اختُرق المحظورُ التاريخىُّ فى إسرائيل من جديد. وهى المرَّةُ الثالثة فى ثلاثة عقودٍ من عمرها المُمتدِّ منذ ثلاثة أرباع القرن، والثانية خلال عامٍ واحد. وبعيدًا من طبيعة العملية الإيرانية مساء الثلاثاء، وحجمها، وهل تسبَّبت فى خسائر حقيقية؛ أم بقيت عند حدود الشكلانية والاستعراض كسابقتها؛ فإنها تُضيف مُتغيِّرًا مُستحدَثًا على قواعد اللعبة القائمة، وترفعُ منسوبَ الحساسية على الجانبين إلى مداه الأقصى، فضلاً عن أثرها المُباشر على الجبهات المُشتعلة فى الإقليم. وإذ يطولُ الكلام فيها عن المُقدِّمات والنتائج؛ فالمحسومُ سَلَفًا أنَّ لها ما بعدها، ولن تبقَى التوازناتُ على حالها القديمة. والنظامان القائمان على ركائز أُصوليَّةٍ واضحة، ولدى كلٍّ منهما أجندةٌ توسُّعيَّةٌ تكاد أن تُطابق أُختَها، أو غريمتها، ولا تُنكَرُ منهما فى الخطاب أو المُمارسة، يَبْدُوان اليومَ أقربَ إلى الصدام الفِعلىِّ من أيَّة لحظةٍ ماضية، ورغم كلِّ ما تردَّد منهما عن اجتناب الحرب الشاملة، وما أنفقاه من صبرٍ ومُراوغةٍ ومُناكفاتٍ فى ساحاتٍ بديلة؛ لأجل التهرُّب من المُواجهة الاضطرارية، على ما يزعمان، أو إرجائها لأطول فترةٍ مُمكِنة.
منذ الضربة الافتتاحيَّة فى «طوفان الأقصى»، نظرت الدولةُ العِبريَّة للمسألة من زاوية أنها رصاصةٌ إيرانيَّةٌ مُغلَّفةٌ براية حماس. وسواء كان «السنوار» مدفوعًا بإملاء من طهران، أو انفرد بالقرار بعيدًا من التنسيق، أو حتى إخطار قيادة المحور؛ فالواقع أنَّ طبيعة التحالُفات فى بيئة المُمانَعة لا تسمحُ بفَصلِ التحرُّكات عن بعضها، ولا تعفى الجمهوريَّةَ الإسلاميَّةَ من قرار حزب الله بإطلاق «حرب الإسناد والمُشاغلة» بعد ساعات من هدمة القسَّام على غلاف غزّة. وإذا كان التصويبُ على الاحتلال من الأطراف؛ فإنه لم يَرفَعْ عينَه عن الرأس، ولا وَفَّر فُرصةً للتعريض به والحَطِّ من مكانته، ساعيًا بكلِّ الصُّوَر إلى استنفاره بالأصالة، دون اكتفاءٍ بحَصر المُنازعة مع الوكلاء؛ فكأنّه أراد استدراجَه لنُزول الملعب والانخراط فى جولة القتال الدائرة. ونتنياهو؛ لحساباتٍ شخصيَّة أو استراتيجية، ينظُرُ للتشابُك الأخير على أنه فرصةٌ مِثاليَّة لتصحيح الأوضاع الخاطئة، وإعادة تكييف المُعادلات الجيوسياسيَّة فى الإقليم، بحيث يُقلِّص حِدَّة العداوة مع الشيعيَّة المُسلَّحة، ويقطعُ امتدادات الفصائل الفلسطينية مع الخارج، والأهمُّ عمليًّا له أن يخترقَ دائرةَ النار، ويقضى تمامًا على فكرة التعايُش مع ما يَعُدُّه خطرًا وجوديًّا زاعقًا، ولا يقبلُ الصمتَ أو المُساومة.
حتى قبل ساعةٍ واحدة من قرار الإطلاق، لم يكُن واضحًا أنَّ إيران تمضى باتجاه التصعيد، ولا أنها قرَّرت الردَّ على صفعات إسرائيل المُتتالية طوال الشهور الخمسة السابقة. كان رئيسُها الجديدُ قد ذهب إلى الأُمَم المتحدة بخطابٍ مُغاير، واكبه وزيرُ خارجيَّته عباس عراقجى بالحديث عن الجاهزية للتهدئة من بوّابة تنشيط المُفاوضات النووية، وسبقهما المُرشد الأعلى نفسُه مُتحدِّثًا عن حصافة «التراجُع التكتيكى» أمام العدو. وهكذا بدا أنَّ الدولةَ القائمة على برميلٍ من البارود، تُعيدُ هندسةَ المواقف والخيارات بما يسمحُ بالبقاء فى المنطقة الرمادية، وتحوير استراتيجيَّتها السابقة عن «الصبر الاستراتيجى» إلى نُسخةٍ مُجدَّدة، ترومُ من وراء الصبر أن تصرفَه فى السياسة، وأن تستوفى تضحياتِها الصامتةَ فى لبنان وغيرِها؛ لصالح بناء توافقاتٍ جديدة مع الولايات المتحدة، بما يضمنُ لها ألا تذهب الخسائرُ الإجباريَّة هباءً، ولا أنْ تختبرَ مرحلةً مُستقبليَّة تفتقدُ فيها لأطرافها السارحة فى الإقليم، ولا يعودُ فى قبضتها ما تُفاوض به أو تُقايض عليه.
على هذا المعنى؛ يكتسبُ العنفُ صِفةً تَهدَويَّة مُبَطَّنة. ليس على طريقة نتنياهو بالتأكيد عن التفاوض تحت النار، ولا تطويع الخصوم بمزيدٍ من البطش والتنكيل؛ لصالح أن يُوجِّهَهم إلى إبرام اتفاقاتٍ إذعانيَّة تُوافق هواه؛ إنما من باب انتهاز الظرف السياسى الخانق بالنسبة للإدارة الأمريكية، وكونها آخرَ مَن يُحبُّ أن تشتعل المنطقةُ الآن بالتحديد؛ فتنزلق معها إلى مُغامرةٍ عسكرية لا يُعرَف مداها؛ فضلاً على ما يتولَّد عنها من ارتداداتٍ على مشهد الانتخابات الرئاسيَّة. أى أنَّ طهران عندما استجابت لنداءات الاستدعاء من جانب إسرائيل؛ كان فى استجابتها شىءٌ من الاضطرار المدفوع بالكرامة، والقبض على ما تبقَّى من أُصولِها المُهدَّدَة بالضياع؛ وإلى جواره أشياءُ من عَيِّنة التسويات الخَشِنة، وتوجيه الرسائل إلى صندوق البريد الأمريكى؛ بأكثر مِمَّا هى مُوجَّهة لتل أبيب وحكومتها المُتطرِّفة.
خُلاصةُ الليلة أنَّ الحرس الثورى أطلق دفعةً من الصواريخ الباليستية، أصاب قليلُها أهدافَه وأخطأ الكثير، وتبادل الطرفان رسائلَ الدعاية والتهديد؛ إنما فى الحِسبة الأخيرة يُمكن القول إنها لم تُفضِ لشىءٍ تقريبًا. ولا ينبعُ التصوُّر هُنا من استهانةٍ بالشيعيَّة المُسلَّحة وقدراتها، ولا من صورة البطولة التى تدّعيها الصهيونية النازيّة على خلاف الحقيقة؛ إنما من طبيعة أنَّ السلاح أداةٌ من أدوات السياسة، ولا تُقاسُ فاعليَّتُه فى الميدان فحسب، وعليه فقد يُكتَفَى من التصعيد بالرمزيَّة؛ إنما المطلوب دومًا أن تكون العَينُ على المخارج مهما بدت بعيدةً، وعلى ألَّا تُستَنزَف القدراتُ دون عوائد مُقابلة، أو تُقدَّم الهدايا المجَّانية للعدوِّ بما يتوافق مع خططه الموصوفة للصراع، أو أهدافه المُعلَنة والمُضمَرة تجاه الجبهة المُضادّة.
فى الأرقام، لا يُمكن الوقوع على تقديرٍ دقيق. قالت إيران إنها أطلقت مائتى صاروخ، ثم حدَّثت العددَ إلى 250 لاحقًا، ونقلت وكالة تسنيم أنَّ 80 منها أصابت أهدافها المقصودة. ومن جانب إسرائيل تتابعت التقديرات وصولاً إلى مطابقة الجمهورية الإسلامية فى رقمها الأعلى، ثمَّ عادت وعدّلت البيان بأنها رصدت إطلاق 181 صاروخًا. وعلى جَرى العادة؛ ما أعلنت تل أبيب إحصاءاتٍ بالخسائر المادية أو البشرية، ولا مُعدَّلات الإصابة ومستويات كفاءة القُبَّة الحديدية، بل إنَّ مُتحدِّثَها العسكرى ناشدَ المواطنين ألَّا يُذيعوا صورًا أو بيانات عمّا وقع على مقربةٍ منهم. إنما فيما توفّر من إشاراتٍ أوّلية، فأكثر من رُبع المقذوفات لم تصل للجغرافيا الإسرائيلية أصلاً، وما وصل لم تتجاوز الإصابات المُحقَّقة فيه نسبة 30% من المجموع، وعلى الأرجح لم تكن الكُلفة مُزعجةً للاحتلال؛ وإلَّا لَبَادَر بالردِّ السريع. وهذا ما أكَّده مستشارُ الأمن القومى الأمريكى فى إحاطةٍ لاحقة، عندما قال إنه هجومٌ فاشل ولم يكن فعّالاً.
استُخدمت نُسخةٌ جديدة من الصواريخ الإيرانية. تحملُ اسم «فتّاح»، ودخلت الخدمة قبل شهور قليلة، بعدما أُجريت تجاربها النهائية فى العام الماضى. وقد أظهرت صورٌ من مواقع إسرائيلية عديدة قِطَعًا كاملة منها، ما يُرجِّح أنها كانت مُحمَّلة برؤوسٍ ضئيلة الحجم والقُدرة التفجيرية، أو لم تكُن مُحمَّلةً أصلاً، واكتُفِى بالهياكل الخارجية ورسائلها التحذيرية والدعائيَّة. والنظر إلى ما أُتيح من مشاهد يُعزِّز ذلك بدرجةٍ ما؛ إذ لم تتجاوز الأضرار تحطيم النوافذ وخدش الجدران، فضلاً على حُفَرٍ بعُمقٍ لا يزيد على مترٍ واحد. أثبتت إيران عمليًّا أنها قادرةٌ على الوصول إلى العدوِّ، وأثبت الأخير من جانبه أن مُعادلتَه الردعيَّة ما تزالُ قائمةً؛ بعيدًا من أنه أظهر هشاشةً واضحة فى التصدِّى للهجوم، وتكشَّفت فاعليّة أنظمته الدفاعية بهامش خطأ لا يقلُّ عن الثُلث، فضلاً على أنه لولا الإسناد الأمريكى، وتدخُّل بعض الأُصول العسكرية الغربية فى المنطقة؛ لكان مُعدَّلُ الوصول والإصابة أكبرَ مِمَّا تحقَّق بالفعل.
ثمّة نقاطٌ مُهمَّة على حواشى الضربة. أوّلها أنها أُديرت من خلال الحرس الثورى لا الجيش النظامى، صحيح أنَّ كليهما يقعان تحت ولاية المُرشد؛ إنما يُمثّل الأوَّلُ إشارةً إلى القلب الصلب لجمهورية الثورة الإسلامية، وعنوانًا على جناح الصقور المُحافظين، أو على الوجه الأكثر صرامةً وصِداميَّة للدولة، فى مُقابل الطابع الرسمى للمُؤسَّسة العسكرية، أو جانب السياسة الذى يُمثّله الرئيسُ المحافظ بنكهةٍ هادئة؛ بينما يُسوَّقُ للخارج على صِفَة الانتماء الإصلاحى. قال الحرسُ إنَّ عمليّته مدعومةٌ من الجيش؛ لكنه القولُ الذى يُراد منه الإيحاء بالإجماع لا أكثر، بينما الجانبُ الأعمق دلالةً فى رسالته أنها تقرَّرت داخل المجلس الأعلى للأمن القومى، أى بقرارٍ مُباشرٍ من خامنئى. واستُدعِى بزشكيان لاحقًا ليوفِّر الغطاءَ السياسى؛ فكأنَّ التتابُعَ الدرامىَّ المُتواتر من داخل طهران يُرجِّح انتصارَ الصقور على الحمائم، وإزاحةَ البرنامج الرئاسىِّ جانبًا لصالح تقديم النكهة الإرشاديَّة فى وَجهها الأصيل؛ أى تنحية الدولة لصالح الثورة.
أُخطِرَت الولاياتُ المتحدة قبل الهجوم بفترةٍ غير مُحدَّدة. والمعنى أنَّ إيران ضحَّت اختياريًّا بفُرصة المُبادأة؛ لصالح وَصْل الجسور مع واشنطن، وتأكيد أنها لا تسعى إلى التصعيد، وغايتها أن تُنفِّذ عملاً دعائيًّا يُرمِّمُ حاضنتَها الشعبية، وفى أقصى الآمال أن يُرشِّد جنونَ الحكومة الإسرائيلية فى المرحلة المُقبلة. ولو أسَّست الشيعيَّةُ المُسلَّحة تحرُّكها على غاية الإيذاء الفعّال؛ لكَان عليها أن تُهندِسَ عمليَّةً مُنسِّقةً مع بقيّة أذرُعها فى المنطقة، وأن تُراهن على صدمة المفاجأة وكثافة الضربات، بحيث تشلّ قدرات الاحتلال على التعاطى مع ضربةٍ واسعة فى حجم الاستهداف ومجاله الجغرافى. والبُعد عن زيادة الأعداد، ثمَّ الامتناع عن تفعيل القُدرات الكاملة لدى الحوثيين والحشد الشعبى وما تبقّى من حزب الله، فضلاً عن التمركُزات الإيرانية والميليشاوية الحاضرة فى سوريا، يُؤكِّد أنَّ إرادة القيادة المُمانِعة انصرفت إلى التعبير عن الغضب، وليس إنزال طاقته الساخنة على رأس العدوِّ، وإلى رمزيّة العملية أكثر من ماديّتها، وأنها تُراهِنُ على أن تكون مفتاحًا للتهدئة، لا طريقًا لمزيدٍ من التصعيد.
إنها التجربةُ الثانية من جانب طهران. كانت الأُولى فى منتصف أبريل، وبعد نحو أسبوعين على قصف قُنصليَّتها وإسقاط عدد من جنرالاتها فى دمشق. وقتَها أطلقت عشرات المُسيَّرات والصواريخ الجوّالة، وامتعنت عن الاستعانة بالقدرات الباليستية تقريبًا. ما سمح لإسرائيل وحُلفائها بمُهلةٍ طويلة للاستعداد والتحضير، واصطياد المقذوفات فى عرضٍ احتفالىٍّ أشبه بالألعاب النارية. أمَّا النسخةُ الثانية فقد قلَّصت زمنَ الوصول، وإن أبقت على محدودية الفاعلية والأثر. وهكذا يبدو أنَّ الجمهورية الإسلامية تقدَّمت فى الشكل وتراجعت فى المضمون؛ فإذا كان الرهانُ قبل خمسة أشهر على المعنى الكامن فى فكرة استهداف الأراضى المُحتلّة بشكل مُباشر، واعتبار ذلك مُتغيّرًا غير مسبوقٍ ويكفى للإشباع العاطفى للمُوالين، والإزعاج النفسىِّ والعملىِّ للمُناوئين؛ فإنَّ قيمةَ تلك الخطوة تبدَّدت مع استخدامها فى المرّة الأُولى، ولم يعد كافيًا أن تصل فحسب؛ ولو لم تُحقِّق الإيذاء أو تُطوّر الأهداف المقصودة من الوصول. أى أن عملية الثلاثاء على ضخامتها، وأنها تُقارب ضعف سابقتها فى أبريل؛ فإنها كانت أقل أثرًا فى الميدان؛ وإن كانت أعلى فى النيران.
على الجانب المقابل؛ ردَّت تل أبيب على «ليلة المُسيَّرات» بهجمة فقيرة شكلاً وغنيّة فى المضامين، إذ أطلقت صواريخ محمولة من طائراتها خارج الحدود، دمَّرت بها منصّة دفاع جوى مُكلَّفة بتأمين أحد المواقع النووية؛ فكأنها تقصَّدت القول إنها قادرة على الوصول العميق، وعالى الخطورة، وإنما امتنعت عنه لأنه لم يأت أوانه فحسب. وإذا كانت تُهدِّد الآن بالرد على الهجمة الأخيرة؛ فإنَّ طبيعة الجولة الثأرية ستُحدد ما إذا كانت ستُبقِى على المعادلة السابقة، أم ستعمل على تطويرها، والارتقاء فى حجم الضربة أو فيما وراءها من رسائل؛ سيكون إشارة إلى أن الأُصوليَّة الصهيونية اختارت أن تكون مُعادلاً معكوسًا للأُصولية الشيعية؛ بمعنى أنها تتقدَّم فى المضمون ولو حافظت على ثبات الشكل، أو لعلَّها تتقدم فيهما معًا.
الإدارة الأمريكية أكدت دعمها للرد الإسرائيلى المرتقب، وإن طالبت بأن يكون مُنسَّقًا ومحسوبًا. والحالّ أن بايدن لا يُريد تسريع وتيرة الصدام قبل أربعة أسابيع من اليوم الرئاسى الفاصل، وعليه فقد يمنعُ نتنياهو من تسعير النار على الجبهة الإيرانية المُباشرة؛ إنما لن يمنع هذا الخوف فى الغالب من تنفيذ عمليَّةٍ؛ ولو رمزيّة، ضد الجمهورية فى معاقلها، على أن يتحقَّق الردُّ الأكبر فى الساحات الرديفة، وضد الأطراف التى تمثّل أصولاً حيوية لطهران، وتُزعجها بمقدار ما يُمكن أن تنزعج من قصف أراضيها. والأرجح هنا أن يُصَعِّد الاحتلالُ من عملياته ضد حزب الله فى جنوب لبنان، بما يُحقِّق له غاية ترويض الميليشيا اللبنانية ووضعها على طريق الضمور، فضلاً عن امتصاص الأثر الدعائى للضربة الإيرانية، واستمرار تعرية الشيعيَّة المُسلَّحة فى حواضنها الشعبية، مع سلبِها إمكانية التعقيب على الضربات الثقيلة، أو الانخراط فى مهمَّة إنقاذية لدُرَّة التاج فى استراتيجية الدفاع المُتقدِّم.
تهشّمت مُعادلة الردع بين الأُصوليَّتين فعليًّا، وما الضربة الإيرانية الأخيرة إلا استجابةً انفعاليّة لثِقَل الوطأة الإسرائيلية عليها، ومحاولةً لاستلحاق ما يتبدَّد فى قبضتها من مفاتيح التأثير والفاعلية. كان الردُّ اضطراريًّا بشكل كامل، بعدما تعرَّضت للإهانة والإحراج، وبات واضحًا أنها لا تخسرُ الأصول التى استثمرت فيها طويلاً فحسب؛ إنما تُغامر بأن تصير حائطًا خفيضًا تتقافز عليه الصهيونية المتوحِّشة دون رادعٍ. والحال أنَّ الردعَ يتجاوز فكرة القدرة على البروز فى الميدان، أو تطويح الصواريخ والمُسيَّرات فى السماوات البعيدة؛ إنما تتصل أساسًا بالجاهزية الكاملة لخوض الحرب؛ حتى يتيسّر لها أن تتجنبها. أمَّا ما يحدث عمليًّا فيبدأ من تأكيدها بكلِّ الصُّور والوساطات أنها لا ترغبُ فى الصدام، بينما يتشدَّد نتنياهو فى طلبِه من كل الأبواب المُشرَّعة والمُقفَلة؛ وعليه فإنها تُظهِرُ الخنوعَ فى أشدِّ حالاتها صخبًا، وما تتدخل به طمعًا فى إعادة تخليق التوازنات؛ إنما يُعبِّر عن هشاشتها، ويُغذّى رصيد العدو فى حرب الذرائع المطلوبة للوصول إلى حروب الحسم.
يعيش النظام الإيرانى أزمةً حقيقية؛ إذ يكتشف بعد أربعة عقود أنه أدار استثماراتها الخارجية بطريقة خاطئة، وأسَّسها على أوهامٍ وتقديرات لا تخلو من مُبالغة. والسرعة التى تقوَّض بها الحزبُ لا تُتيح هامشًا للثقة فى بقيّة الأذرُع، كما لا تشى بأنَّ رأس المحور نفسَه يتوافر على بأس يكافئ ما يترشَّح عنه من خطابات. لقد عُوقِبَ صدَّام حسين على 39 صاروخ سكود أطلقها باتجاه إسرائيل فى أوائل التسعينيات، واستمرّ التنكيلُ به قائمًا لعقدٍ كامل، إلى أن أفضى لتعليقه على مشنقةٍ أمريكية فى صبيحة عيد الأضحى. وما فعلته طهران، بغَضِّ النظر عن فاعليَّته وآثاره المادية؛ سيكون مُفتَتَحًا لجولة طويلة من العقاب، وإن لم تَتَّخذ صِفَة الحرب الشاملة، وقد تُفضى فى مدىً غير بعيدٍ لتقويض النظام من داخله، بالتزامن مع قصقصة أجنحته فى الخارج، على أن تتكفَّل بيئتُه المحليَّة الهائجة بإنهائه فى أيّة هبّة مُقبلة، بفعلِ الانسداد السياسىّ وأزمات الاقتصاد المُستفحِلة، أو أن يقع الصدام الكاسح الذى لن تلغيه واشنطن، قبل تل أبيب، من حساباتها المُستقبلية؛ وإن أرجأته مَرحليًّا.
ليس القصدُ أن تُلام إيرانُ والسلام، ولا الدعوةُ هُنا لأنْ تتلقّى الضربات فى صمت؛ إنما هى مُقاربة للواقع الجيوسياسى فى ضوء توازنات القوَّة، والمواريث المُمتدَّة والمُتراكمة لدى الأُصوليَّتين المُتحاربتين. ظاهر الجولة يتعلَّق فى موجة من طوفان الأقصى؛ إنما جوهرها يعود إلى احتلال السفارة الأمريكية فى طهران، وإلى اقتحام أُصولها الدبلوماسية والعسكرية فى بيروت، وثِقَل التعايُش الحَرِج بين إسرائيل وحزامٍ نارىٍّ من تلاوين الشيعيَّة المُسلَّحة. يدفعُ المحورُ كُلُّه فاتورةَ قرار السنوار؛ أكان بالتنسيق أم بغيره كما أسلفنا، ثمَّ فواتير الإخفاق فى إدارة الجولة منذ الثامن من أكتوبر حتى اليوم. ما قدَّموا لفلسطين شيئًا يُذكَر، ولا أبعَدوا أنفسَهم عن مُتناول القبضة الصهيونية العارية، وكان إغراءُ القوّة دافعًا لزجّ «نصر الله» فى الميدان، على القاعدة الإرشادية الثابتة «إن خسر يخسر وحده؛ وإن ربح نربح معه»، وهو ما اعتمده الأمينُ العام للحزب مع شركائه فى الداخل أيضًا، بمنطق «ما لنا لنا، وما لكم لنا ولكم»، وقد أفضيا فى الأخير إلى إحنٍ وضغائن، وإلى انكشافٍ صارخٍ لم يكُن المُمانِعون يتخيَّلونه عن أنفسهم. وها قد صارت إيران فى قلب المعمعة، وأنجزت استعراضًا صاخبًا، ومُحبَّبًا لمن يُفكِّرون بالقلب، ويخوضون الحروب بالعاطفة؛ فماذا بعد أن وضعت المنطقة على فوَّهة بركان، وتجاهلت أنها الطرف الأقرب لنقطة الانفجار؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة