تبدو الحالة الديمقراطية، في العديد من دول العالم، مرتبكة، في ضوء العديد من المتغيرات، ربما أبرزها ارتباط المفهوم بأوضاع سياسية واقتصادية معينة، تحمل قدرا من الاستقرار، تسمح بالالتزام بمعايير تداول السلطة، وتعددية الرؤى الأيديولوجية، وتنافسيتها، وهو ما يبدو في التراجع الذي تشهده، القوى الكبرى، التي أرست المفهوم، وبشرت به، ودافعت عنه، بل وحاربت من أجله، وهو ما يمكن استلهامه بوضوح في الولايات المتحدة، والتي تحولت المناسبات الانتخابية بها إلى حروب تكسير عظام، والمشهد الفرنسي الذي غاب عنه التوافق، في أعقاب فوز اليسار في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والتي جاءت مبكرة بناءً على دعوة من الرئيس إيمانويل ماكرون، في محاولة لاحتواء اليمين المتصاعد، ليتفاجأ بصعود غير متوقع لليسار.
والحديث عن الديمقراطية العالمية، وتقييم حالتها الراهنة، فقد سبق وأن تناولته في مقالات سابقة، إلا أن المفهوم ربما يبقى بحاجة إلى إعادة نظر في اللحظة الراهنة، في ضوء حالة عدم الاستقرار الدولي، جراء الحرب المستعرة في الشرق الأوسط، والتي تخوضها إسرائيل، والتي طالما أشاد بها الغرب كنموذج للديمقراطية في المنطقة، بل ودعوا في الكثير من الأحيان إلى تعميمه، وهو التقييم الذي افتقد أي قدر من المصداقية، ويعد امتدادا للانحياز الصارخ لدولة احتلال، تعتمد نظاما عنصريا، لا يختلف كثيرا عن أسوأ النماذج التي نالت انتقادات لاذعة طيلة التاريخ الحديث، وهو ما يعكس هشاشة المفهوم إلى حد تطويعه، بالشكل الذي يروق للقوى الحاكمة في العالم.
وبعيدا عن الانحياز الصارخ لإسرائيل، والذي بدا في العديد من المشاهد الدولية، يمكننا تقييم الحالة الديمقراطية في الدولة العبرية، خلال عام كامل، أبدى فيه الشارع الداخلي، مرات ومرات، عن رغبته العارمة في التوصل إلى وقف إطلاق النار، والتوقف عن الحرب، لتحرير الرهائن، بل وطالب قطاع آخر بإجراء انتخابات مبكرة، إلا أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو رفض مطالب الشارع، بحماية التحالف الحكومي الذي شكله، ويحظى بأغلبية نسبية في الكنيست، تحت ذريعة الحرب، رغم أنه الوحيد المستفيد من تلك الحالة، باعتبارها الضامن الوحيد لبقائه في السلطة، بل ويسعى إلى تأجيجها وتوسيع نطاقها الجغرافي وإطالة أمدها.
إلا أن مفهوم الديمقراطية، في المشهد الإسرائيلي، بات متجاوزا الداخل، نحو النطاق الدولي للمفهوم، حيث تبدو العديد من التساؤلات المرتبطة به، فيما يتعلق بمعالجة القضايا ذات الطبيعة العالمية، ومنها القضية الفلسطينية، حيث تبقى الأغلبية الساحقة من دول العالم مؤيدة لوقف إطلاق النار، من جانب، وللشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين من جانب آخر، بالإضافة إلى حصول فلسطين على العضوية الكاملة بالأمم المتحدة من جانب ثالث، بينما لا تتحقق كل هذه المطالب، بسبب افتقاد البعد الدولي للديمقراطية، والتي ارتكزت لعقود طويلة من الزمن على تعميم المفهوم داخل الدول، في إطار عالمي، بعيدا عن التطبيق في النطاق الدولي، في إطار حسم القضايا الدولية الكبرى، وهو الأمر الذي يعيق المنظومة الأممية عن تحقيق أهدافها، وهو ما فتح الباب أمام إسرائيل لمواصلة تعنتها.
ولعل المشهد الأممي البعيد عن الديمقراطية، ليس بالجديد تماما، في ضوء مسارين، أولهما إمكانية تقويض مبدأ الأغلبية عبر حزمة من الدول لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، لامتلاكهم حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي، والذي من شأنه إفساد شرعية أية قرارات لا تروق لهم، وهو ما بدا في العدوان الحالي على قطاع غزة، عندما استخدمت الولايات المتحدة هذا الحق في منع تمرير قرارات لوقف إطلاق النار مرتين، بينما استخدمته في مرة أخرى لحرمان فلسطين من العضوية الكاملة بالأمم المتحدة، رغم موافقة أغلبية ساحقة من دول العالم على هذه القرارات، بينما يقوم المسار الآخر، على تحول القوى الدولية الكبرى نحو استبدال الشرعية الأممية بعقد التحالفات، حتى وإن كانت رمزية، لإضفاء الشرعية على قراراتها حتى وإن لم تحظى بمباركة أممية، وهو ما يبدو في نموذج الحرب على العراق في 2003، والتي فشلت فيها واشنطن في الحصول على موافقة مجلس الأمن.
المواقف الإسرائيلية المناوئة للديمقراطية لم تقتصر على داخل الدولة العبرية، أو الطابع الدولي للمفهوم، وإنما امتدت إلى تخريب ما أرسته واشنطن منذ بزوغ نجمها على الساحة الدولية في الأربعينات من القرن الماضي، عبر سياسة الاستقواء بالمعارضة، داخل الدول الحليفة لها، في ضوء ما يراه نتنياهو تقاعسا في تقديم الدعم الدولي لحكومته، عبر تأليب الشارع على الإدارات الحاكمة، مستخدما الدوائر الموالية له، وهو ما يبدو في خطاب رئيس وزراء الاحتلال أمام الكونجرس، والذي أظهر انقساما غير مسبوق في الساحة السياسية الأمريكية.
وتحرك نتنياهو لتأليب الرأي العام وإثارة الانقسام في الداخل الأمريكي قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في الشهر المقبل، إنما تمثل محاولة غير مباشرة في الحشد لصالح تيار ضد آخر، يمثل في جوهره محاولة لهدم أحد ثوابت السياسة في الولايات المتحدة، والقائمة في الأساس على عدم التدخل الخارجي في التأثير على الناخبين على الداخل، وهو ما يمثل أحد نقاط الصراع الأمريكي مع روسيا، في ضوء الاتهامات المتواترة لموسكو في التدخل في الانتخابات الأمريكية، خاصة منذ عام 2016، عندما فاز دونالد ترامب لأول مرة بالرئاسة على حساب غريمته آنذاك هيلارى كلينتون، وهو ما يعكس أحد أهم أبعاد معركة إسرائيل خارج الشرق الأسط.
وهنا يمكننا القول بأن أزمة غزة، وما ترتب عليها من تداعيات كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، تجاوزت مجرد الإقليم، وإنما امتدت إلى زعزعة ثوابت دولية، طالما دعت إليها القوى الكبرى، وعلى رأسها أمريكا، والتي تعد الحليف الأكبر لإسرائيل وأبرز داعميها، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن الدولة العبرية وحكومتها تسعى إلى تجريد حلفائها من أحد أهم الأدوات التي استخدمتها في تعزيز نفوذها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بل وتحويلها إلى وسيلة ابتزاز لهم، عبر استخدامها على منابرهم من أجل تأليب الرأي العام في الداخل ضد الإدارات الحاكمة، وتحقيق مصالحها، على حساب الاستقرار العالمي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة