُّ قيدٍ من قوَّةٍ أو ضمير، بمعنى أنه لا يتوقَّفُ عند مُخرجات الجولة الراهنة؛ إنما يتَّخذُها تكئةً لتخطيط الجولات المُقبلة.
سيرُدّ بالضرورة على الباليستىِّ الإيرانى؛ لا لأنه يسعى لتثبيت الردع فحسب، بل لرغبته فى أن يتلقَّى تعقيبًا ينقلُه للأمام. صحيح أنه أطالَ الصمتَ على غير عادته؛ لكنه هامشُ التحضير لسيناريوهاتٍ قد يكون بعضُها صاخبًا. انتهت تَقدِمَةُ الضربة بتهديد المُنشآت النووية والمرافق النفطية، وعلى الأرجح سيستبعِدُها فى النسخة النهائية. كلُّ ما أراده من الإحماء الخطابىِّ أن يحصلُ على بصمة بايدن فوق القرار؛ لهذا ألغى زيارة وزير دفاعه لواشنطن، مُشترطًا أن يسبقها اتصالٌ بالبيت الأبيض، وبعد المُكالمة صار بإمكانه تسويق أى ردٍّ على جناح التوافق. وإن كان سيزهَدُ الذهاب لكَسر العظم فى ضربته؛ فالمُرجَّح أيضًا أنه لن يُبقيها تحت سقفٍ يسمحُ لإيران بابتلاعها. ربما يُمرِّرُ ثلاثةَ أسابيعٍ مُتبقيَّة على الانتخابات الأمريكية بين كرٍّ وفَرّ، وبعد حسم النتيجة سيكون أمام خيارين: إجبار الديمقراطيين على افتتاح ولايتهم بصدامٍ كاسح حال فازت "كامالا"، على أن يتحمَّل كُلفَتَه سلفها العجوز ويذهب بها لمزبلة التاريخ، أو أن يرتقى "ترامب" فلا تعود تل أبيب فى حاجةٍ لاستباق الوقائع، ولا أن تنوب عن حليفها فى فتنته بالقرارات الصاخبة.
سترُدُّ إسرائيل حتمًا، فى غضون ساعات أو أيام، أو ربما خلال الهامش الزمنىِّ بين كتابة المقال ونشره؛ لكن يصعُب التنبّؤ بما بعد ذلك؛ لأنه يتأسَّسُ على حجم العملية المُقرَّرة، ومداها الجغرافى والنيرانى، وبنك الأهداف وطبيعته؛ فضلاً على المُتغيِّر الأَهمّ، أى استقبال طهران للرسالة وانفعالها بها، وحدود التوازنات بين صورتين مختلفتين للنظام: المُحافظين بذهنيَّة الحَرَس الانغلاقية، ونُسختِهم المُحسَّنة جزئيًّا فى صورة الرئيس الإصلاحىِّ شكلاً والخُمينىِّ جوهرًا. وفى كل الأحوال؛ لن يتحدَّد مُستقبل المُواجهة بين الأُصوليِّتين الصهيونية والشيعية، ولا مستقبل المشروع النووى وطموحات إسرائيل لترسيم الإقليم على هواها، فى الجولة المُرتقَبَة، ولا ما بعدها من صمتٍ أو رَدٍّ على الردّ.
الخُلاصة أنَّ غزّة، بكل ما فيها من مآسٍ، وما دار على أرضها من نكبةٍ وإباداتٍ؛ ما كانت إلَّا شرارة افتتاحيّة للصِّدَام المُرجَأ بين مشروعين لهما ظاهرٌ مُتضادّ وباطن يكاد يتطابق، فيسعى أحدهما لتصدير الثورة الإسلاميّة على صِفَة فارسية صَفَويّة إخمينيّة، ويُمَنِّى الآخرُ نفسَه بصَبغ الإقليم بالأزرق سياسيًّا واقتصاديًّا؛ إن لم يكن حربًا بالحديد والنار. وما بادر به "السنوار" قبل سنة، يبدو أنه كان مُخطَّطًا من حلفائه لوقتٍ آخر، وإن تأخَّر ما كان "نتنياهو" أو أىُّ بديلٍ عنه ليتباطَأ فى استدعائه. وبعدما أنجزَتْ غزّة دورَها المطلوب؛ ستَلعَقُ جراحَها لعقودٍ مُقبلة، ولن يسمحَ لها العدوُّ المُحتلّ بما كان فى السابق، كما لن يُعوِّضها الصديقُ المٌمانِع عمَّا أنفقَتْه من دمِها لخدمة المشروع وتوسعة "بيكار" معزوفته الصاخبة. وزيرُ الخارجية الإيرانىُّ تشدَّد فى بيروت؛ ثمَّ ألمح بعج مُغادرتها لِمَا يُشبه القَبول بفصل القطاع عن لبنان، وهذا ما وردَ ضِمنًا فى خطبة نعيم قاسم، آخر الباقين من قادة نصر الله، وفى مداولات نبيه برّى المُفوَّض من الحزب لاتخاذ القرارات؛ باستثناء حلحلة الوضع السياسى وانتخاب الرئيس. أى أنَّ لبنان دُفِعَ للحرب لأجل غزّة، وتُفكِّرُ المُمانَعة اليومَ فى العودة بعدما عمَّقت محنتَها، وأضرّتها أضعاف ما أفادتها. الردُّ والردُّ عليه وكل ما يتبعهما ستكون غايتُه إنقاذَ رأس المحور فحسب، وإنْ تبقَّت طاقةٌ فللحزب؛ أمَّا القطاع فقد بدأ من الخذلان ويعود إليه، بينما يعجزُ عن تفكيك نكبته؛ لأنّ "السنوار" لم يفصل نفسَه بعد عمّن تاجروا بهما. مأساةٌ إنسانيّة كاملة؛ وأفدح ما فيها أنهم يقولون عكس ما يفعلون. ويَبدون؛ بأثر الخِفّة والشعبوية والارتباك، كما لو أنهم يُصوِّبون على أنفسهم، ويلعبون فى فريق المخبول بنيامين نتنياهو.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة