بالطبع فإن أى حدث سياسى أو عسكرى تظهر نتائجه وتداعياته مباشرة فى صورة مواجهات، لكن النتائج النهائية والأثر يظهران بعد شهور وربما سنوات، وهى قاعدة تنطبق على كل التحولات الكبرى، ومنها أحداث 7 أكتوبر سواء عملية طوفان الأقصى أو رد الفعل الانتقامى من قبل الاحتلال، الذى تجاوز المرات السابقة، وتحول إلى حرب إبادة، وتهجير لسكان غزة داخل القطاع، بجانب حجم الدمار فى المبانى والمستشفيات والمدارس، بما يتجاوز نصف غزة أو أكثر، ويعكس توجها تدميريا لدى قوات الاحتلال.
أما المتغير الآخر، فهو تنفيذ عمليات نوعية واغتيالات متعمدة لقيادات سياسية، سواء اغتيال العارورى فى لبنان، أو إسماعيل هنية فى طهران، والأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وعدد من خلفائه، وأخيرا يحيى السنوار، الذى تولى خلفا لهنية، والذى سقط من دون تخطيط فى مواجهة، لكنه ظل هدفا لنتنياهو على مدى شهور، وبالتالى فإن غيابه قد يكون بداية تغيير كمى أو نوعى.
بالرغم من أن الاغتيالات السابقة لقيادات الحركة، أو حزب الله لم تؤثر كثيرا على هذه التنظيمات، لكن الأمر هذه المرة يبدو متجاوزا السوابق، من حيث الأعداد التى تم اغتيالها، وبعضها فى الصف الأول أو الثانى وحتى الرابع، مما قد يؤثر على بنيان هذه التنظيمات، ليس المقصود هنا القيادات العسكرية، لكن القيادات السياسية، التى يفترض أن تدير المواجهات، بشكل يجعلها ذات نتيجة وليست مجرد صراعات فى الفراغ، وبالتالى لا يمكن أخذ التحليلات التى لا ترى تحولا فى غياب القيادات بهذه الكثافة على محمل الجد والأمر ليس مباراة كرة قدم، لكنها مواجهة مصيرية وتحولات ضخمة تفرض نفسها.
ومن البداية هذه الحرب تتشعب، وتتجه إلى سيناريوهات لم تكن متوقعة، واصلت قوات الاحتلال القصف على مدى شهور، ثم اجتاحت غزة بريا، وبدأت تقتطع وتعيد الانتشار، وقد كان الاجتياح البرى مستبعدا، بسبب تجارب ومواجهات سابقة، اضطرت قوات الاحتلال إلى الانسحاب، لكنه هذه المرة أقوى، وأشمل، ويدخل ضمن إعادة انتشار وانتزاع مساحات لتأمين المستوطنات.
من حيث الكم تجاوز عدد المدنيين ضحايا الإبادة منذ 7 أكتوبر 45 ألفا، وآلاف الجرحى، وفى مواجهات أخرى كانت الأعداد أقل، فى 2008 / 2009، 1200 فلسطينى، مقابل 13 إسرائيليا وفى 2014 سقط 2200 فلسطينى و73 إسرائيليا، وبالتالى فإن المواجهة هذه المرة أقوى، وأكثر تجاوزا لخطوط الحرب أو الأخلاق، من حيث الكيف يأتى امتداد الحرب لأكثر من عام، ينهى افتراضا سابقا بأن جيش الاحتلال لا يمكنه الحرب لأكثر من أسابيع، فقد واصل، وفتح المواجهة على أكثر من جبهة، وأخيرا فتح جبهة فى لبنان ردا على ما أعلنه حزب الله إسناد غزة.
وكانت عمليات الاغتيال لعدد من قيادات حزب الله، بدايات لتحول على جبهة جنوب لبنان، انتقلت فيه إسرائيل من الحرب بالوكالة إلى المواجهة المباشرة مع إيران، التى تمسكت بعدم الدخول فى مواجهة مباشرة، واكتفت بالرد على مهاجمة القنصلية الإيرانية فى دمشق بإطلاق مسيرات وصواريخ فى أبريل الماضى، وكررت الهجمات ردا على اغتيال إسماعيل هنية وكبار قيادات حزب الله، وصولا إلى اغتيال الأمين العام، السيد حسن نصرّ الله وعدد من خلفائه، ثم البدء فى عمليات تمشيط فى قرى الجنوب، تتضمن تدمير أو مصادرة كميات من الأسلحة، وهذا الاجتياح تم بعد تنفيذ عمليات اغتيال نوعية، واختراقات معلوماتية واستخبارية، مهدت للاجتياح، والمواجهة بالطبع أوقعت خسائر فى مواجهة مقاتلى حزب الله، تتجاوز مواجهات سابقة كانت القدرة على إيذاء الاحتلال أقوى.
هناك اتجاه لتوجيه ضربات إلى إيران، وهو أمر قد يسفر عن مواجهة تهدد السلم والأمن الإقليمى، خاصة أن الولايات المتحدة، تؤكد على لسان بايدن وقيادات أمريكيين أنها تضمن أمن إسرائيل فى أى مواجهة، وعجز الرئيس الأمريكى جو بايدن عن إقناع نتنياهو بوقف العدوان، أو تمرير قرار مجلس الأمن فى نهاية مايو على مشروع أمريكى بوقف إطلاق النار فى غزة، فقد قبلت حماس القرار لكن إسرائيل لم تقبله، وواصل الاحتلال الحرب، واكتفت الولايات المتحدة بالحديث عن الوضع الإنسانى المتردى فى غزة، ودعت إسرائيل لاتخاذ التدابير اللازمة لحماية المدنيين الفلسطينيين، وهى تصريحات بدت متناقضة مع خطاب أمريكى وسياسة تدعم الاحتلال والسلوك العدوانى لحرب الإبادة، حيث يستغل نتنياهو الانتخابات الأمريكية ليمارس الابتزاز، بل ويقدم إسرائيل باعتبارها تتعرض للعدوان، ويوظف ما جرى فى 7 أكتوبر دعائيا، وهو أمر يدخل فى سياق المفارقات، حيث يقدم المعتدى نفسه فى صورة الضعيف المعتدى عليه.
الشاهد أننا أمام تحولات كبيرة، لا يمكن تقييمها أو توقع نتائجها، لأنها تلد المزيد من التحولات، تبدو أكبر من مجرد جولة مواجهة، لكنها تحمل تغييرا فى شكل ومضمون تنظيمات ودول وتوازنات إقليمية ودولية، تتطلب إعادة تقييم وقراءة واقعية لما جرى، باعتبار أن المواجهات العسكرية وسيلة وليست هدفا.
مقال أكرم القصاص
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة