ربما كانت احتجاجات الفنانين المصريين على موافقة مجلس الشعب على القانون 103 بتعديل جوهري على القانون 35 لسنة 1978 (الساري حتى الآن للأسف) هي المناسبة التي رأيت فيها يوسف شاهين واقتربت منه بعد حكاية بونابرت وهي حكاية لابد أن تروي كما عاصرتها وكثير من زملائي الأحياء والذين فقدناهم مع الزمن..
حكاية عندما يتم استعادتها بكل تفاصيلها في وقت آخر سوف تكون قادرة على مساعدة أجيال شابه على فهم الزمن الذي عشناه وكيف كان مفهوم الفن والحرية والديمقراطية جامعاً لأول مرة لكل فناني مصر والمثقفين فيها بدرجة غير مسبوقة: السيد رئيس الجمهورية السيد رئيس مجلس الشعب السيد رئيس الوزراء السيد وزير الثقافة أصدر مجلس الشعب بشكل متعجل تعديلات جوهرية للقانون 35 لسنة 1978 المنظم للنقابات المهنية الفنية والاتحادات التابعة لها بناءا على اقتراح من عضوين من أعضاء مجلس الشعب ودون الرجوع إلى أعضاء النقابات الثلاثة أصحاب المصلحة الحقيقية في التشريع بالرغم من أن القانون 35 لسنة 1978 لم يصدر من مجلس الشعب إلا بعد عقد جلسة استماع بالمجلس حضرها لفيف كبير من أعضاء النقابات وقد أجهضت التعديلات المذكورة كافة القواعد الديمقراطية التي بني عليها القانون 35 لسنة 1978 نرجو التفضل بالعمل على تجميد التعديلات حتى يبدي الفنانون رأيهم فيها في جلسة استماع بمجلس الشعب وفي الجمعيات العمومية المختصة.
ونود الإشارة إلى أن صدور هذه التعديلات جاء في نفس اللحظة التي تستعد فيها الجمعيات العمومية في النقابات الثلاثة لممارسة حقها الانتخابي وبقصد تعطيل هذا الحق، وباختصار أيضا كانت فحوى التعديل تتعلق بنقطتين رئيسيتين الأولى هي إطلاق فترات الرئاسة للنقابات لمددغير محددة بعد أن كان القانون الأصلي يحصرها في مدتين كحد أقصى وكانت دلالة أن تكون الفنانة فايدة كامل هي إحدى الشخصيتان اللتان قدمتا المشروع واضحة تماما بحماسها اللامحدود لتولي الرئيس مبارك منصبه طوال العمر !!! وكانت فكرة البدء بتغيير قوانين النقابات هي الخطوة الأولى من أجل تغيير الدستور لتحقيق فكرة المنتفعين باستمرار مبارك في الرئاسة (وهو ما حدث فعلا وتم لاحقا).
أما البند الثاني فكان حرمان أصحاب شركات الإنتاج من عضوية مجالس الإدارات ومن الترشح لمنصب النقيب بدعوة أن مصالحهم تتعارض مع جموع الفنانين وهكذا تمت المساواة بين الشركات الكبرى ذات الميزانيات الضخمة ولم تكن تزيد عن ثلاثة شركات وبين الشركات الفردية الصغيرة كما لم تعتبر الموظفين الكبار في مؤسسات الدولة مثل التلفزيون جهات إنتاج تملك أكبر تاثير على جموع الفنانين وعلى اتجاه التصويت في أي إنتخابات (وهو ما استفاد منه فيما بعد الآساد ممدوح الليثي كرئيس لقطاع الانتاج)…الموضوع يستحق أن تفرد له مجلدات لاستخلاص الدروس من هذه الملحمة الكبرى التي شارك فيها كل الفنانين المصريين بروح أعتقد أننا فقدناها إلى الأبد ….المهم ….تم رفض مطالبنا وتجاهلها تماما مما أدى إلى تجمع عدد من الفنانين لمحاولة وقف هذه المهزلة واحترام إرادتهم رغم تقدير معظمهم لأشخاص النقباء مثل سعد الدين وهبة وحمدي غيث …كان قرار عقد اجتماع أولى يدعى إليه الفنانين يصطدم بالبحث عن مكان قادر على استضافتنا دون شروط موافقة الحكومة.
فكانت فكرة أن (سينما كريم )التي كان يمتلكها في هذا الوقت يوسف شاهين هي أنسب هذه الأماكن للإجتماع الأول وتم اختيار وفد مصغر لعرض الأمر على جو ..كنت وقتها مساعداً للإخراج لم أنجز سوى عدد قليل من الأفلام التسجيلية والقصيرة وبرغم ذلك كنت مشاركاً في هذا الوفد الصغير الذي أذكر منه الكبيرة تحية كاريوكا وأستاذ المونتاج أحمد متولي والفنان أحمد الحريري …ذهبنا دون موعد سابق لكن الاستاذ قابلنا بود وترحيب ولما شرحنا له هدف الزيارة بدأ الحديث عن وقوف سعد وهبة معه في كثير من المواقف ومنها مشاكل الضرائب وغيرها ولما أوضحنا له أن الموضوع لا علاقة له بشخص سعد الدين وهبة وإنما يتجاوز ذلك إلى ازدراء رأي أصحاب الشأن في أمور تخص مستقبلهم المهني وهنا استأذن الأستاذ يوسف في دقائق للحديث في التليفون داخل المكتب وطالب البوفيه بتقديم الشاي لنا.
استمر انتظارنا لجو حوالي ساعة كاملة ولما سألت تحية كاريوكا عامل البوفيه: فين يا ابني الأستاذ؟ أجابها بانه اضطرّ إلى المغادرة منذ ساعة ..غضبت تحيه بشدة وأفلت لسانها رغم محاولاتنا لإيقافها وهنا اقترح أحمد الحريري أن نذهب لجلال الشرقاوي ربما يعطينا مسرحه في شارع رمسيس ورغم دهشتي الشديدة من الاقتراح (إذا لم يعرف عن جلال الشرقاوي أي موقف من هذا النوع على الأقل) فقد وافقت تحية كاريوكا وذهبنا في سيارة الحريري إلى مسرح جلال الشرقاوي الذي أكمل مفاجآتنا بالموافقة فوراً ودون أي تردد على عقد أول اجتماع بمسرحه.
اختفى يوسف شاهين بعد هذا اللقاء وعرفنا أنه غادر إلى فرنسا ربما لتجهيز فيلمه القادم فقد كان صديقا لفريتز لانج وزير الثقافة وربما صديقا لرئيس الجمهورية نفسه فرانسوا ميتران ….!! تطورت الأحداث وتم عقد كثير من الاجتماعات بنقابة المحامين والصحفيين وغيرها دون أي جدوى أو تراجع فكان التفكير في تنفيذ اعتصام بمقر نقابة السينمائيين … كانت الخطة التي وضعناها بسيطة أن يحضر الأعضاء الذين تم اختيارهم إلى مقر نقابة بشكل اعتيادي ودون حقائب حتى يجتمع أكثر عدد ممكن من الشخصيات المهمة وعدد آخر من الصحفيين وعندها نعلن عن الاعتصام السلمي وعن أهدافه ومرة أخرى وقع الاختيار على الحريري وعلي شخصيا لإقناع تحية كاريوكا بمسألة الاعتصام لكون اسمها وحده كفيل بضجه إعلامية تفيد الإعتصام.
ذهبنا إلى شقة متواضعة (أذكر أنها في حي الدقي أو العجوزة)…. خرجت إلينا تحية بملابس النوم وعندما بدأت شرح ضرورة الاعتصام أشارت إلي بالصمت وتوجهت إلى مساعدتها بصوت حازم :حضري الشنطة يا…. والدوا..بسرعة …..وخلال دقائق خرجت إلينا تسبق المساعدة حاملة الشنطة وهي تقول: يلا بينا ..معاكم عربية ولا حناخد تاكسي.. ذهبنا بسيارة أحمد الحريري وعندما وصلنا كان قد سبقنا عدد من الأصدقاء أذكر منهم علي بدرخان وبشير الديك وأحمد متولي ومحمد مصطفى وقدخبأوا حقائبهم الصغيرة تحت الكراسي وبعد 1\2 ساعة أعلن علي بدخان الاعتصام لعدد من الصحفيين والكاميرات وكان الهدف الوحيد المعلن هو تأجيل الانتخابات المزمعة وعدم صدور القانون الذي لم يؤخذ فيه رأيي العاملين به أما علاقة يوسف شاهين بكل هذا فسيكون في المقال القادم.!!