إذا تصاعد الطَّبلُ فلا تنتظر غناءً. وخلاصةُ المشهد بين تل أبيب وطهران، أنهما يقدحان شررَ الحرب من دون رغبةٍ فى خَوضِها؛ فكأنهما يتنافسان على ابتزاز المنطقة، وينخرطان معًا فى رقصةٍ لاهثة، غايةُ ما يُراد منها أن يبقى الإيقاعُ صاخبًا، والدماءُ ساخنةً فى العروق، وفُرَصُ التهدئة أبعدَ من تحصيلها بالسياسة أو حَسمِها بقوَّة السلاح. إنه صراعُ حناجر لا خناجر، وكلُّ ما دون ذلك من أحاديث الضربات والخسائر المُتبادَلة مُجرَّد تفصيلٍ عابر، لا يتجاوزُ إكسابَ الحالة المسرحية صِفةً إقناعيَّة، تُدخِلُ التلبيسَ على البيئة المحليَّة لكلٍّ منهما، بأكثر مِمَّا تنجحُ فى خداع الآخرين. وضربةُ فجر السبت ربما تكونُ المثالَ الأوضح على علاقةِ التخادُم بين الأُصوليَّتين، وعلى الهندسة المُنضبِطة للصراع بين ذئبين يختصمان فى لحمِ الإقليم، وليس من المصلحةِ المُشتركة أن يغيبَ أحدُهما عن الصورة، بكلِّ ما يُقدِّمه من مُبرِّراتٍ للآخر، ولا أن ينقلِبَ السباقُ بينهما على خريطة المنطقة، إلى صدامٍ عند الذروة بين الصهيونية الإلغائية والشيعية التوسُّعية، بكلِّ ما يجمعُهما من مُشتركاتٍ.
استُدعِيَت إسرائيلُ للميدان تحت لافتة «طوفان الأقصى»، فى واحدةٍ من المرَّات النادرة التى لم تأخُذ فيها زمامَ المُبادرة، أو تكون صاحبةَ الرصاصة الافتتاحية. وسواء جرى الأمرُ باتِّفاقٍ مُسبَقٍ بين حماس وشُركائها فى محور المُمانَعة، أو برغبةٍ فرديّة منها فى توريط الحلفاء؛ فإنَّ ما فعلَه «السنوار» كان أقربَ لاقتراحِ المسار البديل لنتنياهو عن كلِّ أزماته الداخلية، وقد وجدَ فيه فُرصتَه المِثاليَّة للالتفاف على مُعارضته الصاعدة فى الداخل الإسرائيلى، وإعادة تجميع البيئة المُنقسِمة على شعار الحرب الوجودية. وبأثر التضخُّم فى القُدرات، وأوهام القوَّة لدى الشيعيَّة المُسلَّحة، وإفراطها فى التعبير عن الحضور الثقيل من زاوية التمدُّد الواسع ودعايات «وحدة الساحات»؛ كان عليها أن تلتحقَ بالميدان، ولو من هامشٍ بعيد، وبأقل قدٍر مُمكنٍ ومحسوبٍ من الاشتباك. هكذا دُفِعَ «حزبُ الله» على غير هواه؛ ليكون نائبًا عن عمامة المشروع الأيديولوجى السوداء فى الجولة التى اقترحتها فصائلُ غزَّة، ولم تُجهِّز لها برنامجًا كاملاً لتسعير الجبهة أو تبريدها. وتلك كانت هديةَ الأُصوليَّة الإسلاميّة لغريمتها التوراتيَّة؛ إذ فتحَتْ لزعيم الليكود كُوَّةً فى جدار المجتمع اليهودى، قبل أن تخلطَ تُراب القطاع وجنوب لبنان بالنفط والبارود، كما سمحت له بالوقوف على جبل صهيون خطيبًا فى الجموع المُلتاعة عن إلزاميَّة تلبية نداء الأعداء، وخَوض الامتحان على شروط مملكة داود، ولو بدا أنه مَفروضٌ عليها من الخارج، أو أنَّ بالإمكان الانصراف عنه أصلاً. يُشبه ذلك إلقاءَ طَوقِ النجاة لغريقٍ يُشرِف على الموت، وافتراض أنه قد يخشى من احتماليَّة تفخيخه، أو من أنه مشدودٌ بحبلٍ تضطرمُ فيه النار.
أطلقَ القسَّامِيّون رصاصتَهم على غلاف غزَّة، وكان هذا آخرَ عهدِهم بالمُبادأة. وكلُّ ما بعد ذلك حروب يستولِدُها نتنياهو من أرحام بعضِها، أكان فى إبادة القطاع وتحويله عبرةً ماثلةً للعيان، مع ما فيه من إرعابٍ و»كَىٍّ للوعى» وإعادة تشكيل مُعادلة الرَّدع لعقودٍ مُقبلة، أو فى تهييج جبهة الشمال وصولاً إلى تفكيك أُصول الحزب الشيعى بما يتجاوزُ أيَّةَ قُدرة على التعافى السريع، وفى القلب من تلك الاستراتيجية كان التدرُّج فى استدعاء إيران، وعدم الاكتفاء بالوكيل عن الأصيل. ومع الإقرار بأنَّ كلَّ رصاصةٍ أو عملية اغتيالٍ فى الضاحية وخارجها، كانت أقربَ للتصويب غير المباشر على طهران؛ فإنَّ الغاية قد تبدَّت وصارت أكثر انكشافًا منذ استهداف المُجمَّع القُنصلىِّ فى دمشق، وجاهرت بوجهِها القبيح تمامًا مع تصفية إسماعيل هنيَّة فى أحضان الحرس الثورىِّ. وكما لم تمنع «ليلة الصواريخ والمُسيَّرات» فى أواسط أبريل الماضى من الذهاب إلى قلب العاصمة الحصينة؛ كان من المعلوم أنَّ حفلة الباليستى الاستعراضية فى مطلع الشهر الجارى لن تستعيد الرَّدع، أو تُحقِّقَ توازُن الرُّعب المطلوب، وآخر ما يُمكن أن تدُلَّ عليه من معانٍ أنها ستُرتِّب طاولةً جانبيّة للتفاهُمات، تُرجئ المُواجهةَ الشاملة ولا تشطبُها، وتضمن لتلِّ أبيب أن تظلَّ طوالَ الوقت سابقةً بخطوةٍ واحدة على الأقل.
اتَّضحَتْ المُؤشِّراتُ مُبكِّرًا للغاية؛ لكنَّ الغرورَ وحده حال دون قراءتها على الوجه السليم. كانت الرسالةُ من وراء مقتل صالح العارورى فى ضاحية بيروت الجنوبية أكبرَ مِمَّا يجرى فى غزَّة، أو من تتبُّع قادة حماس والتوقيع على أشلائهم ثأرًا من الطوفان. ربما كان القصد أنَّ العدوَّ لا يفصلُ الجغرافيا عن الديموغرافيا، وإن كان البشرُ أهدافًا مشروعةً على مقياسه الحربىِّ المُنفلت؛ فالأرضُ أيضًا لها ذاتُ الصِّفَة بحسب اتِّصالها بالمعركة أو انفصالها عنها، والخطرُ كلُّه حينما تتَّحدُ إحداثياتُ الإنسان والمكان، فيتحقَّق هدفان عزيزان بضربةٍ واحدة. وقد تكرَّر الأمرُ فى التطابق بين الضاحية وفؤاد شكر أوَّلاً، ثمَّ بين هنيَّة وطهران بعد ساعاتٍ قليلة، والمرَّة اليتيمةُ التى حاولت فيها المُمانَعةُ التعقيبَ بالمنطق نفسِه؛ فاستهدَفَتْ منزلَ نتنياهو فى قيسارية جنوبىّ حيفا، بدت كأنها استوعبَتْ القانونَ الجديدَ وبصَمَتْ عليه؛ وقرَّرت الذهاب مع غريمِها إلى مُواجهةٍ خارجَ الأسقُف وقواعد الاشتباك. ومن جديدٍ تأتى مُتأخِّرة، وتُقدِّمُ هديَّةً مجّانيةً لذئب الليكود، وتترُكُ خططَها مُعلَّقةً على الظروف والمُصادفات، فيما يُشبه خِفَّة الهُواة فى ارتجال المواجهات.
