نستكمل مقالي عن ( بونابرت) الذي تسبب في انقطاع علاقتي بأستاذي لسنوات عدة وان لم يدم هذا ( الخصام) كشيمة الكبار اذ انتهى كل شيء مع احتجاجات السينمائيين المصريين على القانون ١٠٣ الذي كرس لعدم الاكتفاء بمدتين في اي رئاسة للنقابات الفنية والذي رأيناه تمهيد لتأبيد القيادات على كل المستويات في الوطن كله وسوف احكي في المقال القادم دور شاهين في الاحتجاجات وفي الاعتصام فيما بعد حيث عبر يوسف شاهين عن هذا الموقف بشكل أراه مختلفا في فيلم ( إسكندرية كمان وكمان ) ..
نستكمل : الفيلم لا يتقدم كثيرا سوى على محور العلاقة بين كافاريللي وعلي بعد موت يحيي العبثي بالألعاب النارية .. موتا ساذجا يتم التمهيد له دراميا بأبسط الأشكال الفنيه .. الحوار ..فناهد تقول له بعد فشل المنطاد: الفرنساوية كل ما يقعوا في مصيبه يضربوا صواريخ … فيذهب يحيي إلى مخزن الصواريخ ويموت بانفجاراتها !!!ويجد كافاريللي اخيرا سببا لمعاناته بموت( صفيه) الذي سرعان ما ينساه بل ويحاول ان يستبدله باخاه عوضا عنه فهو كثير الشبه به ولكن علي يرفض ان يساوم في ذلك من اجل إطلاق سراح أخيه ( بكر) وهويقول لكافاريللي : حتى لو أردت فلن أستطيع !! وفي نفس اللحظة يصيغ جمله تعبر عن تحليل بالغ الدقة للعلاقة مع كافاريللي .. تحليل مدهش لأنفهم كيف يهدره شاهين بعد ذلك بإصراره على صياغة شخصية علي بعيدا عن منطق نموها الدرامي انه يلجأ لما قرره ذاتيا ونفسيا ولا يلتفت لمنطق الشخصيه الي يطورها بالضرورة حدث الغزو الكبير فهو يقول لكافريللي في لحظة تنوير هائلة بعد ان اكتشف رغبته في استبدال أخيه به شخصيا : انها غرائزك.. في البدايه يحيي ثم أنا ثم الوطن كله .. اغتصاب ..!!
اذن يوسف شاهين يفهم طبيعة العلاقة ومنذ البداية فلم هذا إلاضطراب المتعمد في رسمها ولم يعود علي بعد هذا ( الكشف) إلى التعاطف مع الذي سعى (لاغتصابه) لدرجة ان يسافر إلى عكا لرؤيته قبل موته وما الذي يغير موقف ناهد الواضح تجاه كافاريللي فجأة حتى انها تقول لعلي : كفاية انه لايم نفسه على موت يحيي..!!!..تحت أسوار عكا كافاريللي في مرض الموت يحاسب بونابرت على جرائمه التي انتهت بفقدانه لذراعه !! كافاريللي الذي ذهب( تاريخيا)إلى عكا لدراسة كيفية اختراق حصونها وتدمير مقاومة اهلها يحاكم بونابرت الذي( أعماه غرور القوه) .. ويصل علي إلى عكا ( لا يقول لنا السيناريو كيف؟!) ليعلن لكافاريللي انه وناهد يحبانه وانه غير الآخرين وانه سيظل استاذه العظيم فيضحك الفرنسي قائلا ( ان حبكم للحرية سيصنع المعجزات) ويسلم الروح في مشهد شاعري بعد مصافحة علي يدا بيد ثم نرى بطلنا يسير في الصحراء حيث نسمع - من خارج السياق حقا-لحنا لسيد درويش .. أنا المصري كريم العنصرين …!! وهي بالمناسبة نهاية تختلف عن السيناريو الأصلي التي كانت تصور علي في طريق عودته من عكا وخلفه طواحين الهواء الي صنعها كافاريللي لخير المصريين مقدما إياها على الاستعداد للمعارك وإقامة الحصون ..!!
شخصية كافاريللي التي نراها في الفيلم هي شخصيه دراميه ليست هناك ضرورة حتميه في الالتزام بكل إطاراتها التاريخية التزاما دقيقا جامدا ولكن من ناحية أخرى الا يرتب اختيار شخصية بعينها بعض الالتزام بجوانب اساسيه لم يسقطها بعد التاريخ القريب .. كافاريللي الجنرال الموهوب في انشاء الحصون والقلاع وفي اختراق الدفاعات وفي ضرب اشكال المقاومة من الصعب ان يتحول إلى هذا الشخص الوديع الذي رأيناه في الفيلم انه يكذب كذبا صريحا بإنكاره إصدار أوامر خلع أبواب الحارات والبيوت ويقول ان ذلك تم لأسباب صحيه بينما يقول لنا نابليون نفسه من ( سانت هيلانه):'ان ضباط فرقة الهندسة بقيادة كافاريللي كانوا هدفا للشعب لانهم كانوا يتولون اقتلاع أبواب الدروب والحارات ونبش القبوروهدم البيوت وتحصين القلعة '…
اذن كان الشعب هو من حطم منزل كافاريللي وليسو جنود فرط الرمان كما يقول الفيلم !!إلا يحق لنا ان نتساءل لماذا اذن يتم اختيار شخصيه تاريخيه وراءها هذا الماضي .. يقول لنا الفيلم ان فكرة المعهد العلمي الفرنسي هي فكرة كافاريللي بينما لانجد لذلك اي تأكيد في كتب التاريخ كلها ..وهو يعترض في الفيلم على تدمير مسجد الكازروني الأثري بينما يقول لنا التاريخ انه شخصيا من اصدر الأوامر بهدمه ووضع المدافع فوق أطلالة ..اما شخصية بونابرت فهي تقدم لنا في الفيلم كشخصيه مبسطه على نحو مخل فهو يبدو كشخص تافه لا يفكر إلا في بروفات الخطب التي يضحك بها على قواده ومشاجراته الدائمة وبسط سيطرته على كل من حوله .. بدا بونابرت شخصيه كاريكاتورية تمثل استهانه معيبه به وبالمصريين الذين قاوموه بجانبيه العسكري و( الحضاري) معا .. اما المثلث المصري التقليدي الذي يقاوم المحتل الخارجي( المسلم والمسيحي واليهودي)اليس من الضروري ان يرتكز على أسس تاريخيه ؟!فنحن نجد صعوبة في قبول اشتراك اليهودي ( اسحق) على الاقل في ثورة القاهرة الاولى اذ لم تعرف القاهرة ديموغرافيا ولا تاريخيا اتحادا لليهود مع باقي المصريين ضد الحملة الفرنسية ويحق لنا ان نتساءل عن ضرورة اقحام الافكار المجردة والمكررة على سياق تاريخي لا يحتملها ولا يعترف بها ..وحادثة بيت القاضي التي كانت سببا مباشرا في تفجر ثورة القاهرة الاولى تأتي مخالفه -بشكل غريب- لرواية المراجع الفرنسية نفسها( مذكرات ريبو وتقرير نابليون لحكومة الديركتوار) ولرواية الجبرتي فلا حديث عن السلاح المخبأ في منزل القاضي ولاعن خيانته بل كان على العكس رجلا وقورا يحترمه الناس وله في نفوسهم مكانة ومنزلة ..اما مصرع الجنرال ( ديبوي)الذي تصفه كتب التاريخ وصفا دقيقا فقد قرر صناع الفيل قتله بالرصاص بدلاً من الرمح الذي يجسد كراهية المستعمر فتحول المشهد الى سقوط ديبوي صريعا برصاصة مجهولة في مشهد ردئ التنفيذ وكأنما أراد شاهين إلا يحمل المصريين عبء ( جريمة) قتل القائد الذي كان مصرعه الدامي مفجرا للثورة حيث ذاع خبر مقتل ديبوي في أنحاء المدينة كالبرق فحمي الثوار وامتلأوا حماسه وانحازت الجموع إلى صفوف الثورة متشجعين بهذا النصر الاول الذي ينسبه الفيلم إلى رصاصة مجهولة..!!يقول الجنرال دوجا وهو يخبرنا بحوادث الثورة' لقد نكلنا بالثائرين في مذبحة رهيبة فسادت السكينة مساء امس .. لقد قتلنا منهم ألفين او ثلاثة ' اما صانعو الفيلم فهم يقدمون مشهدا مؤثرا من ثورة القاهرة الاولى لمارسيل مسؤول المطيعة الفرنسية وهو يلقي بنفسه تحت ارجل الخيل التي اقتحمت الازهر دفاعا عن المخطوطات النادرة وهو يصرخ ملتاعا: همج .. همج..! وهو طبعا يقصد جنود فرنسا
هكذا…!!يخرج المتفرج مغادرا دار السينما إلى شوارع القاهرة ظمآنا كما دخلها .. بلا لحظة إشباع واحده .. محبطا إلى الأعماق .. وقد يرفع نظره إلى أفيش الفيلم ليري اسم المخرج الكبير وتتنازعه الذكريات الحلوة فيغالب طعم المرارة في حلقه … ويمضي .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة