"الجار المضطهد" شعار رفعته إسرائيل منذ نشأتها في الأربعينيات من القرن الماضي، في إدارة علاقاتها مع دول الجوار، حتى تخلق لنفسها الذريعة للإبقاء على حالة الحرب، حتى مع تغير الظروف الإقليمية، والدخول في معاهدات سلام مع عدد من دول المنطقة خلال العديد من المراحل، أبقت الحكومات العبرية المتعاقبة على شعارها، باعتبارها الدولة المستهدفة من كل جيرانها، عبر الترويج له، في كافة المحافل الدولية، ليضفي غطاءً من الشرعية على الانتهاكات التي طالما ارتكبتها في الأراضي المحتلة، تحت إطار الدفاع الشرعي عن النفس، كما هو الحال، فيما يتعلق بالعدوان على غزة، والممتد منذ عام كامل، أو الدفاع الاستباقي، وهو ما يمكن أن ينطبق على حالة العدوان على لبنان، إذا ما وضعنا في الاعتبار حقيقة أن حزب الله لم يقم بأي دور في عملية طوفان الأقصى أو ما تلاها من هجمات خلال مختلف مراحل العدوان على غزة.
ولعل الذرائع الإسرائيلية، القائمة على فكرة الدفاع عن نفسها، سواء في أعقاب هجوم تعرضت له، أو بصورته الاستباقية، ليس جديدا على الإطلاق، إلا أن الأمر الجديد يتجسد في قيام حكومة بنيامين نتنياهو باستخدامهما معا في حرب واحدة، جراء تعدد جبهات القتال، التي يسعى الاحتلال إلى فتحها، وهو ما يهدف في الأساس إلى تعزيز الشعار، الذي يعد أحد أهم الأسس التي بنيت عليها الدولة العبرية، فتصدر لنفسها صورة الكيان الذي يحاربه الجميع، وتستهدفه سهام الدمار، من فلسطين، ولبنان، مرورا باليمن والعراق، سوريا، وحتى إيران.
وبالنظر إلى توقيت التصعيد الإسرائيلي ليتجاوز قطاع غزة، نحو جبهات أخرى متعددة، نجد أن ثمة عنصرا مهما افتقدته حكومة نتنياهو، ربما كان دافعا لتوسيع نطاق الحرب، وهو التعاطف الدولي، والذي بدا واضحا في اللحظة الأولى من العدوان على غزة، حيث أكدت الولايات المتحدة، والقوى الكبرى في الغرب الأوروبي، حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، بينما تراجعت تلك الحالة تدريجيا، مع فشل جيش الاحتلال تحقيق أيا من أهدافه، وعلى رأسها تحرير الرهائن، والقضاء على الفصائل، حتى وصلت الأمور إلى حد غير مسبوق، لا يقتصر على إطلاق سهام الإدانة من العديد من دول العالم، وفي القلب منهم بعض الدول المحسوبة على المعسكر الغربي الموالي لها، للسلوك المتهور الذي يتبناه الاحتلال، والانتهاكات الكبيرة التي ترتكبها، وإنما امتدت إلى الملاحقة القضائية تارة، والاعتراف بالدولة الفلسطينية تارة أخرى، بل وتقديم الدعم لحصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة تارة ثالثة، وهو ما أثار حفيظة نتنياهو وحكومته، ودفعه نحو فتح جبهات جديدة للحرب.
ويعد خطاب المسؤولين الإسرائيليين، وعلى رأسهم نتنياهو، خلال الأشهر الماضية، ترويجا لفكرة المحارب الوحيد لـ"قوى الشر"، على حد وصفه، بينما يتخلى عنه العالم، في معركته، في انعكاس صريح للحالة التي آلت إليها مكانة إسرائيل الدولية، والتي شهدت تراجعا كبيرا، وربما غير مسبوق منذ نشأتها، وهو ما يمثل محاولة لاستعطاف القطاعات الموالية للدولة العبرية في الشارع للضغط على حكوماتهم، وهو ما تجلى في أبهى صوره في الخطاب الذي ألقاه في الكونجرس، وما حمله من إيماءات سياسية، يمكن قراءتها، في إطار توقيته، والذي يتزامن مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، ومحاولاته الصريحة للاستقواء بالحزب الجمهوري، ومرشحه دونالد ترامب، في ظل أسهمه الكبيرة، واحتمالات انتصاره في المعترك الرئاسي في مواجهة نائبة الرئيس الحالية كامالا هاريس.
استقطاب المعارضة في دول الحلفاء، دفعت الدولة العبرية إلى الترويج لشعار مكمل لشعارها الأول، وهو "الحليف المكروه"، وهو ما يبدو في إطار ما تسببت فيه الانتهاكات الإسرائيلية من حرج لحلفائها في مختلف المحافل الدولية، بينما لا يمكنهم التخلي عنها بالكامل، في ضوء ما تفرضه ثوابت الدبلوماسية، سواء في أمريكا أو الغرب الأوروبي، وهو الأمر الذي دفع نتنياهو إلى توسيع نطاق الاستعداء مع حكوماتهم، عبر تجاهل النداءات التي يطلقونها، بل وتهديد مصالحهم في المنطقة، عبر توسيع نطاق المعركة في لبنان، والتي تمثل أحد أهم مناطق نفوذ فرنسا، وكذلك اليمن، في ضوء ما تمثله ميليشياتها من تهديد للتجارة الدولية، وما قد يترتب على ذلك من تداعيات كبيرة على الاقتصاد العالمي، تضع المزيد من الضغوط على الأنظمة الحاكمة في الدول الحليفة، والتي تعاني أساسا جراء النتائج التي ترتبت على الصراع في أوكرانيا واستمراره لأكثر من عامين ونصف العام.
وهنا يمكننا القول بأنه في الوقت الذي تسعى فيه إسرائيل إلى خلق حرب إقليمية شاملة، عبر تنويع جبهات القتال في الشرق الأوسط، فإنها تخوض معركة أخرى، تسعى من خلالها استهداف حلفائها، أو بالأحرى الأنظمة الحاكمة لديها، من أجل إثارة الانقسامات، وهو ما بدا بشكل مباشر في مشهد خطاب الكونجرس، بينما يحاول نتنياهو استنساخه في دول الغرب الأوروبي، بصورة غير مباشرة، عبر تهديد مصالحهم، في المنطقة، وما قد يترتب على ذلك من تداعيات كبيرة، تحمل تأثير مباشر على الداخل لديهم.