كالعادةِ، أخذتنا مناخات الحرب من النظر فى مُنطلقاتها، وأرخَتْ ستارًا سميكًا على جُذورها العميقة فى الوعى، والتأسيس الثقافى والأيديولوجى للصراع، وإذا كان الخروجُ من دائرة النار أولويَّةً ظرفيّة، لكَبحِ التوحُّش وإنقاذ الأبرياء؛ فإنَّ تطويقَها فى مهمَّة إطفائيَّةٍ، والعمل على ضمان ألَّا تندلِعَ مُجدَّدًا، أقلّه بالحِدّة والضبابية نَفسَيهما، يقعان وُجوبًا فى نطاق الفِكر لا القوَّة، والفَهم لا الإغراق فى السرديَّات المُضلِّلة. أمَّا الحاجةُ لتفكيك الصورة المُركَّبة، والبحث فى تفاصيلها التى قد يراها البعضُ تَرَفًا فى غير أوانِه، فلعلَّها أهمُّ ما تحتاجُه القضيَّةُ من أبنائها وداعميها، ولا شىءَ أدلَّ على ذلك من أنها آخرُ ما يطلبُه العدوُّ، بل ويتشدَّدُ فى مُراوغتِه والتهرُّب منه. إذ الانطلاقُ من تعريفٍ خاطئ يضمنُ له أنْ تنتظمَ اللُعبةُ بالشروط التى أقرَّها، وبما لا يسمحُ بإعادة تحرير قواعدها أو ترسيم حدود الملعب.
والحال، أنَّ البقاءَ على صيغة نزاع الأُصوليَّات، وتقابُلات الوطن اليهودى مع دعايات إلقاء إسرائيل فى البحر، لا يُحقِّقُ للأخيرة غرضَ إدامة الورشة الإفنائيَّة بتبدُّلاتٍ طفيفةٍ من زمنٍ لآخر فحسب، إنما يُصَعِّبُ على طالبى الحقوق أنْ يتعرَّفوا لأنفسهم، ويروا ما فى المُعادلة من اختلالاتٍ ظاهرة، ناهيك عن امتلاك الطاقة الإقناعيَّة اللازمة لمُخاطبة العالم، أو الإفلات من فخِّ النزاعات البينيَّة والانقلاب على الذات فى انقساماتٍ داخليَّة مُتوالية.
بُنِيَتْ دولةُ اليهود على صِفَةٍ دينيَّة لها صِبغةٌ عُنصريَّة، والالتباسُ أنها حوَّلَتْ العقيدةَ إلى عِرقٍ؛ فصارت الهُويَّة الروحيّةُ بديلاً عن شروط الانتماء المادىِّ، وهذا إن كان غريبًا على المعرفة العلمية بالعقائد والأعراق، فإنه تلاقَى من زاويةٍ مع ما اعتمدَه العربُ منذ تأسيس امبراطوريَّتِهم تحت رايةٍ إسلاميَّة، ولسابقِ الخبرة الطويل؛ كان سهلاً على المشغولين بفلسطين، بالعاطفة لا العقل، أن يبتلعوا الخديعةَ مُبكِّرًا، دون انشغالٍ بما قد يترتَّبُ عليها فى المستقبلِ من تحريفٍ للمَظلَمة وتشويهٍ لحقيقة الصراع. الفكرةُ المُجرَّدة أنَّ مجموعةً بشريَّةً انقضَّت على أرضِ غيرِها، وطبيعة انتماء المجموعتين أو تعريف كلِّ منهما لنفسِها لا يُغيِّران من حقائق المسألة.
أمَّا الذهابُ إلى أنها أرضٌ عربيَّةٌ بالمعنى العِرقىِّ، أو من بقايا تركة الخلافة العثمانية الساقطة، فإنه يُبرِّرُ لدى القوى الغربية الصاعدة على أكتاف حربَين عالميَّتين، الإيغالَ فى تفعيل منطق التغلُّب بالقوَّة وفَرض شروطِها الإذعانيّة على المهزوم، وقد طُبِّقَ عَمليًّا على ألمانيا وإسطنبول وغيرهما، كما أنَّ صِفَةَ الوَقف الإسلامىِّ تُذكِّرُ مُباشرةً بمُدوَّنة الحروب الصليبية الطويلة، وتنتدبُ جيوشًا لا حصرَ لها من ذَوى النزعات المسيحانيَّة، لإسناد الفريق المَعنىِّ بتحقيق العودة الثانية للمسيح، والمبدأُ القانونىُّ والأخلاقىُّ إن كان عَصيًّا على الإنكار والإسقاط، ولو اختُرِقَ مُؤقَّتًا لحساباتٍ تحكمُها انحرافات النظام الدولى وأعرافه الظالمة، فإنَّ مُفارقتَه إلى قاعدةٍ من التفسير الميتافيزيقىِّ المُتخفِّى فى السياسة، مِمَّا لا يقبلُ الحَسمَ أو الاتفاق، ويقضى بالدخول فى احتراباتٍ وُجوديَّة تتناسلُ فيها المعاركُ من بعضها، وحال استحالة أن يتسلَّطَ طرفٌ على الآخر بالشطب والإلغاء الكاملين، فالبديلُ المُباشِر ألَّا يخرجا من الميدان، وألَّا تتوقَّفَ ساقيةُ الدم عن الدوران.
نشأتْ المُقاومةُ فى أوَّلِها عروبيَّةً إسلاميَّة، ولمَّا تعرَّضَتْ لانتكاساتٍ مُتلاحقة، أفضَتْ بحُكم الضرورةِ إلى تعريفٍ جديد، وسواء كان الفاعلون فى «مُنظَّمة التحرير» يضعون أياديهم على جوهرِ الأزمة، أو صادفوه فى رحلة الشتات والفوضى، فالمُحصِّلةُ أنهم تخلَّصوا سريعًا من إخوانيَّتهم وبَعثيَّتهم، وصار الرباطُ مع الدائرة العربية أقربَ إلى قضاء الجغرافيا والثقافة المشتركة، دون افتراضِ أنها شريكٌ أصيلٌ فى المُنازعة أو قادرةٌ على تصفيتِها وفقَ رؤيتها. أمَّا الإزعاجُ الوحيد الذى أصابَ تلَّ أبيب، فكان فى زمن العبور المصرىِّ لقناة السويس، وتحت راية الدولة الوطنية، بعيدًا من أيَّة انتماءاتٍ أوَّليّةٍ أو شعاراتٍ عاطفيّة مُتضَخِّمَة، والشاهدُ أنَّ العدوَّ انتصر على المجموع إذ هو مُغرِقٌ فى العِرق والدين، وانكسر أمامَ الفرد عندما تسلَّح بنقاء هُويَّته، واعتمد المداخلَ الموضوعيَّة لخَوض الحروب والخروج منها.
وعليه؛ فلم يكُن غريبًا أن يكتشفَ الصهاينةُ أنهم ينحسرون فى مواسم الانتفاضات الوطنيَّة، ويزدهرون فى أجواء التديين والتطييف والعَرْقَنة؛ لذا فإنهم بقدرِ ما انشغلوا بتطويق الهُويَّة الفلسطينية، مُمثَّلةً فى عرفات وسلطته، فقد عملوا على انتخاب وترقية هُويَّةٍ بدائيّةٍ بديلة، تمثَّلَتْ وقتَها فى «حماس» التى وُلِدَت من رَحم الانتفاضة الأُولى، وكَبُرت وترقَّت تحت ظلال حكومات اليسار واليمين فى إسرائيل، وأُرِيدَ منها أن تكون مُبرِّرًا دائمًا لتشويه جوهر الصراع النقىّ، وذريعةً مُؤجَّلةً للانقضاض على القضيّة وحواضنها بين وقتٍ وآخر، بالضبطِ مثلما تأسَّس حزبُ الله من سياق الغزو والاحتلال، وترسَّخت رمزيَّتُه عبر مسارٍ طويل من المُناوشات، تكفَّل بأنْ يُعزِّزَ فائضَه من القوَّة، ثمّ يغريه بصَرفِه فى الداخل إلى أنْ صارَ هو ولبنان شيئًا واحدًا، أو بالأحرى صار دولةً فوق الدولة.
وإذا كانت المَظلَّةُ العثمانيةُ بطابعِها الدينىِّ واحدةً من أسباب الأزمة، فإنَّ استمراءَ ذخيرة الشعارات نفسِها مِمَّا ساعدَ على اتِّصال القضية فى الزمن بالخسائر، وانفصالِها عنه بالبقاء على حال النكبة الأُولى. وهو نفسُه الذى فتحَ البابَ لاستنزاف فلسطين من دون كَلَلٍ، مرَّةً تحت عنوان جبهة الصمود والتصدِّى فى مُواجهة الرُّؤية البراجماتية الناضجة للسادات، ومرَّاتٍ من قناة محور الممانعة أو المقاومة فى اختصامٍ مُباشرٍ للسياسة وقُوى الاعتدال. وإذا كانت الأخيرةُ لم تدفَع أجندتَها السِّلميَّةَ إلى الأمام، فإنها ما تاجرت فى الحرب ولا حمَّلَتْ أعباءَها للفلسطينيين.
والنضالُ على هذا المعنى ليس مُنافسةً فى إحماء الميادين وتسعير الخطابات، إنما فى الوصول إلى الطريقة المُثلَى لإدارة المشهد، بما يتجنَّبُ التقهقُرَ على الأقل، إذ مع الإيمان بعُمق الصراع، وأنه ليس من فئةِ المُنازعات التى تُحسَمُ بالنوايا، أو بمعركةٍ مهما بلغَ مداها، يكونُ التثبُّتُ والاحتكامُ للعقل فرضًا يتقدَّمُ على ما عداه من نوافلَ ومَكرُمات، أمَّا الإغراقُ فى الخطابات الحارقة، فلا يفعلُ شيئًا إلَّا إضعاف الضعيف وتغليب المُتغلِّب بالقوّة، وبدء الحرب بعد كلِّ جولةٍ من نقطةٍ ارتداديَّةٍ عن سابقتِها، أو من الصفرِ تقريبًا.
الوصولُ لهذا الاستخلاص إنما يكشفُ عن تشابُكاتٍ عميقةٍ بين الأُصوليَّتَين، اليهودية الصهيونية والإسلامية الجهادية، والقصدُ ليس أنَّ المُنتمين للقضيَّة يتواطَؤون عليها مع العدوِّ؛ ولكن أنَّ تشابُه المُنطلقات وزوايا النظر، والارتكانَ لمرجعيّاتٍ مُتكَلِّسَةٍ وإلغائيَّة حتى لبَقيَّة الطَّيف داخل الجبهة الواحدة، يلعبُ دورَ الوسيط من دون وعىٍ بين الخصمين، ويُؤسِّسُ لعلاقةِ تخادُمٍ نَشِطَةٍ يرتبطُ فيها الطرفان ببعضِهما وُجودِيًّا. إنَّ تعريفَ إسرائيل لنفسِها على قالب الدولة الدينيّة يُحفِّزُ الضِّفَّةَ المُقابِلةَ على تخليق استجاباتٍ من العجينة ذاتها، وتلك الاستجابةُ تُسوِّغُ للصهاينة سَرديَّتَهم عن المحيط المُعادِى وحرب الهُويَّات المُقدَّسة، وهكذا فى دوَّامةٍ جُهنَّميّة لا تنكسرُ سَطوتُها ولا يتباطأ دورانها.. وسواء حضر الوعىُ بالمُنزَلَق أو غاب، فإنّه لا يُغيِّر شيئًا من حقيقة المُطاردة الدائريَّة التى لا أملَ فى مُفارقتِها، كما لا مَفرَّ من الوقوع على كثيرٍ من التطابُقات فيها، من أوَّلِ التأسيس الميتافيزيقىِّ وإلى عناصر الخطاب، وطبيعة النظر للآخر، القريب قبل البعيد.
عندما انقلبت «حماس» على السُّلطة عقب انتخابات 2006 لم يكُن اختلافًا على أجندة أوسلو أو شخوص القيادة فى رام الله، بقدر ما هو خلافٌ على التركيبةِ كلِّها، وعلى مَوضعِها من مُكوِّنات المشهد الوطنىِّ كما يراه الإسلاميِّون. الحركةُ ما انخرَطَتْ على الإطلاق فى مُنظَّمة التحرير، ولا أقرَّت بزعامة عرفات وقتما كان يُحقِّقُ نجاحاتٍ ملموسةً على الأرض، بل اعتمدت مَنطقًا أقربَ للتقيّة والمُداراة. والفكرةُ أنها تنطلقُ من ثابتٍ أُصولىٍّ لا يرى إسرائيل، ولو فَرضَها القانونُ الدولىُّ وفرَضَتْ نفسَها بقُوّة السلاح.. وعليه، فإنَّ كلَّ مَنْ لا يُلاقيها على قناعاتها، يُساقُ بالضرورةِ إلى زُمرة المُفرّطين، وهذا أخفُّ التعاريف بالنظر إلى حسبانهم فى بعض الحالات على الطابور الخامس والصهيونيَّة المُتخفّية.
وبحسبِ رُؤيتِها، يحقُّ لها أن تحتكرَ القضيَّةَ بكاملِها، وأن تنتدبَ رايتَها نيابةً عن عَلَم الدولة، وهى إن صعدتْ للحُكم بأصوات الفلسطينيين فإنها الديمقراطية التى تُشبِه المناشفَ الورقيَّةَ، فتُستَخدَم لمرَّةٍ واحدةٍ ثمّ يُقالُ لها «باى باى»، على طريقة على بلحاج فى مشهد جبهة الإنقاذ الجزائرية خلال التسعينيات، وهذا إن كان يتَّخذ صِفَةً قريبةً من تُراث المنطقة فى نزاعات القصور؛ فإنه لا يختلفُ فى عُمقِه عن فلسفة الفئةِ المُطَهَّرة وسط بحرٍ من الدَّنَس.
فكرةُ الطُّهرانية تُمثّلُ الجذرَ التأسيسىَّ للعنصرية، وإن رآها الناس على معنىً مُغاير، فإنَّ اليهود يفترضون فى ذواتِهم أنهم شعبُ الله المختار، وهُم الأنقياء بينما غيرهم من «الجوييم» أنجاس، مهما كانت ألوانهم أو عقائدهم ولُغاتهم، وعنوان «الأغيار» لا يغيبُ عن وعى الأُصوليَّة الإسلامية وإنْ بتدليلٍ بيانىٍّ وشرعىٍّ مُختلف، إذ معيارُ الشهادة بالنقاوة والاستحقاق يتَّصل بالتشارُك فى فصلٍ بعينِه من المُعتَقَد، ولا تكفى منه المُشتركَاتُ العريضة، وإذا قلَبْنا الصورةَ رأسًا على عقب، فإنَّ «الشيعيّة المُسلَّحة» فى الزمن الراهن تلعبُ لُعبةَ الصهيونية من طرفٍ خفىٍّ، ولا جدارةَ لأحدٍ لديها إلَّا بمقدارِ ما ينتمى لرُؤيتها، ويجتهدُ فى إسنادها. هكذا يبدو «حزبُ الله» الذى يجهلُ الفارسيَّة أقرب إليها من الكُردِ والأذربيجانيين وغيرهما من أقليّات إيران، وسُنّةُ «حماس» أقرب من سُنّة الأحواز، والراحل حسن نصر الله يصفُ طائفتَه بأنهم أشرفُ الناس وأخلصهم، ولا يجدُ غضاضةً فى تخوين طوائف لبنان جميعًا ورَميها بالتخاذُل والتفاهة، لأنهم يعتمدون خياراتٍ وطنيَّةً لا تتّفق مع الأجندة المُكلَّف بها من وَلِيّه الفقيه.
هكذا فى داخل إسرائيل من يحملون جنسيَّتَها ولا يُحسَبون بين أولويَّاتها، وفى إيران أيضًا. واليهودىُّ المُقيم فى أطراف آسيا أو أعماق أمريكا اللاتينية، أقربُ من العربىِّ المسيحىِّ أو الدُّرزىِّ الذى يشتغلُ فى مصانعها ويخدمُ جيشَها، وعلى المذهبِ نفسِه؛ فالإخوان والسلفيّون والشِّيعةُ المُسلَّحون وكلُّ أطياف الأُصوليَّة الإسلامية أقربُ لحماس من أهل فتح، ومن مُنظَّمة التحرير بطَيفها الواسع مهما تفرّقت السُّبلُ واختلفت الأهداف، وإذا كان عَصيًّا على المنطقة أن تُفكِّكَ دوائرَ التنميط الهُويَّاتى واختزالاتها وحُروبها اللاهبة فى الدولة العِبريَّة؛ فإنَّ فى مَقدورِها التشافى وتطهير بيئتها من تلك العِلّة، ذلك أنَّ التحرُّر من سَطوةِ العدوِّ يبدأ بالتمرُّد على سَرديّته، وليس وَقفًا على اختصامِه بالسلاح حصرًا.
والحال أنّه لا أملَ فى مُقاومة الصهيونيَّة بمادَّتها، ولا بأىِّ خطابٍ شَبيه، لأنه بقَدرِ ما يُعرّيها ويخصمُ منها، يُضيفُ إليها فى نواحٍ أُخرى، أو يُشتِّت جبهةَ النضال ويُفصِحُ عن نقاطِ ضَعفِها، وفى الأخير لا تعودُ القوّةُ الوطنيّة مُوحَّدةً فى السياسة أو القتال، كما أنها تتكبَّدُ تكاليفَ الأُصوليَّة الحارقة مرّتين، من الاحتلال إذ يُفرِطُ فى القَتل والإلغاء، ومن المُمانَعة بينما تَتمادى فى تسعير الأجواء، وتنصرفُ عن المعركة أو تصرفُ عوائدَها لحسابها، وعند المَحَكّات الحقيقية تصيرُ الفصائلُ من الأغيار لدى الطرفين، لأنها ليست يهوديَّةً أوّلاً، وليست شِيعيَّةً أيضًا، وتُنتدَبُ للعداوة نيابةً عن بيئتِها لغَرض اختزال الصراع وتشويهه، وتُنتدَب للمُقاومة كرأسِ حَربةٍ مُتقَدّمٍ لحماية عاصمة المحور أو تجنيبها مخاطرَ الصدامات المُباشرة. وبهذا تُمارس لعبة الغيريّة مع مُنافسيها فى الداخل، بينما تُمارَسُ من الخارج.
وإذا كان الفارقُ واضحًا بين الضحيّة والجُناة، فإنَّ اتِّصال أُصوليَّة الداخل بشبيهاتِها من الخارج، يُثيرُ الغبارَ ويُحمِّل الفلسطينيين ما يُفوقُ طاقتَهم، لا يعودُ الخلاف بهذا المعنى على القانون، إذ يتوارى وراء البارود والنار، ولا على القِيَم الإنسانيّة والأخلاقيّة، لأنهما يتشاركان فى العَداوة المُتبادَلة ورغبة الإزاحة الخَشِنَة لو تيسَّرت. علينا دائمًا، وفى كلِّ وقتٍ، أن نُدِينَ الوَحشيّة الصهيونيّة، إنما لا يُمكن أنْ نتجاهلَ أنَّ «حماس» حينما انقلبَتْ أفرَطَتْ فى قتل الغزِّيين المُختلفين فى الأيديولوجيا وألقَتْهم من أعالى البنايات، وحزب الله ما توقَّف عن اغتيال مُعارِضيه حتى وقتٍ قريب، ورأس المحور نفسُه يُنكِّل بالأقلّيات ويُفرِطُ فى أحكام الإعدام لنوازعَ ثيوقراطيَّةٍ طُهرانيّة. والحال أنَّ أخطاءَ الأقرباء لا تُبرِّرُ إجرامَ الغرباء، إنما لا يُعتَدُّ بأنَّ «الأقربين أولى بالمعروف»، وأنْ يُساقَ المعروفُ على صِفَة إنكار الوقائع وغفران الذنوب، وتسويغ الأجندات المُفخَّخة، مع ما فيها من ألغامٍ تطالُ حَواضِنَنا قبل أن تنفجرَ تحت أقدام العدو، هذا لو انفجَرَتْ فيه أصلاً.
تتوحَّشُ تلُّ أبيب لأنها قادرةٌ على ذلك، ومِن خَلفِها إسنادٌ غربىٌّ لا يتزعزعُ أو يلين، أمَّا «الشيعيّةُ المُسلَّحة» فإنها تسيرُ على الدرب، وتَبينُ النوايا من ثناياها وإن أنكرتها. لقد استباحَتْ أربعَ عواصم عربيَّة، وأضعَفَتْ الإقليم بأكثر مِمَّا أضعَفَه الصهاينة، ولها مُحاولاتٌ غير مُنكَرة ضد بيئاتٍ أُخرى آمنة، وعليه، فالفارقُ بين الأُصوليَّتين لا فى الفلسفة أو الغايات إنما فى مدى القُدرة على تفعيل قوّتها الغاشمة، وإظهار البَطش والهَيمنة على الآخر المُختَلِف، وإذ يتضخَّمُ المُكوَّن الدينىُّ ويفرضُ وُصايتَه على منظومة الحُكم، فإنه يتخفَّى فى السياسة، فيُراوغ فى الأقوال وتكشفُه الأفعال. إنها التقيّةُ التى جَرّبها الإخوانُ فى مصر حتى تجاوزوا الحاجة إليها، واعتمدها الحزبُ فى لبنان إلى أن ابتلعَ الدولة، وكانت سلاحًا خَفيًّا فى جيش الدولة العِبريَّة قبل أن تُجاهِرَ بوَقاحتِها الفجّة فى يونيو 1967 وما بعدها. وعلى خلافِ المُعتقدَات والمذاهب، فليس تفصيلاً عابرًا أن يعتمِدَ الأُصوليّون من السُّنة والشيعة والصهاينة تقنيةً واحدة للخداع وتمرير الأهداف، فتكون مُؤصَّلةً لدى بعضِهم وفقَ قواعدهم الفقهية، وينقلبُ فيها آخرون على أُصولهم الشرعيّة والفِكرية المُعتمَدَة.
لدينا تأصيلُنا التاريخىُّ والمناطقىُّ لكلِّ ما نُعاينُه ونُعانيه من أمراض الأُصوليّة، لكنها بعدما توارَتْ طويلاً بعد موجة التحرُّر ومشاريع النهوض القوميَّة، عادت مُجدَّدًا فى سياقِ أزمةٍ وانكسار، ورغم مَرجِعيَّتها العميقة فلا يُمكن الفصل بين المناخ الذى أنشأ مَوجتَها الجديدة، أو كانت استجابةً مَشروطةً لمُقتضياته، وانطلاقًا مِمَّا قاله ابن خلدون فى الفصل الثالث والعشرين من مُقدِّمَته، عن أنَّ «المغلوب مُولَعٌ أبدًا بتقليد الغالب فى شِعاره وزِيّه ونِحلَته وسائر أحواله وعوائده»، فإنَّ حالةَ التطابُقِ العميقة بين سَرديَّتَى الاحتلال والمُمانَعة، وما يترشَّحُ عنهما من خطاباتٍ وسلوكيَّات، مِمَّا يجوزُ تفسيرُه بمَسحةٍ من المازوخيَّة والافتتان بالعدوِّ، وبينما تُقاسى الضحيَّة من توابع فِكرتِه الوحشيَّة، فإنها تتلبَّسُ بعضَ تفاصيلها على صِيغَة المُحاكاة، أو التِمَاس النصر فيما كان سَببًا لهَزيمتِها، والأصلُ أنَّ تكثيفَ جَرعة السُّمّ لا يُمكنُ أن يُنتِجَ ترياقًا، وإنْ تأكَّد عنه شىءٌ فسيكون تفعيل وظيفته الأساسيَّة فى صناعة الموت بنَهَمٍ، ومن دون أن يشبعَ أو يرتدِعَ. ثمَّة مُفارقةٌ فى التماثُل مع العدوِّ فكريًّا وبنيويًّا، لكنّه وَهْمُ القُدرة على استعارة أدواتِه ثمَّ التفوُّق عليه بها، بإغفالٍ عميقٍ لفَارق السَّبق والخِبرة.
إنَّ العصابات التى أرهقَتْ فلسطين إلى أنْ أسَّست دولتَها، انتحلَتْ وجهَ الشرعيَّة وظلَّتْ على عقليَّتها العِصابيّة، لكنها استشعرَتْ منذ البداية أنه لا حياةَ للمشروع بعيدًا من الصيغة الدَّولَتيَّة، وفى المُقابل يبدأ الآخرون من الصفر تقريبًا، فيُفكِّكون دُوَلاً قائمة على أملِ الوُصول لنُسخَتهم الصافية من المَأسَسة المُؤدلَجة، وهُنا يرتكبون خطأ مُزدوجًا، لأنهم يخوضون الصراعَ مع حاضنتِهم الأَصيلة ومَنْ يُفترَض أن يكونوا ظهيرَهم فى المستقبل، ولأنهم يفعلون هذا مع القضيّة الفلسطينية قبل أن تتعرَّفَ على نفسِها من الداخل بإجماعٍ واقتناع. وإذ تُواجِهُ ميليشيا تحت عَلَمٍ ومَنظومةِ حُكمٍ راسخة، فالغَلَبةُ قطعًا لن تكون لميليشيَّاتٍ لا يجمعُها إلَّا الانتماء لعِمامةٍ، قد تسقطُ بسقوطِها، ويبدو أنه لا فارقَ بين بلدٍ من دون حدودٍ أو دستور، وفكرةٍ أُمَميَّةٍ تتأسَّسُ على تصدير الثورة، ويتحدَّدُ دستورها وحدودها فى عقل الإمام ووفقَ مَرجعيَّته الحاكمة. فكأنهما وجهٌ واحدٌ ينعكسُ فى مرآةٍ غير مستوية، قد يتضخَّمُ أو يتضاءل بحسب تحدُّبها أو تقعُّرِها، لكنه فى النهاية لا يُقدِّمُ إلَّا ظِلًّا مُشوَّهًا من النسخة الأصليّة.
مع تكرار الحوادث وتطابُق مآلاتها، فقد تأكَّدت استحالة الوصول لنتائج مُغايرة بينما تتطابَقُ المسارات فى كلِّ مرّة. يبدأ الانعتاق من القطيعة مع خيارات العدوِّ، ومن مُجافاة أجندته وقواعدِه المفروضة على فلسطين وأهلها، وابتكار بديلٍ من مادّة القضية وتُراثها، لا إلى أيديولوجيا يميلُ ولا حليف، والبديلُ المقصود ليس أن تُفرِّط الفصائلُ فى الثوابت، ولا أن تُفاضِلَ بين حلِّ الدولتين أم الدولة الواحدة، إنما يبدأُ مُبكِّرًا عن هذا بكثير، من استيعاب المحنة والتصالُح معها، وإنجاز تصوُّر موضوعىٍّ للتعايش بين مكوّنات البيئة الوطنية أوّلاً، والانقطاع عن كلِّ الدعايات الصِّفريّة، أكانت تحت رايةِ ميثولوجيا صهيونيَّةٍ أو فانتازيا شِيعيَّة. الحلُّ أن تُحوِّط المُقاومةُ على أرضِها بصدقِ القلب، وتُفكِّرَ لها بحسابات العقل، ولا تخلط بينهما، وأن يتحدَّد الأطهارُ والأغيارُ بمقدار ما يُنزّهون التراب عن حسابات المحاور والأحلاف، ويُوقِنون أنه أسبقُ من الأديان، وأطولُ عمرًا من صراعاتِها المتجدِّدة فى الزمن دائمًا.