قال مرصد الأزهر لمكافحة التطرف ، إن مناخ التوتر الذي تعانيه البلدان الأوروبية -وعلى رأسها فرنسا- بسبب الموقف الإعلامي الأكاديمي الثقافي والسياسي الذي تنتهجه أغلب تلك الدول تجاه القضية الفلسطينية، مع انتشار خطاب الكراهية على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة دون رادع، قد أسهم في ارتفاع مؤشر العنصرية داخل المجتمع الفرنسي بوقائع استهدفت اليهود والمسلمين على السواء.
وتابع المرصد فى تقرير له لكن أعمال الكراهية ضد الإسلام والمسلمين اتخذت أبعادًا خطيرة للغاية، وتفاقمت في السنوات الماضية لتصل إلى ذروتها بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023؛ فقد ذكرت وزارة الداخلية الفرنسية، أنه منذ هجوم السابع من أكتوبر 2023 ارتفع مؤشر "الأعمال المعادية للسامية" بفرنسا كما سجلتها "دائرة حماية الجالية اليهودية" (SPCJ) - أي الأعمال المبلّغ بها أو المشكو منها - من (43) عملًا في سبتمبر 2023 إلى (563) في أكتوبر 2023، و(504) عملًا في نوفمبر 2023. وفي النصف الأول من عام 2024، بلغت الزيادة (300%).
وفيما يتعلق بالتصدي لتصاعد حدة وتيرة "الأعمال العنصرية ضد الإسلام والمسلمين" عقب أحداث السابع من أكتوبر 2023، اختار الرئيس "إيمانويل ماكرون" عدم المشاركة في التظاهرة التي نُظِّمت بمبادرة من رئيسي الغرفتين النيابيتين "جيرار لارشيه"، و"يائيل برون- بيفيه"، للتنديد بظاهرة "معاداة السامية"، وهو ما تسبب في انتقادات لاذعة من أحزاب اليمين والتجمع الوطني، ليرد عليهم رئيس الجمهورية الفرنسية من سويسرا بعد أن أزعجته الانتقادات، بقوله: "دوري ليس تنظيم المسيرات، وإنما دوري في هذه الفترة هو متابعة الحفاظ على وحدة الدولة، وألا أضع فريقين من النسيج الفرنسي في مواجهة مع بعضهما بعضًا"، مضيفًا: "لا يمكننا محاربة معاداة السامية من خلال التشهير بمواطنينا المسلمين"
وبدورها أظهرت الصحف الفرنسية، الصادرة يوم السابع من أكتوبر 2024، أن الهجوم الذي شنته حركة "حماس" ضد "الكيان الصهيوني" كان له تداعيات سياسية واجتماعية كبيرة تسببت في انقسامات داخل الوسط السياسي، وكذلك في صفوف المجتمع الفرنسي، علاوةً على تصاعد حدة وتيرة الأعمال "المعادية للسامية"، وكذلك "الأعمال العنصرية ضد الإسلام والمسلمين" على الأراضي الفرنسية. وبمناسبة مرور عام على هجوم السابع من أكتوبر 2023، أجرت منظمة "ديستان كومون" (Destin Commun)، دراسة جديدة لوجهات نظر المجتمع الفرنسي بشأن ارتفاع حدة وتيرة ظاهرتي: "معاداة السامية" و"كراهية الإسلام"، مستندة إلى مسح كمي، وحلقات نقاشية مع فرنسيين من اليهود والمسلمين؛ من أجل إظهار رؤية فرنسا المستقطبة حول هذا الصراع، وفك شفرات التصورات لدى الفرنسيين ككل، ولدى الطائفتين المعنيتين بصفة خاصة.
وأظهرت الدراسة أن الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة عقب هجمات السابع من أكتوبر 2023، بعيدة كل البعد عن استقطاب قوى داخل المجتمع الفرنسي. وفيما يلي ملخص نتائج هذه الدراسة:
فرنسيان من أصل 10 لم يفضلوا معسكرًا على آخر، حتى مع ملاحظة ارتفاع طفيف في الدعم للفلسطينيين (+ 4 نقاط مقارنة بنتائج شهر فبراير 2024).
ما يقارب من 6 فرنسيين من أصل 10 (أي 57%) يعتقدون أن يوم السابع من أكتوبر قد عزز تعاطفهم تجاه الجالية اليهودية، وهو رأي أغلبية الناخبين.
في الوقت نفسه، أعرب (63%) من الفرنسيين عن استيائهم من التستر الإعلامي الحالي على الضحايا المدنيين في غزة، وهو رأي الأغلبية مرة أخرى لدى جميع الناخبين، باستثناء ناخبي حزب "الجبهة الوطنية" (49%).
نسبة (64%) من الشعب الفرنسي تعتقد أن لإسرائيل الحق في الوجود وطنًا للشعب اليهودي، كما أن ثلثي الشعب الفرنسي ممن يستنكرون إخفاء عدد الضحايا المدنيين في غزة، يعترفون أيضًا بحق إقامة الدولة العبرية. ويزداد هذا الرأي مع التقدم في العمر، ولكن (34%) ممن تتراوح أعمارهم بين (19 - 24) يتفقون مع هذا الحق.
وفيما يتعلق بظاهرتي: "معاداة السامية" و"كراهية الإسلام"، توجد مخاوف واضحة لدى غالبية الشعب الفرنسي، ولكن تظهر فروق مهمة:
ثلاثة أرباع الشعب الفرنسي يصرحون بأنهم منفتحون على أن يكون لديهم أصدقاء يهود (76%) أو مسلمون (73%) مثلهم مثل الأصدقاء من طوائف أخرى داخل المجتمع الفرنسي.
نسبة أكبر من الفرنسيين تشعر بالقلق إزاء معاداة السامية (73%)، والعنصرية (72%) مقارنة بـ "كراهية الإسلام" (61%)، حتى ولو ظل هذا القلق واضحًا للغاية لدى الأغلبية.
واحد من كل اثنين من الفرنسيين (50%) يعتقدون أنّ فرنسا ليست دولة آمنة لليهود، بينما يعتقد (34%) فقط ذلك الأمر بالنسبة للمسلمين.
ما يقرب من ثلثي المسلمين الفرنسيين (63%) يعتبرون أنّ فرنسا ليست بلدًا آمنًا للمسلمين.
من الضروري الفصل الدقيق بين طرق وصف العداء الذي قد يواجه اليهود والمسلمين في فرنسا. فبالنسبة للمسلمين، يتعلق الأمر أساسًا بالتمييز المعادل للعنصرية، لا سيما في القطاع المهني؛ أما بالنسبة لليهود فالأمر أكثر تعلقًا بالسلامة والمخاطر الأمنية.
ولكن هذا القلق المرتبط بمعاداة السامية أو كراهية المسلمين لم يمنع الفرنسيين من البقاء متمسكين بحرية التعبير: إذ نرى أن أكثر من (70%) من الفرنسيين يأسفون لأي انتقاد موجه لليهود أو المسلمين، فهو بمثابة عمل معادي للسامية أو للإسلام؛ علمًا بأن الأصغر سنًّا (18-24 عامًا) فقط يؤيدون بالأساس حرية التعبير الخاضعة للرقابة تجنبًا للإساءة إلى فصيل معين.
وفي الحلقات النقاشية، يستنكر اليهود والمسلمون غالبًا الدعابات "غير اللائقة" تجاههم، فهي -حسب رأيهم- تُغذي مناخ العداء. وللكشف عن أسباب تصاعد حدة ظاهرة "معاداة السامية" على الأراضي الفرنسية، ذكرت الدراسة أن الفرنسيين لا يستشهدون في المقام الأول بالخطابات السياسية أو التفاعلات المجتمعية، ولكن بالأحرى يذكرون الأسباب الجيوسياسية: فهم يحمّلون سياسة "الكيان الصهيوني" في المقام الأول المسئولية تجاه الفلسطينيين.
وخلصت الدراسة إلى أنه بعد مرور عام من "الصراع المميت"، فإن ما يقرب من نصف الشعب الفرنسي (48%) ما زال متفائلًا بشأن قدرة اليهود والمسلمين على التعايش في وئام على التراب الفرنسي. وتتوافق هذه الرؤية مع ما عبر عنه المعنيون أولًا في الحلقات النقاشية: فبقطع النظر عن التوترات المرتبطة بالصراع في الشرق الأوسط، فإن التعايش بين اليهود والمسلمين داخل النسيج الفرنسي يبدو صحيًّا على وجه العموم.
مما سبق يتضح أن هذه الأحداث قد أثرت تأثيرًا مباشرًا في المجتمع المحلي الفرنسي، وأحدثت توترات اجتماعية وثقافية ودينية، وعززت الانقسامات بين نسيج ذلك المجتمع بسبب الزيادة المطردة في حالات التمييز والعنف الطائفي، والمشاعر السلبية والانعزالية بين الطوائف الدينية. لذلك يجب على المجتمع الفرنسي بذل مزيد من الجهود بغية تعزيز مبادئ التسامح وتقبل الآخر والتفاهم المتبادل بين الثقافات والأديان، لتفادى الآثار السلبية، وتحقيق الانسجام والتعايش السلمي بين طوائف المجتمع الفرنسي.
وللتصدي بصرامة لهذه الظواهر السلبية التي تُعكر صفو النسيج المجتمعي، وتؤجج نيران الكراهية والفرقة بين طوائف المجتمع الواحد، يجب التصدي بحزم للتيارات والجماعات المتشددة التي تروج لخطاب الكراهية وأعمال العنصرية، مع التوعية بأهمية التعايش السلمي وتعزيز قيم الاحترام المتبادل بين الثقافات والأديان. وكذلك تعزيز التعاون بين طوائف النسيج الوطني ومؤسسات الدولة لتعزيز التضامن وبناء جسور التواصل من أجل خلق بيئية مجتمعية آمنة صالحة لتعزيز شعورهم بالانتماء والأمان داخل المجتمع، إضافة إلى حث وسائل الإعلام على تقديم تغطية إعلامية متوازنة ومسئولة للقضايا ذات الصلة وتجنب تأجيج الانقسامات داخل المجتمع.
كما يمكن تعزيز دور المجتمع المدني في مكافحة الكراهية والتمييز، وبناء مجتمع أكثر انسجامًا وتعايشًا وتسامحًا على التراب الفرنسي، وذلك من خلال إعداد حزمة برامج توعوية وتثقيفية عن أهمية التصدي للظواهر السلبية، وتعزيز قيم التسامح والاحترام المتبادل. كما يجب تشجيع المنظمات الفاعلة والمؤسسات الحكومية على المشاركة في الأنشطة المجتمعية المتعلقة بتعزيز التعرف على الآخر، وبناء جسور التواصل بين مختلف الثقافات والأديان. كما يمكن استغلال وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الوعي، وتعزيز المشاركة في الحملات الدعائية والإعلامية التي تكافح الكراهية والتمييز، مع دعم المبادرات الإبداعية التي تهدف إلى تعزيز قيم التسامح والتعايش، وتحارب الكراهية والتمييز.