يقومُ التحليلُ السياسىُّ على استقراء الشواهد، والاستدلال منها على ما يُمكن أن تتطوَّر إليه الأمورُ وفقَ مزيجٍ من الظروف والتفاعُلات. إنه مُمارسةٌ عقليَّة وتخَيُّليّة بالأساس، ولا يُساقُ بالأمانى أو على صورة الرَّجْم بالغيب؛ لذا ليس مطلوبًا منه أن يكون صائبًا دومًا، إنما أن يكون موضوعيًّا مَوزونًا، ولا يفتئِتُ على الحوادث والسياقات، أو يضعُ العاطفةَ فوق العقل. وفى الحالة العربيَّة الراهنة، يبدو أُفقُ الاشتباك مع المشهد غائمًا، ومحفوفًا بالمخاطر، وفيه من الكوابح النفسيَّة والدعائيَّة ما يردعُ كلَّ صاحب رأىٍ مُختلِفٍ عن الإدلاء به على راحته. ولهذا؛ ربما سارت قوافلُ المُحلِّلين على مدى الشهور الماضية مدفوعةً بالتمنِّى الساذج، أو مردوعةً بالابتزاز والمُزايدة؛ لكنَّ الخُلاصة أنه لا قيمةَ لما يُقالُ بعيدًا من المنطق والواقع، وليس فى وسعِه أن يدفعَ النوازِلَ، ويُغيِّرَ حقائقَ الأرض. المسألةُ أكبرُ من المحبَّة أو الإيمان بالحقوق والقضايا العادلة، وتخصُّ البصيرةَ واستقامةَ الوعى، ووجوبَ أن تتصدَّى النُّخبة لأدوارها بتجرُّدٍ واتِّساق؛ لتكون عَونًا لبيئتها على رؤية الصورة فى كُلّيَّتها الصحيحة، والبُعد عن استمراء الأوهام والدعايات. فالقراءةُ المُحرَّفة لا تنتجُ استجاباتٍ خاطئةً فحسب؛ إنما تمنعُ لاحقًا من استيعاب المَلمَّات فى جوهرها النقىِّ، ناهيك عن مُغالبتها والاقتدار على تجاوز أعبائها الثقيلة.
تحاشى كثيرون القولَ إنَّ حماس أخطأت فى «الطوفان» بكلِّ الحسابات الاستراتيجية؛ وإن أحرزت نجاحًا زهيدًا وخاطفًا فى التكتيك. ثمَّ تجنَّبوا أيضًا الإشارةَ إلى خِفّة التعاطى من جانب محور المُمانعة، ودخول «حزب الله» على الخطِّ تحت عنوان «المُشاغلة والإسناد»، بانفعالٍ شُعورىٍّ أو بإملاءٍ من إيران؛ إنما فى الحالين لم يكُن التقييم دقيقًا، ولا إدارةُ الميدان ديناميكيَّةً وفعَّالة. والارتداعُ عن المُكاشفة بالأخطاء لا يُورِثُ إلَّا مزيدًا منها، وإن كان باعثه الإشفاق والتوحُّد معهم وِجدانيًّا، أو الخوف من اتِّهامات التخديم على العدوِّ، ولعب دور الخنجر الأسود فى خاصرة المُقاومة؛ كما لو أنها لم تُسدِّد على نفسِها أصلاً، عندما خاضت حروبًا بينيَّة غير مُبرَّرة، مرَّةً بالقوَّة ومَرَّاتٍ بالسياسة، ومَكَّنَتْ الخصومَ من اصطيادها فى نقاط ضَعفِها، وعلى امتداد كلِّ الجولات المُشتركة معهم. والحال؛ أنَّ أوَّلَ العلاج الاعترافُ بالمرض، وآخرَه الكَىُّ، وما وصلت البيئاتُ المُلتهِبَةُ إلى ما هى عليه اليومَ؛ إلَّا لأنها ادَّعت البأس فى وقت الوَهَن، وتشدَّدت فيما كان يتعيَّنُ عليها أن تتراجَعَ عنه، وخاضت مُناطحةً لا تتوفَّر على أسباب الانتصار فيها، أو حتى الخروج بأنفٍ نازفٍ؛ شريطةَ أن يظلَّ قادرًا على التعافى. ولا معنى إطلاقًا فى هذا المقام للحديث عن انحطاط الاحتلال، وانحياز العالم الحُرِّ الذى صُدِمْنا فجأةً بأنه مُتغطرسٌ، وأنه يحتفظُ بتعريفين مُتضادّين للحرية؛ إذ هذا من الحقائق البديهية، وسبقَ أنْ جرَّبناهُ واختبرنا نتائجَه لمَرَّاتٍ ومَرَّات، وما فى ذاكرة المنطقة وجُروحِها التى لم تندَمِلْ يشهدُ بما فيه الكفاية. أمَّا التعامى عن الأزمة والتعالى عليها؛ فإنهما من قبيل الإنكار الفجِّ، والجَهالة الكاملة، وحالِ الجَمَل الذى لا يُبصِرُ سِنامَه، ويُعيِّرُ الضِّباعَ بجُلودها المُرقَّطَة.
إنك لن تقفِزَ الفَخَّ ما لم تَرَه أصلاً، وإلى اليوم ما يزالُ خطاب «حماس» كما كان فى حماوة الطوفان، والحزبُ على ما اعتمده فى بادئة المُشاغلة؛ كأنهما ما فَقَدَا آلافَ الضحايا، ولا تضرَّرت قُدراتهما العسكرية، وفاضت المواجع على احتمال حواضنهما الشعبيَّة. ونتنياهو مُجرمٌ بالأصل والسِّيرة العَمَليّة، ولسنا فى حاجةٍ إلى دليلٍ جديدٍ على ثابتةٍ قديمة، وعلى ما لا يُنكرِهُ الرجلُ أو يجتهدُ فى إخفائه. السؤالُ ليس عن لماذا مارسَ الوحشُ هُوايتَه الفِطريَّةَ فى الافتراس؛ بل لماذا قيَّدَتْ الفريسةُ نفسَها تطوُّعًا إلى أن نالَ منها، واستدعت معها العائلةَ وبَقيَّة مُسالمى الغابة إلى مُنازلةٍ محسومةٍ سلفًا، وتغيبُ الشروطُ الإلزاميّة لخَوضِها؛ فضلاً على أن رُكونَها إلى وعود عوائلِها الداجنة أورثَها طمأنينةً زائفة، ولم يُلاقِها فى الموعد والمكان المَوصُوفَين كما أفرطت الدعايات. وهنا يُفترَضُ أن تعلو إرادةُ الحياة على رومانسيَّة الموت البُطولىِّ؛ أقلّه لأجل أن يستمرَّ النسلُ وتُستَكْمَلَ النضالاتُ المُعطَّلَة. والواقعُ أنَّ المُمانِعين أعماهم شىءٌ من سوء التقدير، وأشياءُ من المُبالغة فى رُؤية الذات، وما وجدوا الناصحَ الأمين؛ بينما أطربَهم تهليلُ العوام، وفِتنةُ المنابر، ولوثةُ الخُطَب العصماء وانتصاراتُها المعنويَّة السهلة، وغير المُثمِرَة قطعًا فى ميادين القتال.
تَحسُنُ هُنا قراءةُ التاريخ: ما يخُصُّنا منه وما يعودُ للآخرين أيضًا. تراضَى المُسلمون فى صدر الدعوة على شروطٍ ظالمةٍ مع القُرَشِيِّين، وضاقت صدورُ الصحابة ببنود «صُلح الحُديبية»، بينما كان الرسولُ يُغلِّبُ الاستراتيجيَّةَ على التكتيك، ويرى أبعدَ مِمَّا رآه رجالُه عن فِكرَتَى النصر والهزيمة. والألمان عُوقِبوا بعد الحرب العالميّة الأُولى بغشومةٍ وإفراط، وابتلعوا مرارتَهم إلى أن أسَّسوا ملامحَ تجربتِهم الثأريَّة محمولةً على القوَّة والاقتدار؛ حتى لو أفضت إلى ما لم يَدُر فى أذهانهم. وعلى جانبٍ مُقابل؛ كان الروسُ قُسماء مُباشِرين فى النصر على النازية؛ لكنهم أُبعِدوا من تقسيم الكعكة، وفُرِضَتْ عليهم قيودٌ مُشدَّدةٌ أنتجتها الأيديولوجيا والاستعلاء الحضارى، وما فكَّروا فى الاقتصاص لكرامتهم إلَّا بعد ستَّة عقودٍ أو يزيد. ومعلومٌ أنَّ التاريخ لا يُعيدُ نفسَه بالضرورة، وليس القصدُ طبعًا أن نُكرِّر تجاربَ الآخرين، لا فى الصمت المُطبِق ولا فى الانتحار المجَّانىِّ؛ بل أن نستلهِمَ الدروسَ والعِظات، ونُؤسِّسَ فهمَنا العاقلَ لقضايانا من داخلها، لا على ما تُريدُ الجمهورية الإسلاميَّةُ وفقَ مصالحِها، أو ما تجُرُّنا إليه الدولةُ الصهيونية من مُنطلَقِ تصوُّرها الصِّفرىِّ للصراع مع الفلسطينيين وبقيَّة دُول الطوق.
كتبتُ قبلَ شهورٍ أنَّ السؤالَ تجاوزَ مسألةَ الحرب على لبنان من عدمِها، وصار فى نطاق الكيفية والميقات. وإذا تيسَّر لنَاظرٍ من بعيدٍ أن يرى ما وراء التلَّة، وأنْ يَستشرِفَ نوايا نتنياهو ومُخطَّطات دولة الاحتلال؛ فالأصلُ أنَّ أطرافَ الميدان أقدرُ على الوصول للحقائق والمعلومات، ويتحرَّكون فى ضوء خُطَطٍ عَمَلانيَّة وتقديراتٍ استراتيجيَّة شاملةٍ ومُحدَّثَة. ولم يكُن مفهومًا على الإطلاق سِرُّ اطمئنانِهم إلى رخاوة الصهيونية، أو صلابة الشيعيَّة المُسلَّحة، وأن يعتدلَ ميزانُ العالم الذى ما عَرفوه إلَّا مُختَلًّا ومائلاً. خُدِعَ يحيى السنوار بنشوة النصر الأُولى، وهياج المشاعر الأُصوليَّة فى المنطقة، وامتداح الماسكين بزمام أمرِه هُناك فى طهران. وأُخِذَ الأمينُ العام لحزب الله ببلاغته وأثرِها العاطفىِّ الصاخب، وبالثقة فى وَلىِّ أمره ودعاياته عن التصدِّى لقُوى الاستكبار، وقُدسيَّة الروابط الإيمانية ونهائية «وحدة الساحات»؛ قبل أن يدفع روحَه ثمنًا لثقتِه المُفرِطة. وإذا كان استدراجُ الصهاينة فى غلاف غزَّة صاعقًا وعلى غير ما يُحبّون؛ فإنه وافقَ هواهم على حدود لبنان، بل سَعوا إليه وتمسَّكوا به، وانتهجوا كلَّ المسارات الكفيلة باستنفار مراكز الاستجابة الانفعالية لدى المُمانِعين، وتعطيل مراكز التعقُّل والاتزان فى أدمغتهم. وهكذا فَوَّتوا كلَّ الإشارات اللامعة، وصَمّوا آذانَهم عن أجراس الخطر؛ أكان فى التحرُّش بإيران مُباشرةً، أم فى تَوسعة مجال الاغتيالات واستهداف الفاعلين الميدانيِّين وصولاً إلى منظومة القيادة والسيطرة، والتلويح غير مرَّةٍ بالتفكير فى شَطب حسن نصر الله نفسِه من المُعادلة. وَهْمُ القوَّة وحده ما منعَهم من تقييم السياق وتقويمه، وتحديث تقديراتهم للجبهة واحتمالات تحرُّكها، بينما مَنعَتْهم الثِّقة الناشئة عن دوجمائيَّة العقيدة، أو رُسوخ سرديَّتهم عن الكيان وهشاشته ومحدوديَّة قُدراته، من أن يروا العدوَّ على حقيقته الجديدة، ويستكشفوا ما طال عقيدتَه القتاليَّة من تغيُّراتٍ جوهريّة ظاهرة، وما يعدّونه نكبةً له؛ بينما كان يراه من جانبه فُرصةً مثاليَّة لتصفية الحسابات القديمة، وإرساء مُعادلاتٍ مُغايرة تمامًا لإدارة العلاقة وتسييرها فى العقود المُقبلة.
قال نتنياهو مُبكِّرًا جدًّا؛ وما يزالُ يتقلَّب بين أمواج «الطوفان» وقتَها، إنه سيُغيِّر واقعَ الشرق الأوسط ويُعيدُ ترسيمَ خرائطه من جديد. ضحِكَ المُمانعون ساخرين، ولم يستوعب المُتأجّجون عاطفيًّا ببطولةِ القسَّاميِّين وغزوتهم المُظَّفرة، وسارت الأمورُ من يومها بين الحَدَّين المُضلِّلين: خصوم الحرب يحملون كلَّ ما يأتى من تلّ أبيب على عنوان المُبالغة والارتباك ومساعى الهروب من الأزمة، وجمهرة المُشجِّعين أمام الشاشات وعلى المنصَّات الرقمية لا يعرفون توازنات المنطقة أصلاً؛ ليستَشرِفوا ما يُمكنُ أن يُصيبَها لو نجحَ الصهاينةُ فيما يسعون إليه. والحال أنَّ الرسالةَ أخرجت المَقتلةَ الافتتاحيَّة من نطاق فلسطين، ومنحَتْها بُعدًا إقليميًّا وأيديولوجيًّا يجعلُ التهدئةَ أو التصعيد مَحكومَيْن باعتباراتٍ أكبر من «حماس» وقُدراتها. رُسِمَتْ الغايةُ بصراحةٍ فَجَّة؛ لكنَّ الوسائل تدرَّجت صُعودًا ببطء ومُداراة، وكان المطلوب لتشغيل المُحركات أن يضعَ العدوُّ هدفًا عاليًا؛ لدرجة أنه لا يُمكن تحقيقه؛ فيتأمَّنُ به البقاءُ فى الميدان، ومُواصلة الحرب دون أُفقٍ سياسىٍّ، ومنها يتتابعُ الاستدراجُ المُراوِغ. لقد سبقَ بخطوةٍ على الأقلّ منذ البداية؛ كان يضربُ فى القطاع وعَينُه على لبنان، واليومَ يُنكِّل بالحزب فى معاقلِه الحصينة، ويضعُ جنودُه أقدامَهم جنوبىَّ الليطانىِّ؛ بينما العَينُ انتقلت إلى إيران نفسها.
تغييرُ إقليمٍ شاسعٍ ومُعقَّدٍ وشديدِ التقلُّب مثل إقليمنا، لا يتحقَّقُ بهزيمة حماس، أو تقويض «حزب الله» ووَضعِه على طريق الضمور عسكريًّا وسياسيًّا. فجَوهرُ الانقلاب المقصود أن يُعادَ تركيبُ توازُنات القوَّة فى مجموعها، ورَسمُ خريطةِ الأفكار والأيديولوجيات المُتصارِعة، ووُجُوبًا أن تنتصرَ أُصوليَّةٌ من الأُصوليَّتين المُتحاربتين: الصهيونية التوراتيّة والشيعية المُتأخونة، أو الإخوانيَّة المُتشيِّعة. وبالمنطقِ؛ فإنَّ ذئبَ الليكود يقصدُ الدولةَ الصَّفَويَّة رأسًا، وفكرةَ الثورة الإسلامية التى ينصُّ دستورُها على تصديرها للخارج. هُنا تكونُ الحركةُ والحزب مُجرَّدَ بَيدَقَين على الرُّقعة، وإطاحتهما مَرهونة بالوصول إلى ما ورائهما من أهداف؛ أمَّا لو تعذَّرتْ إصابةُ الرأس فإنَّ الاحتلال قد يُبقِى على الأطراف، دونَ الطَّفْو وفوقَ الغَرَق؛ بحيث يظلُّ رصيدُه فى حرب الذرائع صالحًا للصَّرف، وقادرًا على تمرير بقيَّة الأهداف الاستراتيجية التى خَزّنها طويلاً فى عقله الواعى، ووَاتَتْه الظروفُ المُناسبةُ لاستدعائها فى فوضى الطوفان، وفى غباوة التعاطى مع ارتداداته لاحقًا.
الكلامُ السابق قد يراهُ البعضُ على صورة الافتتان بالعدوِّ، أو التضخيم من قُدراته؛ لكنها العقلانيَّةُ الواجبةُ قبل أن نُجرِّب السيناريوهات القديمة بحالتها المُزرِية، أو على الأقل العمل بافتراض الأسوأ؛ طالما أننا لا نُريدُ الوضوعَ فيه. لا يُمكنُ بالطبع إنكارُ أنَّ إسرائيل تلقَّتْ ضربةً قاسيةً فى الطوفان، ولا أنها تقصَّدَتْ أهدافًا ولم تفلِح فى إنجازها حتى اللحظة؛ إنما فى الوقت نفسه يصعُبُ الجَزمُ بضَعفِها على الصورة التى يقول بها المُمانعون، أو الإفراط فى الحديث عن هزيمتها الوشيكة، ورُضوخِها الاضطرارىِّ أمام عزائم المُقاتلين الصامدين. بعضُ ما نادَى به رئيسُ حكومتها لم يكُن مطلوبًا للتحقيق؛ إنما اتُّخِذَ ذريعةً لإبقاء القِدْرِ مُغلقةً على مائها المَغلِىِّ. لقد طلبَ إفناءَ «حماس» على غير الحقيقة كما أسلفنا، وهو لا يُريدُ ذلك فِعلاً، أو يقبلُ بعَكسِه وإنْ كان يتمنّاه. بينما حصرَ أهدافَه على الجبهة الشمالية فى إعادة المُستوطِنين، ولم يتحدَّث عن إبادة الحزب أو إخراجِه تمامًا من المُعادلة؛ إذ تحقَّقتْ له غايةُ البقاء بملابس الحرب فى غزَّة، وباعتبار أنَّ الميليشيا اللبنانيّة تُعلِّقُ التهدئةَ من جانبها على وَقفِ النار جنوبًا؛ فلا حاجةَ له إلى التشدُّد معها، وهكذا يربحُ إدامةَ التهييج، ويَظهرُ أمامَ بيئتِه ساعيًا للحلِّ، ومُنافحًا عن المُهَجّرين من بيوتهم.
الاجتياحُ البرىُّ للحدود اللبنانية يسعى لاستيفاء مكاسب تكتيكيَّة، تبدأُ من فَرضٍ حزامٍ عازلٍ، وتدميرِ ما يطالُه من قُدرات الحزب وتمركُزاته وأصوله الصلبة؛ إنما الخَفِىُّ فيه أنّه يُواصلُ استفزازَ إيران، ويضغطُ على أعصابها، ساعيًا لاستدراجها إلى الجبهة، أو انتزاع توقيعها على ورقة الخضوع وارتضاء مُعادلة الرَّدع الجديدة. وكما جَرَتْ العادةُ؛ فإنَّ نجاحَه فى لبنان سيُغريه بالتصعيد فى سوريا، أو التحرُّك مُباشرةً ضدَّ الأراضى الفارسية؛ مثلما أغرَتْه النتائجُ الميدانيَّة فى غزَّة بالانتقال إلى الضفَّة، ثمَّ تطوير تكتيكاته وتدرُّجه العَمَلانىّ مع دُرَّة تاج المحور المُمانِع وأقوى ميليشيَّاته الفاعلة فى المنطقة. ولا يَهُمّ هُنا إنْ كانت الولاياتُ المُتَّحدة ترتضى الخطَّة أو تنزعجُ منها؛ إذ الموقفُ النهائىُّ من جانبها تحكُمُه اعتباراتٌ استراتيجيَّةٌ عميقةٌ ومُتجذِّرة فى بِنيَتِها، وتفرضُ عليها الإسنادَ والمُؤازرةَ الدائمين للدولة العِبريَّة، تحت كلِّ الظروف وفوقَ كلِّ الاعتراضات. خطأٌ واحدٌ من جانب طهران يُمكِنُ أن يُطوِّرَ المُباراةَ إلى جولتها التالية؛ فتَشُنُّ إسرائيلُ هجمةً مُباشرةً على أراضيها، أو مُنشآتها النووية. أمَّا الصمتُ والبُعد عن الأخطاء فقد يُؤخِّران المواجهة قطعًا؛ إنما على الأرجح لن تنتفى تمامًا أو تُزاحَ بعيدًا من الطاولة.
يسعى المُرشِدُ ورجالُه إلى صفقةٍ مع واشنطن. وفى المدى المنظور يستحيلُ أن يُقدِمَ بايدن على ذلك؛ لأثرِه الخانق لحظوظ كامالا هاريس فى الرئاسة، وما يُمكِنُ أن يستجيبَ به نتنياهو من انفعالاتٍ تخلِطُ الأوراقَ، وتُسرِّعُ وتيرةَ الصِّدام. أمَّا الانتظارُ فإنّه يُهدِّدُ بعودة ترامب بخياراته الخَشِنَة، وفى أقصى الاحتمالات المُريحَة لن تنحرِفَ السيِّدةُ الديمقراطيَّةُ المُلوَّنة عن سياسات سَلَفِها، وستجد نفسَها إزاءَ حقائق حربيَّة وجيوسياسيَّة عليها التعاطى معها، وليس فى مقدورها التحرُّر من ضُغوطها، أو المُبادرة بتطويعها وتوجيهها فى مسارٍ آخر. وبإيجازٍ؛ فإنَّ نتنياهو يواصلُ لعبةَ «تقطيع الوقت» لاستدراج الخَصم الأكبر، مثلما مارسها لتحقيق أهدافه الميدانيَّة جنوبا، وقد بات مَعلومًا أنها انحصرت فى تخليق عِبرةٍ قاسية على تُرابِ غزَّة، و»كَىِّ الوَعى» الفلسطينى بما يردَعُه عن تكرار المُغامرة، ويُمكِّنُ من إعادة بناء مُعادلة الرَّدع على صيغةٍ أشرس من السابق. وغايتُه اليومَ ليس أنْ ينتزعَ إقرارًا بالهزيمة من الحركة أو الحزب؛ إنما أنْ يَبقَيَا على الثغور كما هُما، وأن تبقى الحناجرُ صاخبةً لأقصى مدىً، فتزداد فُرَصُه فى استفزاز الغريم الشِّيعىِّ وتهييجه، وتتضاعَفُ احتمالاتُ قُدرتِه على استدعاء الحليف الأمريكى وتوريطه فى المُستنقَع.
أخلاقيًّا، يستنكفُ البعضُ لَومَ الفصائل الغَزِّية على أنها مارسَتْ حقَّها المشروعَ فى المُقاومة، وبالمنطقِ ذاتِه لم تكُن الغالبيَّةُ تنتظرُ من محور المُمانَعة إلَّا الدعم والإسناد؛ وإن كانا بدرجةٍ أكبر مِمَّا مُورِسَ بالفعل. لكنَّ السياسةَ والنضالات الوطنية والوجوديّة لا تُقاسُ بالأخلاق فى معانيها البسيطة؛ بل بالمصلحة والتناسُب وتحصيل المُكتسبات بأقلّ الأضرار. وفى هذا تَغيمُ الصورةُ فى عُيون البعض؛ فإذا كان لحماس أن تُدافع عن قضيَّتها بالسلاح، مهما كان هائجًا ومُقامرًا بالمُتاح طلبًا للمستحيل؛ فلا سبيلَ إلَّا الاصطفافَ معها ولو أخطأت فى التقدير والحساب، وبالتبعية لا يُقبَلُ أن يُعرَضَ الحزبُ، ومن خلفه إيران، على ميزان النقد والمُساءلة. وهذا بالضبط ما يخلقُ المشكلةَ، ويُحبّه العدوُّ ويتمنَّى استمرارَه؛ إذ تتقدَّمُ العاطفةُ لتحكُمَ الميدانَ وتفرضَ قانونَها على العقل، وتُؤخَذُ الأمورُ بشعبويَّةٍ وانفعال، بدلاً من واجب الاعتراف بالخطأ وفضيلة المُراجعة والتصويب. فنَصيرُ رابحين بألفِ قتيلٍ منهم ولو دَفَعْنا 40 ضِعفًا مِنَّا، وصامِدِيْن طالما تطلُعُ أصواتُنا ولو أُحرِقَتْ الأرضُ وتهدَّمت البيوتُ على ساكنيها، وقادرين على المُواصلة دون أُفقٍ واضح ما تأخَّرتْ الضربةُ الكاسحة. وهكذا يُديرون الحروبَ على ما يشتهى العدوُّ؛ ويُصدَمون بالخسارةِ فى كلِّ مرَّةٍ، كما لو أنهم ما عاشوها سابقًا، ولا ساهموا فى صِناعتها بالخِفَة والاستخفاف. إنها مأساة الزمن الدوّار، ودوّامة الخطايا المُتكرِّرة، وفجيعة الاكتفاء بالانتصار فى معارك الكلام، والانكسار فى حروب الميدان.