ردَّت إسرائيلُ على الحفلة الباليستيَّة فى مطلع أكتوبر، وبحسب المعلومات المُتواترة من الجانبين فقد كان الهجوم واسعًا وغير مُثمرٍ. تختلفُ تل أبيب وطهران على الأرقام والتفاصيل؛ لكنهما مُتَّفقتان ضِمنيًّا على غياب الرغبة فى التصعيد، والسعى لإيقاف المُواجهة المُباشرة بينهما عند النقطة الحالية، ما يعنى بالضرورة أنها إن لم تُحسَمْ سِلميًّا؛ فستنعكسُ التهدئة بين الرأسين، على التصعيد فى الأطراف. بمعنى أنَّ نتنياهو إن كان مَردوعًا لحساباتٍ مُعقّدة عن التصويب على الجمهورية الإسلامية، فإنّه لن يُوفِّر ساحاتِها الرديفةَ من الاستهداف، وهى من جانبِها إن كانت عاجزةً عن اللعب بالأصالة؛ فلن تتقاعس عن تفعيل ورقة الوكلاء. وبينما تُطمئنُ البرودةُ فى الأحوال العادية؛ فإنها فى الحالة الراهنة تفقدُ معناها الطبيعىَّ وتُبشِّرُ بالتوتُّر والإزعاج؛ لا لشىءٍ إلَّا أنَّ حسابات الطرفين لا تنصاعُ طَوعًا للحلول الهادئة، بقدر ما تتلمَّسُ الأرضَ الهَشَّة تجنُّبًا للألغام والمُربكات الطارئة، وتنتظرُ مآلات الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لتبدأ ترسيمَ ملامح الجولة التالية للصراع. وعليه؛ فالصبرُ اليومَ فى حقيقته تعبيرٌ عن انفلاتٍ مُرجَأ، وإن كان الصهاينةُ ينتظرون فيه ترامب للمُجاهرة بكلِّ أوراقِهم الحارقة؛ فالملالى يترقَّبون امتداد الإدارة الأُوباميَّة فى جيلها الثالث، وقد نجحوا معها فى تحقيق كلِّ مُكتسباتهم الكُبرى، وراكَموا القُدرات دون رادعٍ، وتجرَّأوا فى وجودها على تسريع وتيرة الاستشراء فى الإقليم، والرهان الطَّمُوح على المَخْرَج النووىِّ فى اكتساب الحصانة، وأن تنتقل جمهورية الثورة من الخوف مع احتماليَّة التهديد، إلى المَنعَة والاطمئنان باستحالة التنفيذ.
البَونُ شَاسعٌ فى المُعالجات الإعلاميَّة لردِّ إسرائيل على إيران، لا فى الأثر ومِقدار الخسائر فحسب؛ بل من أوَّلِ الحجم ونوعيَّة الأسلحة المُستخدَمَة وطبيعة الأهداف وعددِها. أعلنَتْ طهرانُ عن مقتل اثنين من جنودها؛ لكنها نفَتْ الوصولَ إلى 20 هدفًا على ما تقولُ تل أبيب، وقد زادَتْ الأخيرةُ بأنها دمَّرَتْ قواعدَ وأُصولاً عسكرية، وصارت أكثر قُدرةً على الحركة فى أجواء الجمهورية الإسلامية، ما يعنى ضِمنيًّا أنها عوّقَتْ قُدراتها الدفاعيَّةَ أو ألحقت بها أضرارًا ضخمة. ومع استحالة أن يكون الطرفان صَادِقَين إزاء هذا التضارُبِ العميق فى الروايات؛ فإنَّ أحدهما على الأقلِّ يُمارس الكذبَ، ويصحُّ أنهما يكذبان معًا، باتفاقٍ أو من دونه.. والإشارةُ هُنا أنهما يتحدّثان لُغةً واحدة، مع اختلاف اللهجات والمُفردات المُنتَقَاة؛ إذ لا فارقَ بين أن تكون الضربةُ قاسيةً ويُقرِّر المُرشِدُ استيعابَها، أو أن تكون فارغةً من المضمون ويكتفى نتنياهو بتثبيت الأوضاع الميدانية على حالها، فالموقفُ النهائىُّ أنها عمليَّةٌ استعراضيَّةٌ جَرَتْ بالتراضى فى ظاهرِها وباطِنها، ولولا أنها حقَّقتْ هدفَ الاحتلال ما ارتضاها، وما كان للمُمانَعة أن تحتفلَ بها لو أنها لا تُلبِّى تطلُّعاتها؛ حتى لو أضرَّتْ بصورتِها الذهنية، أو ترتّبت عليها تضحيةٌ إلزاميّة بأمورٍ كانت من الثوابت سابقًا.
بياناتُ الجيش العِبرىِّ تتحدَّثُ عن هجمةٍ مُوسَّعة، ومُشاركة نحو 100 مقاتلة من طرازاتٍ مُتنوّعة، فضلاً على المُسيَّرات وطائرات التزوّد بالوقود، وأنَّ بنك الأهداف تضمَّن أُصولاً عسكريَّة مُهمّة فى نحو ثلاث أو أربع محافظات.. وعلى هذا الحجم؛ فإنَّ المردودَ لا يتناسبُ مع كميّة الحشد وطبيعته، ولا مع التصعيد الخطابىِّ السابق على العملية، بجانب فُسحة الانتظار الطويل لأكثر من ثلاثة أسابيع بين الهجمة والردّ، على غير عادة إسرائيل فى الدفاع عن صورتِها باستعجالِ الرسائل. لقد تشدَّد القادةُ الصهاينةُ فى التصريح بأنها ستكون ضربةً قاصمة، وقال وزير الدفاع يوآف جالانت قبل يومين من تنفيذها، إنها ستُعبِّرُ تعبيرًا صارمًا عن قوّة البلد وإمكاناته، بينما ما ترشَّح عنها كان صخبُ البيانات الإعلامية فيه أعلى من دَوىِّ القذائف والانفجارات. والحال؛ أنَّ الوحشيَّةَ التى أبداها الاحتلال تجاه غزَّة ولبنان، تتناسَبُ بدرجةٍ أكبر مع الحديث المُسبَق عن العملية، لا مع صورتِها النهائية، ما يشى بوُقوعِ تغيُّراتٍ عديدة فى المدى الفاصل بين القرار والتنفيذ، بما فتحَ البابَ لإعادة تعديل بنك الأهداف، وتخفيض كثافة النيران، والاكتفاء بالدعاية عن الإيذاء.
كان نتنياهو مُنحازًا للقوّة الغاشمة؛ لكنَّ خيارَه فى التأجيج بُنِى وُجوبًا على اقتناع واشنطن، وأن تُلاقيه فى المسار نفسِه اتّصالاً بالأدوار المطلوبة منها؛ حال انفلات المواجهة. والمُتغيَّر الأوَّلُ والأهمُّ هُنا أنه ربما استشعرَ انصرافًا من إدارة بايدن عن الجولة، وكونها لا ترغبُ فى الذهاب إلى مستوىً من التصعيد يُهدِّد أُصولَها فى الإقليم، ناهيك عن فُرص كامالا هاريس فى السباق الرئاسىِّ. لقد أرسلَ البيتُ الأبيضُ بطَّارية صواريخ «ثاد» للارتفاعات العالية، وبعد زيارة بلينكن الأخيرة لتل أبيب عقَّب عليها بوحدةٍ ثانية، لكنَّ المُبادرة لنقل ما يفوقُ رُبعَ إمكاناتها من تلك المنظومة لا تعنى أنها تتحضَّرُ للحرب، أو ترتضى وقوعَها؛ بل ربما كانت تستخلِصُ من صورة المُبالغة فى الإسناد، معنىً مُغايرًا لما يُمكِنُ أنْ يفهمَه الناظرون من الخارج. بالضبط مثلما سارعت فى باكورة «الطوفان» لإرسال حاملات الطائرات، وتعزيز قُدرات مراكزها المُنتشرة فى الإقليم، بل والدفع بمخطِّطين عسكريين وقوات من المُتخصِّصين فى تحرير الرهائن، من أجل العمل مع الإسرائيليين فى غرفة العمليات، وكان المُراد بجانب رَدع الخصوم، أن تردعَ نتنياهو نفسَه عن خياراتِه النَّزِقَة، ولعلّها نجحت إلى اليوم فى إبقائه تحت السقف المقبول أمريكيًّا، والدليل أنه لم ينفُذ لغايته المًصرَّح بها سَلَفًا، باستدعاء إيران بالأصالة إلى ميدان القتال.
لو سلّمنا بمزاعم نتنياهو عن الحرب فى سبع جبهات؛ فعلينا أن نزيدَ العدد إلى ثمانية. فواقعُ الحال أنّه فى مُواجهةٍ غير مكتومة مع الحليف الأمريكىِّ، وما يمنعُ من تظهيرها أنَّ الولايات المتحدة فى مَوسمِ انتخابات، وأنَّ رخاوة حاكمِها العجوز عبّرت عن انكشاف واشنطن تجاه تلّ أبيب بأفدح الصُّوَر المُمكنة. الشائعُ أن إسرائيل بُنِيَت بحجارةٍ بريطانية، وفُرِشَتْ بأثاثٍ أمريكىِّ، ومن يومِها يملكُ مُهندسُ الديكور يدًا عُليا على ساكن البيت؛ لكنّه ليس تصوّرًا دقيقًا على كلِّ حال، أو لعلّه تبدَّل مع صعود اليمين فى الدولة اليهودية، وانحطاط مستوى الطبقة السياسية فى عاصمة الضمير والحريَّات. سقطَتْ مبادئ ويلسون عن الحق فى تقرير المصير، مثلما أُزِيحَ تُراث أيزنهاور المُنحاز لمصالح بلاده فوق كلِّ اعتبارٍ؛ ومهما تلبَّست الاعتبارات صِفَة القداسة الدينيّة، أو ادَّعت تمثيل قِيَم الحضارة الغربية فى الشرق، ولَعِب دور القاعدة العسكرية المُتقدّمة لحساب سرديّة الرجل الأنجلوساكسونى الأبيض. وما آلت إليه الأوضاعُ بعد ارتباكٍ هُنا وهناك، أنَّ الصهاينةَ أظهروا أسوأ ما فيهم، ولم يعودوا فى حاجةٍ للبحث عن ستائرَ وأقنعةٍ مُستَعَارة، والأمريكيِّين صاروا مفعولاً به من الابن الصغير؛ وإن أنكروا. وتتعاظَمُ الفداحة بالنظر لتركيبة القيادة فى الناحيتين: رئيس حكومة مفتون بذاته ولديه نزوعٌ فاشىٌّ لا يُنكِره، ورئيس ديمقراطى مُطوَّق بقيود السنّ والضعف، ومن قبلِها بصهيونيَّته المُفرِطة.
لا قيمةَ للأرقام الصادرة عن الطرفين؛ فقد أصاب كلٌّ منهما غايته من الردِّ على الردّ. إسرائيلُ تصخبُ للتعبير عن فاعليّتها وتسلُّطها على محيطِها القريب والبعيد، وإيران تربطُ خصرَها وتبدأ رقصةَ الاحتفال بالنجاة على أطلال العدوِّ الشائخ، وكلاهما يتحضَّرُ مُباشرةً للجولة الجديدة؛ أكانت فى غزَّة وجنوب لبنان أم فى أيَّة ساحةٍ بديلة. باختصار؛ يُهوِّلُ الصهاينةُ من حجم الضربة لتحصيل أثرِها المعنوىِّ بعيدًا عن خِفّتها المادية، ويُهوِّن منها المُمانِعون تمسُّكًا بخِفَّتها على الأرض، بديلاً عن وجوبيّة الاحتكام لرمزيّتها الدعائيَّة بما تُرتّبه من استحقاقاتٍ ساخنة. والانسجامُ الغريبُ بينهما إنما يُشيرُ لصفقةٍ أُبرِمَتْ من طرفٍ خفىِّ؛ ليس ضروريًّا أن تكون بالتقاءٍ مُباشر أو بتوافقٍ مُطلَقٍ على تفاصيلها، إنما يكفى فيها أن يكون الوسيطُ مُرتَضِيًا طبيعةَ الأدوار والمهام، ومُستعدًا لترضية كلِّ طرفٍ بالقدر الذى لا يُشجِّع أحدهما بالنصر الكامل، ولا يستفزُّ الآخرَ بالهزيمة الساحقة. وحينما تنفَضُّ الجولةُ بصيغةٍ تقبلُ التفسيرَ المزدوج، بحيث يرى كلُّ لاعبٍ فيها نفسَه مُنتصِرًا وغريمَه مهزومًا؛ فإنها على الأرجح تكون من قَبيل الهندسة المقصودة، ولا تتجاوزُ نطاقَ العمليَّة التمثيليّة المُعَدَّة بعِناية.
سرّبَتْ واشنطن قبلَ أسبوعٍ وثيقةً استخباريَّةً عن استعدادات إسرائيل لاستهداف إيران، وبعيدًا من تمثيلها حالَ الصدمة، ومُسارعتِها لإعلان التحقيق فى المسألة؛ فقد بدا أنها تحاولُ تطويقَ نتنياهو وترويضَه. السوابقُ تقولُ إنَّ الإدارة الديمقراطية مُخترَقة من جانب طهران، أو ميّالة إليها، وما وجود أريان طبطبائى فى مَوقعين حسّاسين بوزارتى الخارجية والدفاع، ثمَّ تعليق التصريح الأمنىِّ للمبعوث روبرت مالى؛ إلا تعبيرًا عن مستوىً عالٍ من الانكشاف بين الجانبين. وبالنظر إلى أن الجمهورية الإسلامية سبقَ لها أن أخطرت الدولةَ اليهوديَّة بضَربَتَيها السابقتين فى أبريل ومطلع أكتوبر، فإنَّ قناةَ الوساطة نفسَها حملَتْ إشارةً من تلِّ أبيب إلى غريمتِها الشيعيَّة قبل ضربة أمس. يُفهَمُ هذا بين الدول على صورةِ التعقٌّل، وإدارة الصراعات عند الحدود الآمنة، دون مُغامرةٍ بالذهاب إلى محرقةٍ لا يتيسّرُ تطويقُها؛ لكنّها فى النهاية تظلُّ صفقةً، وهى غير قادرةٍ على تظهير المواقف وحَسم السباقات بينهما، ما يعنى الحاجة إلى ساحةٍ أُخرى لتثمير المكاسب الحاضرة، أو مُواصلة الضغط المُتبادَل بينهما سعيًا لتعديل المواقع والتوازُنات، ومن جديدٍ تتَّجه التوقُّعات إلى سقوطِ تُفّاحة النار فى حِجْر غزّة، أو على رأس لبنان، وربما فيهما معًا.
صُرِفَ أثرُ «الطوفان» معنويًّا لصالح رأس المحور، بحيث تبدَّدَ القطاعُ من أيدى أصحابِه، وظهرَتْ إيران فى صورة الفاعل الإقليمىِّ القادر على إرباك المشهد وتحوير المُعادلات، بينما فازت إسرائيل بالرعب والدم وقضم الأرض وإعادة القضية للوراء، وبالدرجة ذاتِها تُستَثْمَرُ الانكساراتُ اللبنانية لحساب الشيعيَّة المُسلَّحة، حتى أنَّ رئيسَ مجلس شُوراها يتجرّأُ دون مُراعاةٍ للكياسة والدبلوماسية، ويقول إنَّ بلدَه جاهزٌ للتفاوضِ مع فرنسا فى تفعيل قرار مجلس الأمن رقم 1701. وحال ابتلاعها ضربةَ السبت الخفيفة بكلِّ مرارتها الرمزيّة؛ فإنها ستُعطِّلُ التوافقات فى بيروت بدلاً من تحفيزها، ومع رغبة نتنياهو فى إطالة الحرب انتظارًا لحليفِه المُفضَّل ترامب؛ فإنه سيُرسلُ وفودَه الأمنيَّة للتفاوض فى الدوحة، إنما لن يوفّر فرصةً لوَضع عصاه فى الدواليب، وإفساد كلِّ الصفقات المُحتملة كعادته. كلا الأُصوليَّتين تتعيَّشُ على الأخرى، وكلاهما تعلمُ أنَّ فراغ الملعب عليها يكاد أن يكون مستحيلاً؛ وجدلاً فإنَّ حدوثَه يضعُها أمامَ التزاماتٍ عمليّة لا تُريدُها ولا تتحمَّسُ لها، ولهذا يتعيّنُ أنْ تظلَّ النار دون الاستشراء وفوق حدِّ الانطفاء، ومهمّة المايسترو الأمريكى أن يُبقِى اللحنَ صاخبًا بحيث لا تُستَشَفُّ منه الجُمَلُ والنغمات، ولا تُعرَف مسؤوليةُ كلِّ عازف عن نغمته الخاصة. إنها صفقةٌ عاقلة نسبيًّا؛ لكنها مشبوهةٌ بالكامل، والشُّبهة فيها أنها تُدير مُحرِّكاتها بدماء الأبرياء وعلى أشلائهم، والقاتلُ والمُمانِعُ فيها لا تستوقِفُه الكُلفةُ الإنسانية الباهظة، ولا يستنكفُ الصعودَ إلى غايته المستحيلة فوق جثّة الإقليم، وعلى سُلَّمٍ من جماجم النساء والأطفال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة