هي ظاهرة أكبر مما يتصور كثيرون.. وهي في رأي بعض من تناولوها بالدراسة أحد أشكال التعبير عن "التدين الشعبي"، ولها خلال قرون طويلة حضور واسع في المجتمع المصري، خصوصا في الريف ثم في بعض المدن، وقد كان لهذا الحضور أصداء في أعمال أدبية عدة، منها مثلا سيرة طه حسين الشهيرة (الأيام) التي أشارت إلى بعض ممارسات الطرق الصوفية في صعيد مصر، ومنها أيضا رواية عبد الحكيم قاسم (أيام الإنسان السبعة) التي رصدت بعض هذه الممارسات في قرية من قرى الدلتا أو "وجه بحري"، ورواية عمار على حسن (خبيئة العارف) التي تناولت، فيما تناولت، بعض ما يحيط بـ"الطريقة العزمية"... وبجانب هذا الحضور للطرق الصوفية في مصر، فإن لها حضورا واضحا في بلاد عربية أخرى، منها المغرب وسوريا والسودان والعراق، وفي بلاد أفريقية كثيرة، منها الصومال والسنغال، وفي غيرها من بلدان آسيا وشرق أوروبا.
تتمايز ظاهرة الطرق الصوفية، وتصوراتها وأفكارها وممارساتها واحتفالاتها، عن "التصوف"، وهي ظاهرة جماعية واجتماعية بامتياز.. اقترنت دائما بالاحتفالات والموالد (التي تمثل ساحة لتخريج مواهب إبداعية وفنية متنوعة، ومنها بدأت مسيرة أم كلثوم بالمناسبة!)، وأحاطت بها دائما حقائق وخرافات، جعلتها موضعا للهجوم والدفاع المتكررين خلال تاريخ طويل. كان من هذا التاريخ بدايات مبكرة ثم انتشار واضح. في مصر ارتبط هذا الانتشار بفترة حكم الأيوبيين وبسعيهم إلى التخلص من بقايا الدولة الفاطمية، ومن الأفكار الشيعية التي اقترنت بهم.. وقد أنشأ الأيوبيون، عددا كبيرا من "الخانقاوات" أو "التكايا"، وخصصوا "وقفا" لها وتكفلوا بالإنفاق عليها، لتكون مراكز لبعض الطرق الصوفية..
تنامت الظاهرة كثيرا بمصر خلال القرون التالية، وتعددت الطرق الصوفية وتنوعت، وتزايد الأعضاء المنضمين إليها، وارتبطت بأسماء أقطاب معروفين مثل السيد البدوي (الذي يتم الاحتفال بمولده هذه الأيام)، والإمام الشاذلي، وإبراهيم الدسوقي، وعبد القادر الجيلاني، وأحمد الرفاعي، وغيرهم..
ومن أهم الدراسات حول هذه الظاهرة، فيما أتصور، الكتاب الجميل للدكتور سيد عويس (الإبداع الثقافي على الطريقة المصرية ـ دراسة في القديسين والأولياء) الذي صدر في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وفيه معلومات مفصلة، وتحليل عميق، لأبعاد هذه الظاهرة.. الكتاب ليس بين يدي الآن، وكنت قد قرأته منذ عقود طويلة، وأذكر أنه قد فاجأني بحقائق عن حجم هذه الطرق، وأعداد المنتسبين إليها وقت إنجاز الكتاب (تجاوز عدد الطرق ستين طريقة وقتها، وقد تزايد عدد هذه الطرق الآن، ربما جاوز الثمانين طريقة، وكان عدد المنتسبين إليها، وقتذاك، يعدّ بالملايين). وهناك دراسات أخرى كثيرة عن الطرق الصوفية، تناولت مناهج الانتساب إلى هذه الطرق، والتقاليد الخاصة بها، ومراتب ومراسيم من ينتسبون إليها، والتنظيمات الإدارية التي تنتظمها، وقد أسهم في هذه الدراسات عدد كبير من الباحثين والدارسين، ومنها (التصوف طريقا وتجربة ومذهبا) للدكتور محمد كمال إبراهيم جعفر، و(نشأة الطرق الصوفية في مصر، للأستاذ حمادة محمد عيسى فرج، و(التصوف في مصر إبان العصر العثماني) للدكتور توفيق الطويل، و(السيد أحمد البدوي شيخ وطريقة) للدكتور عبد الحليم محمود، و(السيد أحمد البدوي ودولة الدراويش) لمحمد فهمي عبد اللطيف).. وغيرها.
وبقطع النظر عن حدود المعقول وغير المعقول في أدبيات هذه الطرق وتصوراتها، وبقطع النظر أيضا عن مدى الصواب والخطا، والدقة وعدم الدقة، في نسب شيوخها إلى آل البيت (مثلا، أحد شيوخها من شرق أوروبا، اختلق له مريدوه نسبا يمتد إلى الإمام على ابن أبي طالب !)، وبقطع النظر كذلك عن الشطط والمغالاة في معالم العلاقة بين الشيخ والمريدين بهذه الطرق أو ببعضها.. فإن تأثيرها كان واضحا في الحياة الاجتماعية وأحيانا السياسية خلال قرون عدة في عدد غير قليل من من البلدان.
من الأمثلة التاريخية على هذا التأثير ما يرتبط بالطريقة "البكتاشية". وقد تأسست هذه الطريقة في إيران خلال القرن الثالث عشر الميلادي، على يد حاجي بكتاش، ثم انتقلت إلى تركيا ثم إلى البلقان، حيث تمركزت في ألبانيا. وقد انتشرت تكايا البكتاشية في بعض البلدان، ومنها مصر (وقد أتيحت لي فرصة لزيارة مقرهم القديم المذهل بمصر، بعد أن تحول إلى ثكنة عسكرية في فترة جمال عبد الناصر، وتم نقلهم إلى مقر آخر). وقد كان لهذه الطريقة نفوذ كبير على جيش الإنكشارية، وهي فرقة تنتمي إلى الجيش العثماني، ظل جنودها يدينون بالولاء لشيوخ الطريقة البكتاشية، ويشار إلى أن البكتاشية قامت بأدوار فاعلة خلال تاريخ الدولة العثمانية، واتصلت بعلاقات راوحت بين الشد والجذب، أو التحالف والصراع، مع السلاطين العثمانيين، كما قامت الفرقة الإنكشارية بدور كبير في تولية ثم تثبيت حكم محمد على في مصر..والغريب، حسب ما نشر مؤخرا، قبل أيام، أن رئيس الوزراء الألباني إيدي راما قد أعلن مؤخرا عن مشروع "لإقامة دولة صغيرة ذات سيادة داخل حدود العاصمة تيرانا لطائفة البكتاشية الصوفية"، على غرار دولة الفاتيكان.
بعيدا عن الهجوم والدفاع، وعن الحقائق والخرافات، والاعتدال والمبالغة والشطط.. تحتاج الطرق الصوفية إلى دراسات معمّقة، تستكمل الدراسات السابقة عنها، تتقصى عوالم هذه الطرق، وأفكارها وتصوراتها (وأغلبها بعيد عن التعصب والتطرف)، وتكوينها وتجاربها متعددة المستويات، والأدوار التي قامت بها في التاريخ، في عدد كبير من البلدان، فضلا عن المواهب الإبداعية التي تبلورت خلال احتفالاتها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة