تمر، اليوم، ذكرى انتهاء حصار صلاح الدين الأيوبى لـ بيت المقدس باستيلاء قواته على المدينة بعد 88 عامًا من حكم الصليبيين لها، وذلك في مثل هذا اليوم 2 أكتوبر 1187، حيث حاصرت قوات صلاح الدين القدس ولم يكن بمقدور حاميتها الصغيرة أن تقف أمام 60 ألف رجل، فرفعت راية الاستسلام بعد 6 أيام من بدء الحصار، لتفتح الأبواب وتخفق راية السلطان صلاح الدين الصفراء فوق القدس.
لم ينتهى دور صلاح الدين الأيوبى فى القدس عند فتحها وانتهاء احتلالها من قبل القوات الصليبية، حيث بدأ مباشرة فى تعمير المدينة، وعزم على إعادة إعمار المدينة وتحصينها خوفا من إعادة الصليبيين الكرة على المدينة العتيقة من جديد، حسب ما جاء في كتاب سيرة صلاح الدين ومعاصره للقاضي بهاء الدين بن شداد: "كان الإفرنج قد عملوا غربى المسجد الأقصى نهرا ومستراحا، فأمر السلطان بإزالة ذلك، وإعادة الجامع إلى ما كان عليه، وكان نور الدين محمود بن زنكى قد عمل منبرا بحلب تعب عليه مدة وقال هذا لأجل القدس، فأرسل السلطان من أحضر المنبر من حلب وجعله فى المسجد الأقصى".
كذلك أمر السلطان بتحويل الكنائس الصليبية المستجدة فى القدس إلى مدارس ودور علم ورباطات ومستشفيات، فأُعيدت كنيسة القديسة آنا فى الجهة الشمالية من الحرم قُرب باب الأسباط إلى سابق عهدها، مدرسة، سميت بالمدرسة الصلاحية أو الناصرية فى تدريس المذهب الشافعي، أما قصر بطريرك الفرنج شمال غرب كنيسة القيامة فقد حول رباطا للصوفية، وفى غرب القدس كان فرسان الإسبتارية قد أنشأوا مجمعا لهم يتوسطه كنيسة، قرر السلطان صلاح الدين تحويله إلى مستشفى "مارستان" للمرضى زوده بالعقاقير والأدوية المختلفة.
وبعد مجىء الحملة الصليبية الثالثة بقيادة ملك فرنسا فيليب أغسطس وملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد، وإعادة الاستيطان والتمركز فى مدينة عكا الساحلية، قرر السلطان صلاح الدين بناء الحصون الحربية والأبراج والأسوار لحماية القدس، خشية من تكرار الاحتلال الصليبى للمدينة المقدسة، وقد وزع هذه المهام على نفسه وأولاده وأخيه العادل الأيوبى وأولاده، فضلا عن أمرائه الآخرين، وينقل لنا الرحالة والطبيب عبد اللطيف البغدادى أحوال مجلس صلاح الدين بالقدس حينذاك، الذى كان ينقسم بين مدارسة العلماء، ومتابعة شؤون الدولة، والإشراف على بناء أسوار القدس وأبراجها، بقوله: "أتيت الشام، والملك صلاح الدين بالقدس، فجئته فرأيته ملكا عظيما، يملأ العيون روعة، والقلوب محبة، قريبا بعيدا، سهلا محببا، وأصحابه يتشبهون به. وأول ليلة حَضَرتُهُ وجدتُ مجلسا حفِلا بأهل العلم يتذاكرون فى أصناف العلوم، وهو يحسن الاستماع والمشاركة، ويأخذ فى كيفية بناء الأسوار، وحفر الخنادق، ويتفقَّه فى ذلك، ويأتى بكلّ معنى بديع. وكان مهتمّا فى بناء سور القدس، وحفر خندقه".
ويؤكد البغدادى أن صلاح الدين كان "يتولى ذلك بنفسه، وينقل الحجارة على عاتقه، ويتأسى به جميع الناس الأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، ويركب لذلك قبل طلوع الشمس إلى وقت الظُّهر، ويأتى داره فيمد السماط (الطعام)، ثم يستريح، ويركب العصر، ويرجع فى ضوء المشاعل، ويصرف أكثر الليل فى تدبير ما يعمل نهارا، وقال له بعض الصناع: هذه الحجارة التى تقطع من أسفل الخندق ويبنى بها السور رخوة، قال: إذا ضربتها الشمس صلُبت".