محمد عبدالرحمن زغلول

حيث لا يراني أحد.. هل شوّهت الرأسمالية وعي الإنسان؟

الثلاثاء، 29 أكتوبر 2024 12:57 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

"ستتحول الحياة إلى عملية ركض متواصل، ينسحق فيها تحت الحشود مَن يتوقَّف ليلتقط أنفاسه".. هكذا قال الفيلسوف والمُنظر الاقتصادي كارل ماركس، في رؤية ربما تتوافق مع ما يعيشه الإنسان المعاصر في عصر الرأسمالية، إذ تحول العمل لسلعة، والعمال إلى مجرد آلة إنتاج، وهى الرؤية التي تقدم نقدا قاسيا للرأسمالية وتغولها على الحياة، من مُنطلق النظرة الماركسية لتحوّلها مع الوقت إلى جحيم للجنس البشري، بل ورعبه الأكبر في العالم، فكأن النظام الاقتصادي المُحدَّث استبدل بحياة العبيد قديمًا، نُسخة مُعصرَنة عبر إهلاك العمال من أجل إثراء فرد أو طبقة ضيّقة، وهو ما يظل محلَّ خلافٍ بين تيارات أيديولوجية متعددة؛ لكنه خطاب حاضر على أية حال.

من هذا المنطلق، يمكننا النظر للعرض المسرحي "حيث لا يراني أحد"، تأليف وإخراج محمود صلاح، وإنتاج المعهد العالي للفنون المسرحية. فالعرض يُقدّم رؤية تتوافق لحد كبير مع فكرة ماركس، وتتماس مع ما يراه الفيلسوف العدمي آرثر شوبنهاور، بأن حياة الإنسان تتأرجحُ طوال الوقت كرقّاص الساعة، وأنه يعيش بين شعورين لا ثالث لهما: الرغبة والملل، وبهذا يكون الإنسان في عذاب مستمر، يتأمل في النفس البشرية واغترابها عن الزمان ومخاوفها من الحاضر والمستقبل، ويحاول  البحث عن إجابات مُغايرة.. فهل يمكن أن يكون الاستهلاك سببا للحياة؟ أم أن الحياة الحديثة تسلب الإنسان حريته وتفاعله مع العالم الطبيعي؟!

يشتبك محمود صلاح في العرض، تأليفا وإخراجا، مع عقل المتلقي منذ العتبة الأولى/ العنوان؛ فهو بمثابة بداية مثيرة ومليئة بالتساؤلات، ومُقدمة للمواضيع والأفكار التي ستُطرَح لاحقا عبر الدراما وحيوات الشخوص، فمن ذلك الذي لا يراه أحد؟ لنكتشف أنه لم يكن يقصد خواتم سحرية تخفي أصحابها، ولا قبعات خفيّة تُداري مُرتديها؛ لكنه يقصد هؤلاء الذين لا يراهُم أحد/ عبيد العصر الحديث من العمال والكادحين، الذين إن غابوا لا يُفتَقَدوا، وإن حضرُوا لا يأبه بهم أحد، هؤلاء العاجزون عن مواكبة الحياة والسير في نمط عيشها الكئيب، هؤلاء الذين لا حظ لهم في السعادة، ومع ذلك لا يلتفت إليهم الآخرون، مجرد تروس وعقارب تدور بشكلٍ متسارع في حلقة مفرغة؛ لمواجهة الحياة والتطور التكنولوجي الرهيب، ولا يستطيعون الوصول إلى الراحة المنشودة أبدا؛ كأنما كُتب عليهم أن يعيشون مُعلّقين بين سراب الأحلام وبؤس الواقع، ويترتّب عليهم جراء ذلك أن يُكابدوا الانفصام والتشظّي، والشعور الذي لا يخفُت قطّ بالتعاسة وخيبة الأمل.

يبدأ العرض ويدور بأكمله داخل إطار ساعة، تعطل فيها عقرب الثواني، فيلجأ صاحبها إلى "الساعاتي" ليُصلح العطب، ويقرر الأخير تغيير العقرب التالف؛ لتبدأ المواجهة بين الاثنين: الأول الذي سيترك عمله بعدما أصبح عاجزا عن أدائه، والثاني المُقبل على المهمّة بنشاط وحيوية، وبروح الشباب الذين تأخذهم الحماسة والجرأة بعدما صدّقوا ما بِيع لهم من أوهام ومُحفّزات؛ لدرجة إعطائها الأولوية على حاجاتهم الضرورية التي لا تستقيم الحياة بدونها، قبل أن يصطدموا بالواقع الكئيب، وأنه سيسير للمصير ذاته في دلالة على "التشييء" وتسليع الإنسان الحداثي؛ بإغفال كامل لهويّته الفردية وآماله وآلامه وكرامته، وهكذا تكتسب الآلية المُرمّزة من خلال عقارب الساعة، بما فيها من روتين وخطوات محسوبة وهامش معدوم للمناورة.

وضع المؤلف/ المخرج في بنائه للفضاء المسرحي/ السينوغرافيا، اعتبارا مهمًا للمتلقي، فترك له مساحة عريضة لإعادة تشكيل الأحداث وفهم الاستعارات الدرامية وغاياتها، والدلالات النصية والبصرية التي أنتجتها، وذلك برسم شخصيات قليلة، لكنها تبرز الصراع الأساسي للقصة. دارت الأحداث في شكل دائري - إطار الساعة – في رمزية بصرية لديمومة الحياة، وأنها تُكرر نفسها في دورات متتابعة ومتشابهة، بحيث تعود الأحداث السابقة من جديد بأشكال متقاربة، وتترتب عليها النتائج نفسها، وكأن الحياة عبارة عن دائرة لا يمكن الإفلات منها أو الخروج عليها. هذا الشكل الذي يجعل الحياة أقرب لكابوس، ما يلبث أن يبدأ حتى ينتهي، ولا ينتهي إلا ليبدأ من جديد.

تعامل العرض مع الأرقام كمدلول بصري ورمزي في الآن ذاته، فالإنسان يدور حول الأرقام الموجودة على حافة الإطار/ الساعة، في إشارة لحركة العصر الشبيهة بدائرة كُبرى من الإهدار والاستهلاك والتيه، بحيث يُحاصر الإنسان فيها داخل دائرة علاقات تبتلعه بالكامل، حتى يتضاءل كيانه الظاهر داخلها، وتتآكل قدرته على الفعل فيها أو السيطرة على تفاصيلها، وتلك صورة كاملة من الانسحاق والحضور بطعم الغياب؛ حتى لو كان الوقت لا يتحدد من دون العقارب؛ فإنها لا قيمة لها في ذاتها، وإن تيسّر لها أن تخرج من الإطار فإنها تصير خاليةً من المعنى والمضمون.

جاء الحوار بين شخصيتي الصراع بلغة الأرقام: آلاف الثواني لينتهي من عمله، عدد من الساعات ليقابل حبيبته. هكذا تحوّل الإنسان إلى رقم، والزمن والأمنيات مجرد أرقام، في رمزية تعبر عن "الإنسان الشيء"، أو "الأشياء المؤنسنة" ظاهريا، بينما تتغلّب المادة على المشاعر، ويصير الأسى أداة للاستنزاف المزدوج، بدلا من القدرة الفاعلة في المعادلات باتجاه التصويب أو التغيير.

بشكل عام، لجأ محمود صلاح لأسلوب القصة الدائرية، بمعنى أنها تتحرَّك بالتفافٍ دائم على نفسها، فتحدَّد المواقف والأحداث على محيط الدائرة، ومعها إشارات عن التكرارية الممتدة وغير القابلة للاختراق أو الكَسر. يصير الزمن دائريا، والشخوص في متاهة ذات طابع سيزيفي؛ وإن بدا متواريًا أو أقل مأساوية مِمّا كان عليه العقاب في القصة الإغريقية. وتلك السردية المكوَّرة تُعيد بناء الأحداث وخطّها الصاعد عبر التفاصيل المُتتابعة، دون أن تخصم من الرهان الجمالي ومعانيه العميقة، ولا أن تُحوّل الحدث المصري إلى حكاية خطّية تقليدية وبسيطة، تفرغ معانيها بمجرد الانتهاء من مَتنها الأساسي. إنه الرهان على أن يظل العرض مُمتدا حتى بعد أن ينتهي، وألا يكون إغلاق الستار عليه إلا بداية لتجدّده السرمدي في مخيال المتلقي ووعيه الحي، والمأزوم أيضا.

لجأ المؤلف أحيانا لتقنية المونولوج، ليتيح لشخوصه أن تحفر عميقا في ذواتها، وأن تكتشف دواخلها مع المتلقي وأمامه، بحيث تُحفّزه على ممارسة لعبة المكاشفة ذاتيا، فيكتسب العرض "صِفة أرسطية" تطهرية، يتحقق فيها التجاوز بالقدرة على الاعتراف، ويُعاين المشاهد مصيره في مصائر الآخرين. هكذا يتحقق الحفر العميق في الأفكار والمشاعر، لا لدى الممثلين فحسب؛ إنما في باطن المتلقي الذي لن يستطيع أن يتجاوز طاقة الشحن العاطفي، ولا أن يُفلت من فخ المُساءلة المفتوحة للوجود البشري العام، وما الترميز إلا محاولة للتعميم، وإحالة الحكاية المُجسَّدة مسرحيا على الذوات الحاضرة بالفرجة والمراقبة الخجول، وعندما تبدو الشخصية المسرحية كما لو أنها تفكر بصوت مسموع، أو أنها غير قادرة على الإفصاح؛ فإن الشريك المتلصص عليها يملأ الفراغات في داخله، ويضع من حكايته ما يُعبّئ المساحة المليئة بالنقاط وعلامات الاستفهام.

أداء بولا ماهر ومحمود بكر، بطَلَي العرض، جاء مركبا ومُتقنًا، وكلاهما أتقن التنقل بين الرمزية والتعبيرية، والتدرّج على سُلّم المشاعر والانفعالات، وشحن المنطوق عاطفيا بحيث يُعبر عن حضور بشري مُقنع، دون افتقاد القدرة على مشاكسة الجمهور واستنفار الإحالات الذاتية. إنهما ممثلان مختلفان فكرا وشكلا، لكل منهما وسائله وآلياته وطريقته في تقمص الشخصية، ولكل منهما أحلامه وهمومه وآلامه التي يضحك لها أو يسخر منها، لكنهما ينسجمان على الخشبة، فيبدوان أحيانا كأنهما شخص واحد، وقد أجادا في الإمساك بنغمة واحدة مشتركة، وفي التجانس التعبيري والأدائي بالحركات والإشارات والايماءات الجسدية، مع امتزاج خليط العاطفة والصوت والانفعالات ليعكس صورة واقعية نموذجية لإنسان العصر المقهور.

ربما كان الرهان الأساسي للعرض عن "مفهوم الاغتراب، بحسب ما عبّر عنه ماركس في مقارباته النظرية، إذ في ظل الرأسمالية يشعر الأفراد بالانفصال عن واقعهم، وعن العمل الذي يضطلعون به. العامل في تلك المنظومة أقرب إلى ترس داخل آلة كبيرة، تبتلعه وتسحق فرديته، ولا تمنحه مقابل هذا ما يحقق له التعادلية النفسية، أو يُرمّم الشقوق المتّسعة في إحساسه بالذات، وفي اتّصال تلك الذات بمحيطها العام. هكذا يُفتَقَد المعنى، وتتحول كل التفاصيل إلى ماديات مُرهقة، تستنزف طاقته أو تدفعه بصورة أعنف على مسار التشييء وانتزاع صفته الإنسانية، ما يُولِّد شعورا عميقا بالفراغ وعدم الرضا، ويُفقده المعرفة الحقيقية بالحياة في جوهرها الصافي، بعيدًا عن الوظيفية المفروضة عليه من الخارج. ولم يغفل المؤلف الإشارة إلى تأثر المشاعر والعواطف في عصر الرأسمالية، من خلال الحبيبة/ ميرنا نديم، وظهورها كالطيف في خيال العقربين، القديم الجديد، ما يُعبر عن تآكل الفطرة بمشاعرها الطازجة، وتحول المسألة إلى نمط من الاستهلاكية، إذ الإنسان المُتشيّئ كُتلة من القلق، وقليل القدرة على الحب، ولا إيمان لديه أو قناعة، ويمتلئ بإحساس أن قيمته تتلخص في "قابليته للبيع"، وتحتكم إلى طبيعة المشتري وما يعرضه من سعرٍ، وهنا لا معنى لكل الرمزيات والمعنويات، ولا لتقدير الذات أو استشرافه في عيون الآخرين، أو كما يقول الفيلسوف إريك فروم، فإنّ إحساسه بقيمته يصبح مُعلّقًا على عوامل خارجية.

نجد كذلك من ضمن الرؤى المطروحة في العرض، هيمنة الآلة وقضاءها على العمالة، كما جاء على لسان العقرب القديم (بولا ماهر) عن الساعات الرقمية الحديثة، واستغنائها عن عقرب الثواني، وهو ما يُعبر صراحةً عن نوع جديد من الضغط على إنسان الراهن المُعقّد، أي ضغط الرقمنة، وهيمنة الذكاء الاصطناعي، وفي دلالة على استبدال الآلة للإنسان بسبب التطور القتني المهول، والخطر الذي تشكله على مصير ملايين العمال مباشرة، كونها "أقوى وأقدر" ماديا، وكيف أصبحت التقنية الحديثة مصدرا لبؤس العمال بدلا من إراحتهم وإسعادهم، فهي ستلغيه وتحلّ محله كجنس بشري، لأنها أقدر ماديا منه، وأكفأ وأدق، وبذلك يُحكَم على الإنسان بالضعف والعجز والدونية.

في النهاية، قدم محمود صلاح معالجةً لواحدة من أكثر قضايا العصر أهمية، مُختزلاً كثيرًا من القيم والمُثُل والمشاعر الإنسانية، ومُستعرضًا تفسيرًا أقل تعقيدًا للحياة في أقصى صورها تركيبًا تحت ظلال الرأسمالية والعولمة وسيطرة الذكاء الاصطناعي والآلة، ورغم قسوة ما تتعرّض له الأحداث من رسائل تُوغِل عميقا في مأساة اقتلاع الجنس البشري من إنسانيته، وتحويله إلى آلات روتينية صمّاء؛ لكن الفنّ كان غالبًا حتى النهاية، فجاء العرضُ مُتماسكًا في الفكرة والمعالجة، مُتناسبا في عناصرها الفنية وتكاملها، ورائقا في رهاناته الجمالية من دون ضخبٍ أو افتعال، ولا إفراط أو تفريط، مُقدّمًا رؤى فلسفية تتوافق مع أفكار ماركس وشوبنهاور وشخصيات كافكا، وتُعالجها بتصوّر مُعاصر أيضًا، ولا تتوقف عن الاشتباك مع سياقها العام بنظرة حداثية تتجاوز الأيديولوجيا، ولا تنفصل عن الواقع المعيش، وبالتأكيد تضع المتلقي في قلب التجربة، وتُشركه في أحداثها جبرًا واختيارا، بحيث يخرج من العرض متأملًا لكل شيء شخصي وعام، ولكل المعاني التي جردت العالم من مخزونه العاطفي، وأفقدته كل معنى ودلالة، وابتلعت الإنسان المعاصر وشوّهت وعيه بالآخر، وبنفسه أوّلا، جاعلة منه مجرد أداة وظيفية لا تختلف عن كل المنتجات التي يستهلكها، ومُحمّلة إيّاه مسؤولية استعادة إنسانيته، ليس بالخروج من العصر بشروطه ومقتضياته؛ إنما بالبحث عن القيمة والمعنى في كل ما يخلو منهما حوله، وفي القبض على صفته الإنسانية مهما كانت الضغوط، وإن كان عليه الدوران داخل إطار الساعة؛ فليكن قادرا على الأقل أن يُدوّن رحلته ويحتفظ بتفاصيلها، وأن يستخلص منها العبر والعظات؛ حتى لا يكون الزمن مُجرّد نزيف للحالات والمشاعر، ولعبة مفتوحة لاستنزاف الوعي.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة