قبل عهد الملوك سقنن رع وكاموس وأحمس، لم يكن لمصر جيش نظامى ثابت، وإنما كان حكام الأقاليم يبعثون جنود أقاليمهم للعاصمة فى زمن الحرب، حيث يحتشد الجيش بقيادة الملك، وبعد الرجوع من الحرب كان يتم تسريح الرجال كل إلى شأنه، وبرغم غياب جيش نظامى دائم، كانت مصر دولة قوية.
لكن مصر تلقت الدرس القاسى باحتلال الهكسوس لها حتى اكتمال تحريرها على يد الملك المحارب أحمس، فمنذ ذلك الحين حرص ملوك مصر على وجود جيش نظامى دائم الجهوزية والاستعداد، خاصة أن المشاغبين من أمراء الحرب فى الجبهات الآسيوية والجنوبية والغربية كانت لديهم عادة أن يختبروا أى ملك مصرى جديد بإثارة الاضطرابات والتمردات فى العام الأول من حكمه، فكان الرد المصرى عادة ما يأتى قويا صاعقا! ولهذا أصف الجيش المصرى بأنه من أعرق جيوش الأرض وأقدمها ميلادا.
لم يكتف ملوك مصر بسن تلك السُنة الحسنة للجيش، وإنما أضافوا لاستراتيجيته أنه لا ينتظر أن يطرق باب البلاد عدو خارجى ليستعد للتصدى له، بل أن يكون على استعداد دائم للتوجه لأى مكان خارج مصر لاستباق الغزو والتصدى للعدوان.. من هذا المنطلق كانت حملات الملك أحمس لتطهير سهول بلاد الشام وسواحلها من الهكسوس وتأمين موانئ فينيقيا، وكذلك حملات الملوك أمثال تحتمس الأول وتحتمس الثالث وأمنحتب الثانى وسيتى الأول ورمسيس الثانى ومرنبتاح الأول وغيرهم؛ بل إن مصر قدمت للتاريخ أول معركة بحرية كبيرة عندما خرج الأسطول المصرى فى عهد الملك رمسيس الثالث للبحر المتوسط للتصدى لمراكب غزاة شعوب البحر المدمرة التى أطاحت بدول قديمة مثل خيتا/الحيثيين فى الأناضول، ومملكة اوغاريت - رأس الشمرا فى سوريا حاليا - وسمى عام غزوها 1177ق.م بعام سقوط الحضارات.
وعندما دخلت مصر عصر الاضمحلال واعترى السلطة المركزية الضعف وقامت الصراعات بين مراكز القوى انعكس ذلك على الجيش المصرى، فتراجع شأنه وأدى ذلك لتعرض مصر لغزو الأشوريين ثم الفرس لينتهى العصر الطويل للحضارة المصرية القديمة.
وبقيام دولة البطالمة مقدونيو الأصل فى مصر، اعتمد البطالمة على العنصر الإغريقى فى الجيش على حساب العنصر المصرى، إلا أن ذلك لم يحل دون امتلاك مصر جيشا قويا استطاع فرض نفوذها على سواحل شرقى المتوسط حتى جزر اليونان فى عهدى الملكين بطليموس الأول وبطليموس الثانى، ثم عاد العنصر المصرى لإثبات وجوده بقيام الملك بطليموس الرابع بتجنيد المصريين فى جيشه للتصدى للغزو السلوقى فى موقعة رفح الشهيرة التى انتهت بانتصار مصر، ولكن العهود التالية شهدت صراعات داخلية فى البيت البطلمى وعدم استقرار للسلطة، ما أدى فى النهاية لسقوط مصر فى أيدى الرومان ليبدأ احتلال طويل استمر لقرون.
ولنأخذ خطوة واسعة فى مجرى الزمن، وتحديدا لدولة الطولونيين - أول دولة مصرية مستقلة فى العصر العربى الإسلامى - حيث حرص الأمير أحمد بن طولون وابنه خمارويه على تأسيس جيش مصرى نظامى دائم مكون من عناصر عرقية متنوعة - تمصرت مع الوقت - ليعود للجيش المصرى وضعه المتميز القديم، حتى أن الخلافة العباسية - التى كانت مصر تتبعها شكليا - اعتمدت على الجيش المصرى فى تأمين الثغور الشامية المعرضة لهجمات دولة البيزنطيين/الروم.
فى العصر الفاطمى كذلك امتلكت مصر جيشا قويا، لكن خطأ الفاطميين كان فى أنهم شكلوا الجيش من عناصر عرقية غير متجانسة تمثلت فى التُرك والأفارقة والقبائل المغاربية المهاجرة، فنشأت بين قيادات هذه المجموعات مراكز قوى حرصت على مصالحها الشخصية أكثر من حرصها على وحدة وسلامة البلاد، فكانت نتيجة ذلك اقتتال تلك العناصر فيما بينها وانعدام الأمن الذى ساهم مع الأوبئة وانخفاض منسوب النيل فى فترة الشدة المستنصرية فى عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمى، حتى استدعى هذا الأخير القائد أرمنى الأصل بدر الجمالى، الذى استطاع ببراعة أن يضبط البلاد ويفرض النظام ويتخلص من العناصر المشاغبة، لكن بوفاة بدر الجمالى ثم اغتيال ابنه وخلفه الأفضل شاهنشاه عادت البلاد للفوضى لتنتهى بتعرضها لغزو الفرنجة الصليبيين، وتدخل القائد أسد الدين شيركوه ثم ابن أخيه صلاح الدين الأيوبى الذى أنهى الدولة الفاطمية.
ولننتقل للعصر المملوكى، الذى يعتبر أزهى عصور مصر الإسلامية، حيث كان المماليك مقاتلين يقدسون الحياة العسكرية، فأعادوا إحياء سنة امتلاك مصر جيشا قويا مدربا دائم الجهوزية سريع الاحتشاد والاصطفاف،هكذا امتدت الدولة لتشمل إلى جانب مصر بلاد الشام وجنوب شرقى الأناضول والحجاز ومناطق نفوذ فى اليمن.. وأقول بثقة أن المماليك قد أحيوا نمط «الملوك المحاربين» بإشرافهم المباشر على الجيش ومشاركة بعضهم فى المعارك، وكذلك عدم انتظار أن يطرق العدو حدود مصر، وهو ما تمثل فى نماذج مثل معركة عين جالوت ضد المغول، وكذلك فى نشاط كل من السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس والسلطان المنصور سيف الدين قلاوون وابنه السلطان الأشرف خليل بن قلاوون، لتطهير الشام من الفرنجة المحتلين.. وكان الجيش المصرى فى زمن المماليك نموذجا لما يجب أن تكون عليه الجيوش من تدريب للمقاتلين منذ الصغر وفرض للنظام والانضباط وتأهيل بدنى ونفسى وعلمى، حتى أن اثنين من أهم كتب الاستراتيجيات والتكتيكات القتالية قد وُضعت فى العصر المملوكى وهما «الفروسية والمناصب الحربية» للأمير حسن الرماح معلم القتال فى جيش الظاهر بيبرس وصانع الأسلحة البارع، وكتاب «نهاية السؤال والأمنية فى فنون الفروسية» الذى وضعه محمد بن عيسى الأوسى.
ولكن فى العصر المملوكى الثانى - عصر السلاطين الجراكسة - شهد الجيش ظهور فئة المماليك «الجلبان» وهم المجلوبون كبارا بدلا من شرائهم صغارا، ففاتتهم فرصة تعلم الانضباط والطاعة منذ الصغر، ودأبوا على التمرد وإثارة الفوضى والتعدى على قادتهم، وهو الأمر الذى كان من عوامل سقوط دولة المماليك فى مواجهة الغزاة العثمانيين سنة 1517م، حيث دأب الجلبان على التصدى لأية محاولات لتحديث الجيش وضم الأسلحة النارية الحديثة له بشكل نظامى دائم، إضافة لأن قادة السلطان المملوكى الأخير الأشرف طومان باى قد فاتتهم حكمة عدم انتظار العدو والخروج له، فرفضوا أمره الخروج لمواجهة سليم الأول العثمانى فى الشام، وفضلوا انتظاره فى القاهرة، فكانت الدائرة عليهم، إضافة لعالم الخيانة المتمثل فى الأميرين خاير بك وجان بردى الغزالى.
وبدخول مصر فى عصر الاحتلال العثمانى الغاشم فقدت ميزة وجود جيش قوى يدافع عنها، خاصة وقد تمثلت القوة المسلحة المدافعة عنها فى أوجاقات أو كتائب من الجنود العثمانيين الذين روعوا المصريين بهمجيتهم واستنزافهم ثروات مصر كأنهم شراذم من قطاع الطرق، أو مماليك العصر العثمانى الذين كانوا أقرب للمرتزقة منهم للجند النظامى، فكانت النتيجة الطبيعية هى تقارير الجواسيس الفرنسيين التى رُفعَت للسلطات الفرنسية لتشجيعها على غزو مصر، والتى شجعت نابليون بونابرت على قيامه بغزوها فى حملته الشهيرة فى نهاية القرن الثامن عشر، ليكون هذا هو الدرس القاسى التالى الذى تعلمت منه مصر لتشهد بعد تحررها من الاحتلال الفرنسى القصير قيام أول جيش مصرى وطنى فى العصر الحديث فى عهد محمد على باشا على أيدى الثنائى إبراهيم باشا بن محمد على باشا، والضابط فرنسى الأصل المتمصر جوزيف سيف، الذى سمى بسليمان باشا الفرنساوى.
وللحديث بقية فى المقال القادم إن شاء الله
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة