لم يكن عميد الأدب العربي طه حسين (1889- 1973)، الذي تمر هذه الأيام ذكرى رحيله الـ 51، مجرد رجل تحدى ظروفه وواجه مخاوفه وتعلم في الكُتاب ثم الأزهر ثم الجامعة المصرية ثم سافر إلى السوربون في فرنسا وعاد منها يملأ الدنيا ويشغل الناس، بل كان دليلًا على القدرة البشرية التي تخرج بكامل إرادتها معتمدة على العلم من الظلمات إلى النور، كان رجلًا مثيرا للفكرة، وباحثًا عن إعمال العقل.
عرف طه حسين مبكرًا هدفه، إذ واصل سعيه لفتح المجال للتساؤلات والبحث عن الحقيقة، وهو ما جعله شخصية حاضرة دائمًا ومؤثرة بقوة، فعل ذلك مع أنه كان يعرف حجم ما سيلاقيه من عنت وتعب، فهو يدرك من قراءته للتاريخ وتأمله له أنه على المفكر "ضريبة" يدفعها من أجل تحقيق حلمه بغد أفضل.
ويكمن جوهر أفكار طه حسين في أنه آمن بأن الأفكار المحيطة به، وبالتالي المحيطة بمجتمعه، في حاجة إلى إعادة نظر، وإلى استخدام منهج علمي في تأملها، ومن هنا نرصد عددا من الأفكار التي سعى إليها ودافع عنها وحققها:
محاورة التراث وعدم الخوف من الثوابت
لا شيء مرعب قدر الاستسلام للماضي دون محاورته، وطه حسين الذي أقلقته العفاريت في صغره، فقرر في شبابه وشيخوخته أن يواجهها، ولعل كتاب "في الشعر الجاهلي" الذي صدر في سنة (1926) وأثار ضجة كبرى، هو الأبرز في مسألة مواجهة الماضي وإعادة قراءته، فقد اشتبك مع التراث (الماضي) الذي كنا نظنه صامدًا مثل جبل، وأفاد بأنه من الممكن ألا يكون بهذا الثبات، وأن الشعر الذي قيل قبل الإسلام ربما لا ينتمي كله إلى هذه الفترة المهمة، وأرجع ذلك لأغراض سياسية ودينية، وقد أثار ذلك أزمة معروفة، لكن العقل استفاد منها، لقد جعلنا طه حسين أكثر جرأة في الحديث عن التاريخ وفي نقد ما قد يراه البعض "لا يقبل النقد".
كما أن طه حسين لم يرَ في الحداثة تناقضًا مع التراث العربي، بل سعى للجمع بين التراث والحداثة، وفي كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، وهو الكتاب الذي لا ينتهي أبدًا، ولا تبطل أفكاره، أكد على ضرورة الانفتاح على الفكر الغربي لإحداث نهضة حقيقية في العالم العربي.
مواجهة الناس.. وقدرته على كشف العيوب
لم يكن طه حسين يخشى شيئًا في فنون الكتابة، يؤمن بالتجريب في كل الفنون، لذا عندما قدم "الأيام" وتحدث عن نفسه كاشفًا عن ذاته أولًا ومن بعدها سعيه لفهم المجتمع وتحليل مشكلاته، قدم لنا نموذجًا يجمع بين الفن والدراسة الاجتماعية للواقع، مستخدما لغة معبرة وخاصة في الوقت نفسه، لغة شيقة، وقدرة على مراقبة النفس الإنسانية ومنحها مساحة للتعبير عن ذاتها.
التطور .. يأتي من النقد أولا
كان طه حسين ناقدًا لا يهادن، سواء في تناوله للتراث أو للواقع، رأى أن النقد هو السبيل لتحفيز التطور، داعيًا إلى عدم التعامل مع النصوص والأفكار بوصفها مسلمات.
وكان نقد طه حسين يقوم على أسس مهمة منها العقلانية، فقد كان حريصًا على التعامل مع الشخصيات بموضوعية وحياد، ولعل ما قدمه في "الفتنة الكبرى" أكبر دليل على ذلك.
أما الإنسانية فقد جاءت من النظر إلى الشخصيات بواقعية، مع إبراز ضعفها وقوتها، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة في "أديب" أو شخصيات "المعذبون في الأرض".
ويظل اعتماده على النقد البناء من خلال تقديم رؤية جديدة تسهم في تطوير الفهم الثقافي، ووسط كل ذلك استطاع العميد أن يحتفظ بالاستقلالية الفكرية، عن طريق التحرر من التقاليد والضغوط المجتمعية.
إنه طه حسين صاحب الأثر الدائم الذي لا ينتهي، نموذج الإنسان الذي انشغل بمجتمعه، وواجه ما واجه في سبيل أفكاره، وانتصر.