ظلت القصة القصيرة الغربية، حتى منذ نتاجها المبكر، تفيض خارج كل محاولة للإحاطة بها، أو التحديد المسبق لتكوينها. ولعل أشهر محاولة للوصول لمثل هذه الإحاطة وهذا التحديد تلك التى ارتبطت باسم إدجار آلان بو، الذى قدم في منتصف القرن التاسع عشر تصورا لما رآه اختزالا لأهم المعالم فى بناء القصة القصيرة، وكان هذا التصور (فى جانب كبير منه) مستمدا من تجربته هو القصصية. ولكن تاريخ الإبداع اللاحق فى القصة القصيرة لم يثبت فحسب "انتهاء صلاحية" مثل هذا التنظير الذي اقترحه "إدجار آلان بو"، بل أعاد أيضا إلى الأذهان تلك الحقيقة البديهية الخالدة: أن الفنون تتطور وتتنامى خارج كل محاولة لسجنها داخل تصورات محددة بعينها. وهكذا، بعد عقود ليست طويلة من محاولة "بو"، أثارت المغامرة الفنية التى انطلقت منها قصص أنطون تشيخوف شكوكا عميقة، تحولت إلى مساءلات حقيقية، ثم تبلورت فى نتيجة واضحة، حول عدم جدوى التفكير فى عناصر بنائية قصصية ثابتة، لها صفة الدوام أوالخلود، من مثل: "العقدة" و"الحل" و"لحظة التنوير" و"وحدة الانطباع"، بل عدم جدوى التفكير فى عناصر أقل إلزاما وأكثر رحابة، من مثل: "الكثافة" أو "التركيز" أو "الاختزال" أو النأى عن تناول الزمن الممتد.
فيما بعد تجربة تشيخوف، ترامت المغامرات الفنية فى القصة القصيرة، كما لم تتوقف محاولات التنظيرات النقدية اللاهثة وراء أشكالها المتجددة، واقتناص ما هو جوهرى فى إبداعاتها المتنوعة. وكان من أهم محاولات الإمساك بأهم معالم هذا الفن المراوغ تلك المحاولة التى صاغها فرانك أوكونور فى كتابه الشهير (الصوت المنفرد)؛ إذ طرح فيه ما ارتآه يمثل خصائص أكثر مرونة، وفى الوقت نفسه أكثر عمقا، للفن القصصى القصير. ولكن قريبا أو بعيدا عن رؤية أوكونور، ظلت الحقيقة أو النتيجة القديمة نفسها واضحة مطلة: أن القصة القصيرة تمضي فى مغامراتها المتجددة، وأنها قادرة على أن تخوض أرضا غير مأهولة، بعيدا عن كل إطار يحدد خصائصها تحديدا نهائيا قاطعا. وما بقى من محاولة أوكونور هو محض توجّهها المرن، الذى آثر النأى عن تقديم تصور بناء ثابت للقصة القصيرة، وراهن على سمات تتصل بتناولها الذى يحتفى بمكونات من مثل "الشخصية المتوحدة" أو "المنفردة"؛ أو تقترن بكاتبها الذى ينجح فى صياغة عالمه القصصى بقدر ما ينجح فى استكشاف "جماعته المغمورة".
**
ظلت الكتابة القصصية، إذن، مغامرة مشرعة على مجهول، موصولة باستكشافات مبدعها الفرد، بعيدة عن الانصياع لكل قواعد مسبقة، ذاهبة فيما وراء أى "تعاقد" أو اتفاق مسبق مع من يتلقاها، وبذلك ظلت ممتلكة قدرة ما على اجتراح أى أفق من "آفاق التوقعات" التى تبلورت عبر شيوع تقاليد فنية متفق عليها أو متفق حولها، سادت أو تسود فى هذه الفترة أو تلك. وبذلك كله، وبهذا المعنى، صمد من معالم فن القصة القصيرة، عبر تاريخ ليس طويلا جدا، كونها تطرح تجارب متغايرة، مرتهنة بالاستبصارات الفنية لكتّابها، حتى وإن استندت إلى ذائقة جمعية ما، تشكلت من مسيرة أو مسيرات موروثها النوعى. وتأسيسا على هذا، أو نتاجا له، عبر هذا التاريخ القصير نفسه، لاحت وتلوح الآن على تخوم شكل القصة القصيرة المفترض، أو على تخوم ما يتعارف على أنه "شكل قصصى قصير"، تجارب شتى تفيض خارج الحدود الأولية، العامة، المتصورة لهذا الشكل.
هذا المثال، حول عدم جدوى وجود "قواعد" جاهزة وثابتة لنوع أدبي هو القصة القصيرة، يصلح للامتداد إلى الأنواع الأدبية الأخرى.. فالكتابة المبدعة، في كل نوع أدبي، تتجاوز القواعد الموضوعة سلفا، وتسعى إلى استكشاف وإبداع قواعد جديدة.. وربما تضع لكل عمل أدبي قواعده الخاصة به.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة